محمد جمعة

باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تطورات الأحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية أعادت قطاع غزة إلى الواجهة من جديد.لا سيما مع كثرة الحديث عن "تفاهمات"، قيل إنه قد جرى التوافق بشأنها، بين كل من مصر وحركة حماس، من ناحية، وبين حماس والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني محمد دحلان، من ناحية أخرى.

خلال تلك الفترة، كانت القاهرة قد استقبلت وفدين كبيرين من حركة حماس، استغرقت مهمة كل منهما أكثر من أسبوع كامل من المحادثات، وهو ما عزز انطباعات الكثيرين بأن هناك جديدًا ما يجري الترتيب له، وأن هذا الجديد ربما سيفضي إلى إعادة تشكيل المجال العام في غزة وحولها، أو يغير من قواعد اللعبة هناك.

لكن ما يسترعي الانتباه هنا أن بعض الأطراف الفلسطينية المحسوبة على توجهات بعينها، ربما تعمدت المبالغة في طبيعة هذه "التفاهمات" وما تضمنته، وحدود التزامات كل طرف، وأيضًا المهام الموكله إليه بموجب هذه التفاهمات. حتى إن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية تلقفت بالفعل تلك المبالغات، وراحت بدورها تتناولها بالتحليل والتقييم. من ذلك على سبيل المثال، ما قيل بشأن المهام الموكلة لمحمد دحلان، وأنه سيكون رئيس وزراء "حكومة غزة". المبالغة هنا لا تتعلق فقط بعبارة "حكومة غزة" وما تثيره من إشكاليات كبيرة، أو تحفظات عليها من قبل أطراف عديدة، ولكن أيضًا لأن عودة دحلان إلى قطاع غزة أمر مقطوع بعدم حدوثه، على الأقل في الوقت الراهن. وإن كنا هنا لا ننفي أنه يجري الآن بالفعل الإعداد لعودة سمير المشهراوي –الذراع الأيمن لدحلان– إلى غزة خلال الأيام القليلة القادمة.

ما الذي تتضمنته التفاهمات؟

ربما أبرز البنود التي احتلت مساحة من الجدل حول تلك التفاهمات بين حماس ودحلان، ما قيل إن وزارة الداخلية وملف الأمن في غزة سيبقى بالكامل في يد حركة حماس التي ستحتفظ بكامل سلاحها. فيما سيتولى دحلان مهمة حشد التمويل والدعم الدبلوماسي والسياسي للحالة الجديدة في القطاع. أيضًا قيل إن لجنة مشتركة بين حماس ودحلان هي التي ستتولى إدارة معبر رفح البري، فيما يشرف فريق خاص تابع لدحلان على المعابر الإسرائيلية مع القطاع.

وفيما يتعلق بحركة الأفراد والبضائع على معبر رفح، أشير في سياق هذا الجدل أن مصر وعدت بفتح المعبر على مدار الساعة وفقًا لاتفاق عام 2005. وأنها وعدت أيضًا باستمرار السماح بإدخال كميات كبيرة من زيت الديزل إلى داخل غزة، للتخفيف من أزمة الكهرباء، مع العمل في المستقبل على تحسين وضع الكهرباء بشكل عام هناك.

ما الذي تعنيه هذه التفاهمات؟

بالطبع لسنا معنيين هنا بتناول كافة أبعاد تلك التفاهمات تفصيليًا، لكن ما هو جدير-من وجهة نظرنا-  بلفت الانتباه إليه، يتمثل فيما يلي:

أولًا، بالنظر إلى الحسابات المتعلقة بـــ"الصراع الفلسطيني– الفلسطيني" يمكن القول إن التفاهمات بين حماس ودحلان ستقلل -في حال التطبيق– من قيمة كل الإجراءات التي اتخذها الرئيس أبومازن مؤخرًا تجاه "سلطة حماس" في غزة، والتي استهدفت الضغط عليها ودفعها إلى إنهاء سيطرتها على القطاع. والتي كان آخرها قرار الحكومة الفلسطينية في رام الله، في الرابع من يوليو 2017، بإحالة 6145 موظفًا في قطاع غزة إلى التقاعد المبكر. بل إن تلك التفاهمات لا تشكل مخرجًا لحماس من أزماتها الراهنة فقط، ولكنها تعزز أيضًا من وضعها كقوة حاكمة في غزة، وكقوة إقليمية ذات تأثير وقدرة على المناورة.

وفي السياق ذاته، فإن هذه التفاهمات تشكل فرصة أيضًا لــتيار دحلان داخل حركة فتح، كي يعزز من أوضاعه، خاصة أن مخرجات المؤتمر السابع لحركة فتح، في نوفمبر2016، هشمت وضع "جماعة دحلان" وقذفت بهم بعيدًا عن قلب المشهد. وربما تعزز هذه التفاهمات من مكانة دحلان كمنافس محتمل لعباس على رئاسة السلطة الفلسطينية، أو تبقيه -على الأقل- كرقم صعب في معركة انتقال قيادة السلطة.

إجمالًا، إن هذه التفاهمات تعكس تلاقيًا فريدًا في المصالح بين حماس ومحمد دحلان، وبشروط أفضل لمصر، كون هذا التلاقي أدى إلى انخفاض كبير في احتمالات وقوع حرب جديدة في غزة هذا الصيف. كما لا توجد رغبة لدى القاهرة في اندلاع تلك المواجهة التي ستفضي إلى مزيد من تدهور الوضع الأمني في شبه جزيرة سيناء.

كذلك تضمنت تلك التفاهمات التزامات على حماس، ووعود من جانبها، تتعلق بالتعاون ضد عناصر السلفية الجهادية وتحركاتها بطول خط الحدود بين مصر وغزة، خاصة في تلك المنطقة الواقعة بين شرق معبر رفح، وحتى معبر كرم أبوسالم. وقبل هذا وذاك تنسجم هذه الخطوة مع المواءمات المصرية تجاه متطلبات الحفاظ على علاقاتها مع حلفائها في الخليج، وتلبي بعض حاجات تلك الأطراف ضمن شروط المواجهة الفعالة مع قطر. فضلًا عن أنها تعزز من الدور المصري على صعيد الملف الفلسطيني، وتمنحه فرصة امتلاك زمام المبادرة، في مواجهة ممارسات أطراف إقليمية (قطر بالأساس، وتركيا بدرجة أقل) لطالما أثرت بالسلب في هذا الملف، سواء بحسابات المصلحة المصرية، أو حتى بحسابات المشروع الوطني الفلسطيني.

ثانيًا، وبالمقابل، يتعين لفت الانتباه إلى أن الأطراف المنخرطه في تلك التفاهمات لا يمكنها أن تلتقي استراتيجيًا مع بعضها البعض، لأن ما يفرق بينها أكبر بكثير مما يجمعها. وبالتالي فإن انخراطها في تفاهمات بينية لا يمكن أن تكون أكثر من مناورة (حتى ولو كانت من العيار الثقيل) لحسابات وأهداف مختلفة، ومن منطلقات متباينة أيضًا. مثل هذه المناورة لا يمكنها أن تفرز سوى ترتيبات مؤقته، كونها ليست أكثر من ممر إجباري لأطرافها. وسرعان ما سيسعى كل طرف إلى توظيفها لصالحه ووفقًا لحساباته السياسية وتوجهاته الاستراتيجية. أو ربما الانقلاب عليها، حال انقضاء حاجاته الظرفية التي سعى لتحصيلها.

وفي حالتنا هذه، من المستبعد أن يستمر التعاون بين حماس ودحلان. صحيح أن مصالحهما قد تتداخل أحيانًا كما حصل هنا. لكن بالمقابل هناك الكثير من العوامل التي تمنع تحول هذا النوع من الخطوات التعاونية إلى شراكة كاملة؛ فالأهداف النهائية للجانبين متضاربة من حيث المبدأ، إذ يسعى كل منهما إلى الهيمنة، ليس على غزة فقط، ولكن على المستوى الوطني الفلسطيني في النهاية. وهنا فإن حماس بالذات لا يمكنها أن تطمئن إلى تفاهماتها مع دحلان، بل ستخشى دائمًا من تزايد تأثيره، ومن الصدام المحتمل القادم معه.

بالإضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن يجلس أبومازن مكتوف الأيدي، حيث ستواجه سلطته تحديًا شديدًا من جانب هذا التلاقي المؤقت. وقد أثبت أبو مازن خلال الفترة الماضية مهارة وقدرة ملحوظة على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية على السواء، كما أن المصلحة القوية لإدارة ترامب في إحياء عملية السلام تبعث في نفسه شعورًا بالثقة.

أما في السياق الإقليمي الأوسع، فبينما سترحّب عواصم خليجية بالتطورات التي ستحل محل الدور القطري في غزة، إلا أن تلك العواصم معادية بشدة لمشروع حماس، ومن غير المرجح أن توافق على أي ترتيبات طويلة الأجل من شأنها أن تترك حماس مسئولة عن القطاع. فضلًا عن أن القاهرة لا ترغب في أن يجري تقديم حماس بوصفها السلطة السيادية في القطاع، حتى لا تعمد الحركة إلى تجاوز التفاوض على مسائل أمنية، كما هو الحال اليوم، للتفاوض على اتفاقات سياسية أيضًا.

ثالثًا، إن الذين أبدوا  بعض التحفظات تجاه  تلك الخطوة، بدعوى أن التطبيق على الأرض سينعكس سلبيًا على مستقبل قطاع غزة وموقعه ضمن المشروع الوطني الفلسطيني، وأيضًا أولائك الذين أثاروا الجدل بشأن الشائع عن التوجهات المصرية تجاه غزة، طيلة عقود، والتي تتمثل في ضمان استمرار فك الارتباط بين مصر والقطاع، وقطع الطريق أمام أية محاولة تستهدف فصل قطاع غزة نهائيًا عن الضفة الغربية، أو إعلانه ككيان مستقل عن السلطة الفلسطينية... هؤلاء جميعًا ربما فاتهم أن التداعيات السلبية الهائلة لتجربة الانقسام الفلسطيني طيلة عقد كامل تشي باستحالة معالجة بعض آثار تلك التجربة البائسة، من دون المجازفة بالانخراط في مسارات تكتيكية، أو مناورات (حتى ولو كانت من العيار الثقيل) تبدو مفتوحة أمام اتجاهات شتى.

بل ولعلهم يسقطون من حساباتهم وطأة ذلك الواقع المر المتمثل في تلك الحالة غير القانونية التي فُرضَت على مصر من حدودها الشرقية، منذ انقلاب حماس في يونيو 2007 ... تلك الحالة التي أثرت وما تزال تؤثر على الجوار السيناوي. بل إن الدماء الغزيرة التي يدفع ثمنها المصريون اليوم ترتبط جزئيًا (وليس كليًا بالتأكيد) بتلك الحالة. ونحن هنا لا ننكر أن أهل غزة دفعوا أيضًا ثمنًا باهظًا لمغامرات حماس التي لم تحرر الفلسطينيين ولم تبق لهم الحق في الحياه أيضًا، بيد أن المسئولية الوطنية هنا تحتم على القيادة المصرية ضرورة البحث عن كل ما يحفظ أمن مصر والمصريين، خاصة أن القاهرة لم تدخر جهدًا طيلة العقد الماضي من أجل تجسير الفجوة بين الفرقاء، واتمام المصالحة، لكن الحسابات الفصائلية الضيقة حالت دون ذلك.

وفي تقديري أن المعنيين بالأمر لديهم قناعة أكيدة بأن هذا التلاقي المؤقت (بين المنخرطين في تلك التفاهمات) سيبقى عرضة للتأثير عليه من قبل ديناميكيات فلسطينية وإقليمية أعمق، من غير المرجح أن يتم التغلب عليها في أي وقت قريب. ولهذا سيظل هذا التلاقي أشبه بضمادة جروح سوف تسقط على الأرجح يوما ما.

يبقى في النهاية ضرورة التذكير بأن رهانات قيادة السلطة الفلسطينية بشأن ثوابت السياسة المصرية، وأن القاهرة لا يسعها أن تذهب أبعد من هذا بشأن غزة... هذه الرهانات حتى وإن بدت صحيحة، لكن هذا ليس مدعاة لأن تبالغ تلك القيادة في إساءة التقدير بشأن ما ينبغي عمله، بل الأحرى أن تبحث عن مداخل لترشيد قراراتها وخياراتها بشأن المصالحات الداخلية، بما يضمن عدم إهدار المكتسبات، ويضع حدًا  للاستمرار في لعبة المناكفات السياسية التي سيخسر فيها الجميع.

ولا يجب أن تنسى جميع الأطراف أن خصوصية الظرف الزمني والموضوعي تتطلب بالفعل تجنب الانفعال الزائد عن الحد، أو الشطط في ردود الأفعال، خاصة أن المأزق يحيق بالجميع دون استثناء.