قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2017-8-21
صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

فى الثالث من أغسطس الجارى (2017) اجتمع وزير الخارجية السعودى عادل الجبير بالهيئة العليا للمفاوضات السورية المعارضة برئاسة منسقها العام، رياض حجاب، فى مقرها بالعاصمة السعودية. الاجتماع قد يبدو اجتماعا روتينيا لتنسيق المواقف بين المملكة والهيئة، استعدادا للجولة الثامنة من مفاوضات جنيف المزمع عقدها فى سبتمبر المقبل، واستعدادا كذلك لمؤتمر "الرياض-2" فى مطلع أكتوبر القادم والخاص بإعادة هيكلة المعارضة السورية فى ضوء مستجدات الصراع السورى الدولية والإقليمية. إلا أن ما تم تداوله داخل الاجتماع بين الجبير والهيئة والتى طالبها، ووفقا لتصريحات رياض حجاب لوسائل الإعلام، بضرورة "الخروج برؤية جديدة تتماشى مع الوقائع على الأرض والوضع الدولى الجديد"، أخرج الاجتماع من كونه اجتماعا "روتينيا" عاديا إلى كونه اجتماعا "قد" يؤشر على  بداية "تحول استراتيجى" فى موقف المملكة تجاه المعارضة السورية، التى تمتعت بمساندة ودعم المملكة سياسيا وماديا طوال سنوات صراعها مع النظام السورى، والتى طالما أعلن وزير خارجيتها "أن الأسد سيرحل عاجلا أو آجلا، سلما أو حربا".

جدل الاعتراف ببقاء الأسد

وفقا لما أكده رياض حجاب، فإن الجبير حض الهيئة على ضرورة دراسة مستجدات الصراع بين المعارضة السورية والنظام خلال العام الماضى، فى إشارة ضمنية إلى إدراك الجبير لاختلال موازين القوى بين المعارضة والنظام لصالح الأخير. كما حثها على إعادة صياغة موقفها من التطورات التى تشير إلى تحول أولويات المجتمع الدولى، الذى لم يعد يشدد على رحيل الأسد فى المرحلة الانتقالية، مقابل ازدياد الاهتمام بملف محاربة الإرهاب؛ وبالتالى على الهيئة أن تعيد ترتيب خياراتها. وقد أشار حجاب أيضا إلى أن الجبير ألمح إلى "صعوبة استبعاد بشار الأسد من السلطة فى الوقت الحالى"، وأن على المعارضة إعادة صياغة موقفها من النظام على أساس البحث فى مدة بقاء الأسد فى المرحلة الانتقالية، وليس إزاحته من المشهد السياسى، وذلك  على اعتبار أن مجريات الأحداث تشير إلى أن هذا الاقتراح تجاوزته التطورات على أرض الواقع. هذا بالإضافة إلى مطالبة الجبير أيضا لهيئة المفاوضات بتقبل فكرة إعادة الهيكلة عبر توسيع وفد الهيئة ليضم معارضة موسكو والقاهرة خلال اجتماع الرياض- 2 القادم، وهى المنصات التى طالما عارضت الرياض نفسها ضمها لوفد الهيئة فى كافة جولات المفاوضات السابقة.  

الجدل الشديد الذى أثارته تصريحات الجبير مع الهيئة العليا للمفاوضات السورية المعارضة، دفعت وزارة الخارجية السعودية إلى إصدار بيان أكدت فيه أن تصريحات الجبير فُهمت على سبيل الخطأ. "وأن ما نُسب إليه غير دقيق، وأن موقف المملكة من الأزمة السورية ثابت، وأنها تلتزم بمبادئ إعلان جنيف -1، وقرار مجلس الأمن الدولى 2254، الذى ينص على تشكيل هيئة انتقالية للحكم تتولى إدارة شئون البلاد وصياغة دستور جديد لسوريا، والتحضير لانتخابات لوضع مستقبل جديد لسوريا لا مكان فيه لبشار الأسد". وبالرغم من أن هذا البيان حاول التعتيم على أى تغيير قد يلوح فى أفق الموقف السعودى من بقاء أو رحيل بشار الأسد، إلا أن قراءة متأنية لتفاعلات المملكة سياسيا مع مسار الأحداث فى الأزمة ومع المعارضة السورية مؤخرا، قد تشير إلى صحة ما تداوله الاجتماع بين الجبير وبين الهيئة.

مطالبة الرياض للهيئة بتوسيع قاعدة المشاركة والقرار لتضم منصتى موسكو والقاهرة تشير إلى مسلك القبول ببقاء بشار الأسد خلال المرحلة الانتقالية؛ لأن تلك المنصات تضم عددا من الشخصيات السورية التى تقبل تماما بفكرة بقاء الأسد والتنسيق معه خلال مرحلة انتقالية، والانخراط فى العملية السياسية من دون شروط مسبقة، على أن يتم فى المرحلة نفسها تحديد صلاحياته وتفويض جزءا منها للهيئة الانتقالية المزمع تشكيلها. كما تشير بعض الشخصيات المنضوية فى هيئة المفاوضات إلى أن اجتماع "الرياض -2" قد يحمل مبادئ توافقية جديدة مختلفة عن مقررات اجتماع "الرياض- 1" الذى عقد فى ديسمبر 2015، والذي أكد على رحيل الأسد قبل بدء المرحلة الانتقالية، وأن هذه المبادئ قد تتضمن تنازلات من جانب المعارضة عن هذا المطلب تحديدا لإتاحة المجال أمام المعارضة المسلحة للتركيز على قتال تنظيم الدولة "داعش" بدلا من مواجهة النظام، لاسيما بعد إقرار موسكو لخطة خفض التصعيد العسكرى بين النظام والمعارضة فى العديد من المحافظات السورية. هذه التنازلات من المتوقع أن تضغط فى اتجاهها القوى الدولية بناء على تفاهمات بينية تمهيدا لحل سياسى للأزمة، فى إشارة إلى تفاهمات روسية- أمريكية- أوروبية محتملة فى هذا الشأن.

فى هذا السياق أيضا، رفض رياض حجاب فكرة توسيع قاعدة المشاركة والقرار داخل الهيئة من خلال ضم منصتى موسكو والقاهرة، بل هناك من يشير إلى رفضه مضامين مطالبة الجبير للهيئة بشأن الموقف من بشار الأسد. ويدلل على ذلك التصور بموقفين: الأول، تلويح رياض حجاب بالاستقالة من منصبه كمنسق لهيئة المفاوضات السورية العليا المعارضة - بذريعة ظروف صحية صعبة- كنوع من الاعتراض على ما اعتبره مؤشر على تغيير موقف الرياض من نظام الأسد. والثانى، موقف مضاد من قبل وزير الخارجية السعودى الذى اعتذر عن لقاء يجمعه بوفد الائتلاف السورى المعارض، ووفد من الحكومة السورية المؤقتة فى 9 أغسطس الجارى (2017) بالرياض، لمناقشة التطورات السياسية والميدانية فى سوريا. حيث اجتمعت تلك الوفود مع وكيل وزارة الخارجية بدلا من الجبير نفسه، ما يشير إلى غضبه من إفشاء مضامين المناقشات التى تمت بينه وبين وفد الهيئة وتناقلتها وسائل الإعلام عبر تصريحات رياض حجاب.

لماذا الآن؟

المعطيات السابقة تطرح هنا تساؤلا جديرا بالمناقشة وهو لماذا الآن؟ أي لماذا أصبح الموقف السعودى من بقاء بشار الأسد غامضا بعد سنوات من ثباته على ضرورة رحيله، إما عبر حل سياسى أو عبر الحل العسكرى كما كانت تؤكد التصريحات الرسمية لمسئوليها؟ ملخص الإجابة على هذا التساؤل يشير إلى مجمل مستجدات الصراع السورى على الساحتين السورية والإقليمية / الدولية المتعلقة بتغير خرائط النفوذ السياسية بين النظام والمعارضة نتيجة لتغيرات الوضع الميدانى لصالح الأول، وما ترتب على ذلك من تغيرات فى مواقف القوى الدولية والإقليمية المعنية بالصراع. وهى المواقف التى ركزت على محاربة تنظيم الدولة "داعش" وغيره من التنظيمات التى تم تصنيفها على أنها إرهابية من بين فصائل المعارضة المسلحة، كأولوية تسبق فكرة مواجهة النظام أو فكرة تغييره.

هذا ناهيك عن تغيرات تتعلق بتحالفات السعودية سواء المتعلقة بالأزمة فى اليمن، واشتداد وطأة الضغوط الدولية عليها واتهامها بالمسئولية عن تدهور الأوضاع هناك. أو تلك المتعلقة بالأزمة مع قطر ودلالاتها على موقفيهما كدولتين وفرتا المظلة الرئيسية للمعارضة السورية طوال سنوات صراعها مع النظام. فضلا عن معطيات التقارب مع مصر فى الملف السورى بالرغم من تناقض موقفيهما من نظام بشار الأسد. حيث تمكنت مصر من المشاركة (الوساطة) فى عقد هدنة فى الغوطة الشرقية بدمشق وفى ريف حمص الشمالى خلال أواخر يوليو الماضى، فى إطار مساعى روسيا لتوسيع نطاق مبادرة تخفيض التصعيد بين النظام والمعارضة فى عدد من بؤر المواجهة الساخنة بينهما. هذا الدور المصرى الجديد دفعت به الرياض التى تتعارض سياساتها فى سوريا مع روسيا، التى تتمتع بدورها بعلاقات متميزة مع مصر، مما وفر للأخيرة هامش حركة مكنها من انجاز اتفاقين للهدنة فى المنطقة المذكورة. ويمكن تفسير الموقف السعودى هنا (الدفع بمصر فى الملف السورى) بعلاقة المملكة بالفصائل السورية المعارضة المتواجد فى الغوطة الشرقية، والتى تخضع لسيطرة جيش الإسلام المدعوم من قبل الرياض.

أضف إلى ذلك ما تفرضه حالة السجال الروسى- الأمريكى فى سوريا من تفاهم وتنسيق أحيانا، وانتقادات وحربا كلامية وإعلامية أحيانا أخرى. ومع تزايد حظوظ التوصل إلى تفاهمات تنسيقية بين واشنطن وموسكو فى سوريا، أو ما يطلق عليه البعض"تحالفات الضرورة" أو "تحالفات الأمر الواقع" بين الطرفين، أصبحت الرياض فى حاجة إلى إعادة رسم سياساتها ليس تجاه المعارضة السورية فقط، ولكن أيضا تجاه مجمل الصراع السورى. ومن هذا المنطلق وجدت الرياض أن بإمكانها إقناع روسيا والولايات المتحدة بمعادلة جديدة تقوم على "احتمال" تغيير الرياض لموقفها من نظام بشار الأسد، أو على أقل تقدير القبول به خلال المرحلة الانتقالية، مقابل أن تقوم روسيا بالتخلى عن الحليف الإيرانى فى سوريا، أو "تحجيم نفوذه" وإبعاده من معادلة التسوية القادمة، والتى يجب أن تكون مقبولة سعوديا. هنا يلاحظ أن الرياض "قد" تضطر إلى التقارب مع روسيا بشأن الصراع السورى على غرار ما قامت به تركيا منذ نهاية العام الماضى، لاسيما بعد استيضاح الموقف الأمريكى من الصراع والذى "اعترف"- وبعد ثمانية أشهر من تدخله عسكريا فى سوريا لمحاربة تنظيم الدولة - بأهمية روسيا ومحورية دورها فى الصراع والحل معا.   

هذا فضلا عن بروز أحمد الجربا رئيس تيار الغد السورى والرئيس الأسبق للائتلاف السورى المعارض على ساحة المشهد السياسى للأزمة السورية خلال الأسابيع الماضية، وهو الشخصية التى تحظى بدعم وتأييد سعودى- مصرى- إماراتى مشترك. وترجع أهمية ظهوره مؤخرا إلى تصريحاته التى أكد فيها أن تطبيق مناطق خفض التصعيد وتخفيف الصراع الروسية أصبحت "هدفا مقبولا" من قبل العديد من فصائل المعارضة السورية، وأن عملية وقف إطلاق النار لن تكون ذات جدوى إلا إذا شاركت فيها كافة قوى المعارضة. وهو ما يتعارض مع موقف الأخيرة التى رفضت فيه مبادرة خفض التوتر الروسية المذكورة، ورفضت تطبيقها فى عدد من المناطق على اعتبار أنها تتم برعاية روسية وضمانة إيرانية وتصب فى صالح النظام.

وتشير معظم المؤشرات السياسية والميدانية إلى نجاعة الاستراتيجية الروسية فى سوريا الثابتة على موقفها من الصراع ومن بقاء نظام الأسد. وأن التنازلات التى ستقدمها للمعارضة فى شأن النظام لن تتعدى مجرد إجراء تغيرات شكلية فى بنيته وفى بعض المناصب؛ خاصة فى المؤسسات الأمنية، مع وضع المخاوف السعودية من نفوذ إيران داخل سوريا مستقبلا موضع الاهتمام، لاسيما بعد أن نجحت فى تحييد موقف تركيا من الصراع السورى وجعلته قاصرا على مخاوف الأخيرة من قيام كيان كردى سورى على حدودها الجنوبية؛ فسمحت لها بمقتضى ذلك بشن عملية درع الفرات العسكرية فى شمال سوريا، كما عقدت معها صفقة الـ "S400"، والتى يعنى عقدها أن تركيا قبلت وستقبل مقترحات روسيا بشأن الصراع السورى خلال المرحلة القادمة. هذا بالإضافة إلى نجاحها أيضا فى ممارسة دبلوماسية الاقناع التى قام بها وزير خارجيتها المخضرم سيرجى لافروف لدى عدد من الدول العربية، التى من خلالها قبلت بعضها بفكرة بقاء الأسد فى منصبه لمرحلة مؤقتة من باب كونه الضمانة لبقاء سوريا موحدة، وهو ما ترفضه المعارضة وتحديدا معارضة الرياض (الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف السورى)، التى ترى بأن مؤسسات الدولة السورية لن تنهار فى حالة رحيل الرئيس السورى؛ لأن بإمكان روسيا حمله على تفويض سلطاته لنائبه لإدارة شئون البلاد.   

فى النهاية يمكن القول إن فكرة إزاحة الأسد من المشهد السياسى السورى، ومن مسار التسويات القادمة قد تراجعت إقليميا ودوليا، وأن ثمة مؤشرات تقول بأن دائرة القبول ببقاء بشار الأسد آخذة فى الاتساع لتشمل دولا كانت ترى ضرورة فى رحيله هو ونظامه كتركيا والسعودية حاليا. كما أن إعادة إنتاج نظام الأسد وموافقة دول كانت رافضة لبقائه لا تنفصل عن الترتيبات التى ستشهدها المنطقة العربية خلال المرحلة القادمة، وتحديدا مرحلة ما بعد القضاء على "داعش" فى العراق وسوريا، والتى تتمحور فيما يسميه البعض بـ"إعادة إنتاج النظام العربى الرسمى" بنظم وحكومات مدنية معتدلة عبر توافقات عربية أمريكية روسية. ووفقا لذلك لم يعد أمام المعارضة السورية - التى لا يزال يتمسك بعضها بفكرة رحيل النظام – سوى خيار واحد وهو تعديل مطالبها بشأن التسوية، والجنوح مضطرة للقبول ببقاء بشار الأسد خلال المرحلة الانتقالية، التى سيتم تدشينها فى أعقاب التوصل لحل إقليمى دولى سياسى للأزمة السورية.