على الرغم من إعلان المجلس الوزاري المصغر في إسرائيل - المسئول عن اتخاذ القرارات الأمنية - موافقته على قرار رئيس الحكومة بنيامين ناتانياهو بإزالة البوابات الإلكترونية التي كانت السلطات الإسرائيلية قد وضعتها على المداخل المؤدية للمسجد الأقصى، إلا أن الأزمة التي اندلعت جراء قرار وضع البوابات تحولت إلى عدة أزمات لم يعد قرار تفكيكها (البوابات) كافيًا لمعالجتها. فبدءًا من رفع الفلسطينيين لسقف مطالبهم برفض الإجراء البديل والذي قدمته حكومة ناتانياهو باستبدال البوابات بكاميرات ذكية، ومرورًا بنشوب نزاع داخل الائتلاف الحاكم بسبب ما أسمته أحزاب اليمين المتطرف بالتراجع من جانب الحكومة عن قرار ما يزال له ضروراته الأمنية، وأيضًا توتر العلاقات مع الأردن وعرب إسرائيل على خلفية تداعيات أحداث الأقصى، وانتهاءً بأزمة مكتومة قد تتدحرج ككرة الثلج في أوساط الطائفة الدرزية التي قتل اثنان من أبنائها في العملية التي تسببت في قرار ناتانياهو بمنع الصلاة في المسجد الأقصى حتى يتم وضع الإجراءات الأمنية المناسبة .... مع كل هذه التداعيات يبدو من الصعب على إسرائيل وضع السيناريوهات الملائمة لمعالجة كل هذه الأزمات المتشابكة. وسوف نحاول في هذا المقال تفصيل هذه الأزمات والتداخلات المعقدة فيما بينها.
أولًا: الخوف من تصعيد المواجهات مع الفلسطينيين
لأسباب عدة تعتقد إسرائيل أن سلطة أبو مازن في رام الله، وسلطة حماس في غزة، يسعيان للدخول في صدام معها على أمل أن يعيد هذا الصدام القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات الإقليمية والدولية، بعد أن توارت منذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي منذ أواخر عام ٢٠١٠. ورغم أن سلطة أبو مازن تفكر في أن يكون مثل هذا التصعيد ورقة ضغط لفتح مسار التسوية المتوقف منذ عدة سنوات، على العكس من سلطة حماس في غزة التي تسعى لاستغلال مثل هذا التصعيد لإفساد أي محاولة من جانب أبو مازن لاستئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، إلا أن كلا الطرفين في النهاية لهما مصلحة في هذا التصعيد حتى ولو كان ضبطه وفقًا لأهداف كليهما لا يبدو أمرًا مضمونًا أو سهلًا.
بمعنى أكثر وضوحًا، إن أي تصعيد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي سيعني مزيدًا من سقوط القتلى من الجانبين، ومزيدًا من تظاهرات الاحتجاج ضد السياسة الإسرائيلية، قد تتمدد إلى عواصم عالمية مؤثرة، لتضغط على صناع القرار بها لإيقاف الإجراءات الأمنية الإسرائيلية. فضلًا عن أن مثل هذه الاحتجاجات تتسبب في إحياء محاولات أطراف عدة لنزع شرعية الدولة العبرية، وهي المحاولات التي تعتبرها إسرائيل الأكثر خطرًا على بقائها وعلى قدرتها على التوسع في سياساتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ثانيًا: مخاطر على تماسك الائتلاف الحاكم
لا يتمتع الائتلاف الذي يقوده ناتانياهو باستقرار حقيقي، ففضلًا عن أنه ائتلاف ضيق مدعوم بـ ٦٨ نائبًا في الكنيست، إلا أن الصقور داخل حزب الليكود، والأحزاب المؤيدة للاستيطان مثل حزب البيت اليهودي، وحزب "إسرائيل بيتينو" يمكن لها أن تضع قيودًا على حركة ناتانياهو الذي يسعى لوقف التصعيد مع الفلسطينيين. ففي أعقاب تراجع المجلس الوزاري المصغر عن نشر البوابات أظهر نفتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي، أيليت شاكيد (وزيرة العدل– من حزب البيت اليهودي)، وزئيف إلكين (وزير الهجرة والاستيعاب –من حزب الليكود) معارضتهم إزالة البوابات الإلكترونية والكاميرات بحجة أنه لن تكون في ساحة المسجد الأقصى أية وسائل تفتيش أمنية حتى نصب الوسائل الجديدة، خاصة أن تقديرات الخبراء الأمنيين أن تركيب هذه الكاميرات سيستغرق عاما ونصف العام،وسيكلف ميزانية الدولة قرابة 100 مليون شيكل.
ورغم أنه من غير المنتظر أن تتسبب هذه الخلافات في تفكيك الائتلاف، نظرًا لما يبديه الرأي العام الإسرائيلي من رفض الذهاب إلى انتخابات مبكرة، إلا أن الأحزاب المؤيدة للاستيطان يمكن أن تمارس ابتزازًا لناتانياهو لحمله على تقديم تنازلات لها في ملفات أخرى، خاصة ملف دعم الاستيطان. على الجانب الآخر، لا يريد ناتانياهو الذي يروج أنه السياسي الإسرائيلي الوحيد القادر على الحفاظ على أمن إسرائيل ومواجهة تطلعات الفلسطينيين، أن يفقد ثقة الرأي العام به في هذا الجانب على وجه الخصوص، خاصة أن استطلاعًا أجرته القناة الثانية الإسرائيلية مؤخرًا قد أظهر أن 77% من الإسرائيليين يرون أن قرار ناتانياهو بتفكيك البوابات الإليكترونية يشكل تراجعًا مخجلًا، فيما رأي 67% أن ناتانياهو أدار الأزمة بشكل سيئ. ويدرك ناتانياهو أن خصومه ومنافسيه قد يتخذون من طريقة تعامله مع هذه القضية وسيلة للتشكيك في جدارته السياسية، وقد يشجع بعضهم، سواء من داخل الليكود أو من الأحزاب الشريكة في الائتلاف، على المضي قدمًا في محاولات إزاحته من الليكود ومن الحكومة في أي انتخابات مقبلة.
ثالثًا: توتر العلاقات الأردنية – الإسرائيلية
على الرغم من أن إسرائيل تبذل جهدًا كبيرًا للحفاظ على العلاقات الرسمية التي تقيمها مع بلدان عربية وإسلامية قليلة، خاصة مصر والأردن وتركيا، إلا أنها تدرك مدى صعوبة ذلك كلما اندلعت مواجهات بينها وبين الفلسطينيين على خلفية سياستها الأمنية والاستيطانية، وأيضًا بسبب تعنتها في استئناف مسيرة التسوية مع السلطة الفلسطينية. وقد تسببت أزمة البوابات في تلقي إسرائيل إدانات قوية من جانب مصر وتركيا، ولكن تداعيات الأزمة كانت أكثر خطورة على العلاقات ألأردنية– الإسرائيلية بعد مصرع مواطنين أردنيين على يد حارس إسرائيلي في سفارتها بالعاصمة الأردنية عمان. وقد سبب الحادث حرجًا للسلطات الأردنية أمام الرأي العام الأردني الذي اتهم حكومته بأنها فرطت في سيادتها وحقوق مواطنيها عندما صرحت لمرتكب الحادثة بالعودة إلى إسرائيل بعد إجراء تحقيق شكلي معه. ولم يكن مقنعًا بالنسبة للأردنيين أن يكون ثمن الإفراج عن مرتكب الحادث هو تنازل إسرائيل عن نصب البوابات حول المسجد الأقصى، خاصة إن إسرائيل التفت على هذا الإجراء بالشروع في نصب كاميرات ذكية ستعيق حرية المصلين في التوجه للمسجد الأقصى بنفس الطريقة التي كانت ستعيقها البوابات الإلكترونية. ويدرك ناتانياهو أن ضغوط الرأي العام الأردني قد تدفع الملك عبد الله إلى التشدد ورفض استبدال البوابات بكاميرات ذكية، مما سيؤدي حتمًا إلى استمرار التظاهرات من جانب الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية وغزة أو في المناطق التي يقطنها عرب إسرائيل في الداخل، الأمر الذي ينذر بتكرار الصدامات خاصة في أيام الجمعة التي يحتشد فيها الفلسطينيون للصلاة في المسجد الأقصى. وتخشي إسرائيل أن تتدهور الأوضاع إلى حد نشوب انتفاضة فلسطينية واسعة يدعمها رأي عام عربي وإسلامي وعالمي، يزيد من توتر علاقتها الخارجية، وينذر بقطيعة محتملة للعلاقات مع الأردن على وجه الخصوص.
رابعًا: تأثير الأزمة على العلاقات مع عرب 48
أعادت أزمة البوابات الأخيرة للذاكرة الإسرائيلية الأحداث المماثلة التي بدأت في 28 سبتمبر عام 2000 على خلفية زيارة رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون لساحة المسجد الأقصى، والتي استفزت الفلسطينيين خاصة مع فشل مؤتمر كامب ديفيد 2 الذي كانت تحاول الإدارة الأمريكية (إدارة الرئيس بيل كلينتون) حينها المساعدة على التوصل إلى اتفاق سلام نهائي بين الفلسطينيين وإسرائيل. في أعقاب الزيارة المشار إليها اندلعت مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين وإسرائيل امتدت حتى عام 2004 وتسببت في مقتل وجرح آلاف الإسرائيليين والفلسطينيين. وقد شارك عرب 48 في دعم هذه الانتفاضة بالدخول في مواجهات مع الشرطة الإسرائيلية أدت إلى مقتل ثلاثة عشر مواطنًا منهم، وأنهت أي فرصة لعودة الثقة بين عرب الداخل واليهود حتى يومنا هذا.
ومما لا شك فيه أن ناتانياهو لا يريد فتح جبهة أخرى في الداخل بين عرب إسرائيل وبين السلطات الأمنية هناك على خلفية الأحداث الأخيرة، خاصة أن هذه الأحداث قد بدأت في الأصل بمصرع جنديين إسرائيليين على يد ثلاثة مهاجمين ينتمون إلى عرب 48، ولم يكن لهم أي سجل أمني أو نشاط سياسي معروف قبل إقدامهم على ارتكاب الحادثة المشار إليها، مما يعز من مخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من نمو توجهات عنيفة بين عرب الداخل في حالة استمرار المواجهات مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وتدرك إسرائيل أن المشاعر السلبية التي نمت في السنوات الأخيرة في أوساط هذه الفئة تجاه الدولة العبرية، بسبب إصرار ناتانياهو على أن يكون الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية شرط ضروري لأي تسوية محتملة للصراع بين الطرفين ... تدرك إسرائيل أن عرب الداخل يرون أنهم المستهدفون بهذا الشرط أكثر من استهدافه (أي هذا الشرط) للفلسطينيين في الأراضي المحتلة. إذ يبقى المطلب الدائم والأهم لعرب 48 هو الاعتراف بهويتهم القومية كجزء من الوطن الفلسطيني الأم ومن دولة إسرائيل التي ينبغي أن تصبح -بعد التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين – دولة كل مواطنيها (يهود وعرب) وليس دولة الشعب اليهودي وحده كما يريد الإسرائيليون.
جانب آخر يبدو مهمًا، هو تأثير أحداث القدس الأخيرة على العلاقات بين الدولة العبرية وبين المواطنين الإسرائيليين المنتمين للطائفة الدرزية مستقبلًا. إذ يخدم أبناء هذه الطائفة في الجيش الإسرائيلي منذ عام 1956، ورغم ذلك ينظر المجتمع الإسرائيلي إليهم على أنهم جزء من المجتمع العربي، فيما ينظر عرب الداخل إليهم على أنهم فئة منفصلة عنهم بسبب خدمتهم في الجيش الإسرائيلي. كما أن أغلب أبناء الطائفة يتم تجنيدهم في سلاح الحدود الإسرائيلي بما يعرضهم لاحتكاكات أكبر مع الفلسطينيين في القدس والأراضي المحتلة (كان الجنديان اللذان قتلا في ساحة الأقصى مؤخرًا من المنتمين لهذه الطائفة). وقد سبق لقيادات الطائفة الاحتجاج على سياسة إسرائيل الساعية إلى زيادة التوتر بينها وبين عرب الداخل، ليس فقط بدفع أبنائها للخدمة في جبهات مفتوحة مع الفلسطينيين، بل أيضًا بتسريب تقارير تبرئ الجنود اليهود من قتل الفلسطينيين وتحميل المسئولية للجنود المنتمين لهذه الطائفة، وهو ما حدث من قبل عندما سرب جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" عام 2004 تقريرًا يزعم أن معظم قتلى الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى (1987) جاء على يد جنود إسرائيليين من الطائفة الدرزية. بمعنى أكثر وضوحًا، قد يزيد مقتل جنديين إسرائيليين من الدروز على يد مهاجمين مسلمين في القدس من حدة التوترات سواء بين الطائفة والفئات العربية – الإسرائيلية، أو بين الطائفة والحكومة الإسرائيلية بسبب عدم اعتنائها بأبناء الطائفة الذين يخدمون في جيش الدفاع الإسرائيلي،وتركهم يتعرضون لمخاطر أكبر في جبهات مفتوحة مع الفلسطينيين، وأيضًا بتعمد إفساد العلاقة بين الدروز وعرب إسرائيل.
خامسًا: سيناريوهات الخروج من الأزمة
لا يمتلك ناتانياهو فرصة كبيرة للخروج من الأزمة، أو الأزمات المتعددة التي خلقتها أحداث الأقصى الأخيرة، فكل قرار سوف يتخذه لحل أحد الأزمات السابقة سيقود إلى تزايد حدة الأزمات الأخرى؛ فحفاظ ناتانياهو على مكانته السياسية وعلى الائتلاف الحاكم يقتضي التشدد وعدم الاستجابة لمطلب عودة الأمور في ساحة الأقصى إلى ما كانت عليه قبل الحادث الذي قاد لتفجر الصدام مع الفلسطينيين، الأمر الذي سيؤدي إلى احتمال توسيع المصادمات وتحويلها إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة. ومن شأن هذا السيناريو أن يزيد من توتر العلاقات بين إسرائيل وكل من مصر والأردن وتركيا، وقد يتطور الأمر إلى عزلة عالمية تستغلها المنظمات غير الحكومية المؤيدة للفلسطينيين لشن حملة جديدة لنزع شرعية الدولة العبرية. ولا يستبعد أيضًا أن يتأثر عرب الداخل بانسداد أفق الحل، لتتزايد في أوساطهم العناصر المستعدة لتنفيذ عمليات عدائية ضد أجهزة الأمن الإسرائيلية.وقد يشعر الدروز بخطورة دخولهم في مواجهة مع عرب الداخل بسبب خدمة أبنائهم في الجيش، ومن ثم قد تظهر حركات تمرد من جانب الجنود الدروز يرفضون من خلالها المشاركة في قمع الانتفاضة الفلسطينية المحتملة. في مثل هذا الوضع سيفضل ناتانياهو إدارة الأزمة وليس حلها، وقد يسعى إلى طلب العون من مصر والأردن وتركيا للضغط على السلطة الفلسطينية وحركة حماس لحصر الأزمة في نطاق يسمح بعودة حرية الصلاة في المسجد الأقصى مع نشر كاميرات المراقبة الإسرائيلية في عدد محدود من المواقع حول المسجد في البداية، وإطالة الفترة الزمنية اللازمة للانتهاء من نشرها بشكل كامل في محيط المسجد على أمل أن يخفض ذلك من غضب الفلسطينيين ويمنع نشوب انتفاضة ثالثة.