شهدت أوضاع الصحافة المصرية حلقات متتابعة من الانفتاح والتضييق، فالإعلام مرآة للحريات التي يسمح بها النظام السياسي، إما يعرقل أو يشجع محاولات الصحافة للاستقلال، وإن غلبت محاولات السيطرة على الإعلام الخاص في أغلب المراحل السياسية من تاريخ مصر. في ضوء تلك الفرضية يتناول هذا المقال التحليلي أوضاع ودور الإعلام والصحف الخاصة بعد 2013، إذ يمهد الجزء الأول من المقال لبدايات العلاقة التكافلية بين الإعلام الخاص ونظام مبارك حتى عام 2011، ويتناول الجزء الثاني التغيرات التي طرأت على أدوار الإعلام الخاص منذ 2013 ويتناول الجزء الثالث والأخير بالتحليل الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الساحة الإعلامية حتى المرحلة الراهنة، ويسترشد المقال بمبادئ الاقتصاد السياسي للإعلام Political Economy of media، والتي تعني ببساطة مجموعة العمليات الاقتصادية التي تتم في سياق سياسي معين، بما يشمل تنظيم الملكية الإعلامية أو الفلسفة الاقتصادية لإدارة المؤسسات الإعلامية، إلى جانب المناخ السياسي السائد ونمط الحكم والأطراف الفاعلة بما ينعكس على الحريات.
وبالتالي، يطرح هذا المدخل النظري تساؤلات بدءًا مِن مَن يملك حق إصدار الصحف والقنوات الخاصة في مصر؟ فالسماح لبعض الأشخاص بإصدار صحف وحجب أشخاص آخرين نتيجة انتماءاتهم السياسية أول لبنة لفهم طبيعة الساحة الإعلامية، كما يهتم الاقتصاد السياسي للإعلام بنمط تمويل الإعلام والصحف، إذ يتحكم مصدر الأموال سواء أفراد أو معلنون أو الدولة في الخطوط العريضة والقيود على القضايا المطروحة، بل وقدرة الوسيلة الإعلامية ذاتها على البقاء من أساسه أو بمعني أدق "الإعلام للذين يمولوه". وتعود خصوصية مدخل الاقتصاد السياسي في دراسة الإعلام مقارنة بقطاعات اقتصادية أخرى كالزراعة والتجارة، إلى كونه صناعة تنتمي للمجال الإعلامي والثقافي ووسيلة لنشر الوعي تتمتع بتأثير محتمل على الجمهور، كما تتشابك مصالحها أو تتعارض مع مصلحة النخبة الحاكمة، ومع ذلك كله يظل الإعلام صناعة تخضع لحسابات الربح والخسارة في الوقت ذاته.
أولًا: العلاقة التكافلية بين الإعلام الخاص والنظام السياسي قبل ثورة يناير ٢٠١١
شهد النصف الثاني من التسعينيات دخول الصحافة الخاصة في تاريخ الصحافة المصرية للمرة الثانية بعد تأميم تجربة الصحافة الخاصة الأولى في عهد جمال عبد الناصر، وذلك نتيجة ضرورة استجابة نظام مبارك للضغوط الدولية لتحرير السوق الإعلامي تماشياً مع خطط تحرير السوق والخصخصة، إلا أن قانون الصحافة الصادر عام ١٩٩٦ آنذاك لم يلغ الصحافة القومية المملوكة للدولة أو الصحافة الحزبية، بل أضاف منظومة الصحافة الخاصة، مما أدى لوجود ثلاثة أنماط للصحافة: القومية والحزبية والخاصة. وظهرت بدايات الاحتياج المجتمعي إلى المؤسسات الصحفية الخاصة من خلال الصحافة المصرية الصادرة في قبرص، والتي كان أغلبها ينتمي لنمط الصحافة الصفراء بتركيزها على الإشاعات والفضائح، مع بعض الاستثناءات القليلة الجادة كالدستور أو كايرو تايمز الإنجليزية. إلا أن البداية الحقيقية لصحافة خاصة قوية تمثلت في تجربة المصري اليوم الصادرة في 2004، التي أسسها ثلاثة من رجال الأعمال، محاولين العمل بالمنطق الصحفي للمهنة، وليس السياسي، فركزت الصحيفة على الأخبار التي تهم القراء واعتمدت على جيل شاب من الصحفيين واختلفت في مضمونها عن ما اتبعته تقاليد التغطية في الصحافة المملوكة للدولة أو الصحافة الصفراء، بما انعكس في أرقام التوزيع التي تصاعدت بثبات، الأمر الذي أيقظ طموحات الجمهور لقراءة صحافة مختلفة، وطموح الجماعة الصحفية لتأسيس تجارب مشابهة، تلتها زمنيًا عام 2008 صحيفة الشروق كثانِ تجربة جادة في الصحافة اليومية.
وبالنسبة لتجربة الإعلام الخاص المرئي فبدأت بعد الصحافة المطبوعة من خلال تأسيس المنطقة الحرة العامة الإعلامية داخل مدينة الإنتاج الإعلامي بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء 411 لعام 2000 والتي واكبت خطط جذب المستثمرين في مجال البث والإنتاج التلفزيوني والإعلامي حينذاك، وحينها ظهرت قنوات دريم لمالكها أحمد بهجت في 2001 ثم قناة المحور المملوكة لمجموعة سما التابعة لحسن راتب في عام 2002.
بالرغم من الانفتاح التدريجي للساحة الإعلامية خلال الأعوام العشر الأخيرة لحكم مبارك اتسمت المرحلة في المجمل بتباطؤ وانتقائية الإصدارات الصحفية وقصر الترخيصات على ذوي الحظوة أو الثقل أو الولاء، وبالرغم من ارتفاع السقف تدريجيًا ليطول النقد ممارسات وسياسات لأشخاص في مناصب رسمية، وليس خارجها، بقيت خطوط حمراء تمثلت في أسرة الرئيس تحديدًا، وجسَّد الإعلام الخاص حينها العلاقة التكافلية المعقدة بين النظام وأصحاب بيزنس الإعلام، القادمين من مؤسسات اقتصادية أخرى لا علاقة لها بالنشر الإعلامي، فكان الغرض الأساسي للنظام إضفاء الشرعية على النظام السياسي لمبارك نتيجة الضغوط الخارجية للتدليل على وجود تعددية وحرية الرأي، أما رجال الأعمال فعمدوا لاستغلال الأصوات الإعلامية في معارك البزنس وقت اللزوم إما كورقة ضاغطة على منافسيهم أو على الحكومة ذاتها لتمرير بعض القرارات الاقتصادية المفيدة لهم أو لتحقيق مكاسب اقتصادية خارج مجال الإعلام. ومن هنا ولدت أسس الجيل الأول للصحافة الخاصة على نمط معين من الاقتصاد السياسي وعلى أساس اتفاق غير معلن من المصالح المشتركة، يتضح معها أن الإعلام الخاص يتحرك في المقام الأخير لمصالح ملاكه وليس قرائه ومشاهديه.
شهدت هذه المرحلة ما عرف في أدبيات علم السياسة بعقد الركود السياسي لمصر أو كما روج له نظام مبارك بالاستقرار، ولكن بالرغم من ذلك كان قطاع الإعلام، إلى جانب الاقتصاد، من أكثر المجالات ديناميكية، خاصة مع تطور التكنولوجيا وحتمية تطوير البنية التحتية الاتصالية اللازمة لجذب المستثمرين، إلى جانب حرص النظام السياسي على الحفاظ على الريادة الإعلامية، بما أضاف لمنظومة الإعلام الخاص نوعًا من السيرورة الذاتية خارج منظومة الإعلام التابع للدولة أو التابع للأحزاب وأيديولوجياتها. وشهدت هذه الفترة في أدبيات التحول الديموقراطي جدلاً علميًا شديدًا –لم يحسم حتى اليوم- بين أنصار فرضية حتمية الحرية أي أن الحريات الإعلامية والتطور التكنولوجي المتزايد سوف تؤدي لمزيد من الحريات وبين أنصار الفرضية النقدية المقابلة لها، التي ترى أن الحريات الإعلامية مجرد وسيلة للتنفيس وإلهاء الشعب عن القضايا الحقيقية وأن العالم الافتراضي سيظل مغلقًا على ذاته، وأن الحريات محدودة التأثير لا تساهم في صناعة وعي نقدي، وتزامن ذلك حينها مع ظهور مجالات جديدة حرة على الإنترنت سواء على المدونات أو مواقع التواصل الاجتماعي، لم يعرها نظام مبارك اهتمامًا يذكر على غرار عبارة مبارك الشهيرة: "خليهم يتسلوا".
ثانيًا: التغيرات التي طرأت على أدوار الإعلام الخاص منذ 2013
عندما جاءت ثورة 25 يناير بأبعادها السياسية المتشابكة ضد تهميش الشباب والفقراء والمعارضين، وضعت العلاقة التكافلية بين كل من نظام مبارك ومجتمع رجال الأعمال المالك لوسائل الإعلام على المحك، وكانت مؤسسات الإعلام أحد أهداف الثورة، حيث تضاءلت مصداقيته بعد أن ثبت انفصاله عن الواقع نتيجة الولاء والمصالح فجاءت شعارات الثورة تندد بالإعلاميين، ولكن في جوهرها كانت تطالب بعقد اجتماعي جديد يغير ثوابت الاقتصاد السياسي لكل من الإعلام المملوك للدولة والإعلام الخاص لينحاز إلى الجمهور والصالح العام.
شهدت الساحة الإعلامية بعد تنحي مبارك انفتاحًا كبيرًا وتعددية غير مسبوقة في الساحة الصحفية خلال عامي 2011 و2012، وشهدت كذلك أحلامًا بتطوير وتحرير المهنة، حيث واكبت مرحلة الانفتاح السياسي ميلاد منابر إعلامية عديدة لمجموعة جديدة من رجال الأعمال منها قناتي سي بي سي والنهار واللتين تقاسمتا كعكة الإعلانات مع القنوات الأقدم مثل مجموعة دريم والحياة والمحور، وظهرت صحف كالوطن والتحرير، وتزامن ذلك مع فقدان المؤسسات الإعلامية القديمة لشرعيتها ومصداقيتها مؤقتًا. ولكن سرعان ما تضاءلت هذه الحريات الإعلامية بعد صيف 2013، إذ سادت مشاعر التوجس والريبة تجاه الإعلام الخاص من قبل القيادة السياسية الجديدة بعد عزل محمد مرسي من الحكم وتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا للرئاسة حتى الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي في صيف 2014. وفقًا لهذه الرؤية، يشكل الإعلام الذي لا يخضع خضوعًا كاملًا خطرًا في أوقات الأزمات، وذلك نتيجة الدور السياسي للصحافة والإعلام المرئي في التمهيد للثورات أو تشجيع الحراك الشعبي عبر إثارة قضايا تحشد الرأي العام وتعبؤه، وإضفاء روح سخط عامة أو طرح تفسير مختلف عن الرواية الرسمية، أي أن النخبة الحاكمة تتوجس من الإعلام الحر أو غير الخاضع للسيطرة التامة على خلاف نظام مبارك الذي ظن أن قبضته الأمنية سوف تنتصر على الحريات في وقت تعارض المصالح. ويستمر هذا التوجس برغم عداء الإعلام الخاص للإخوان المسلمين وقت حكمهم –ما عدا الإعلام الممول من التيار الإسلامي- وقيامه بشبه تنسيق لخطاب إعلامي مناوئ لحكم الإخوان وسياساتهم الاستحواذية، ويعود التوجس في أحد أسبابه إلى نوع من التنافس المكتوم على موارد الدولة بين بعض رجال الأعمال والنظام، بما يضع المصالح الاقتصادية في تعارض.
يمكن تفسير الخطوات المتتالية بعد صيف 2013 في إطار التوجس الأمني، ومن هنا شدد النظام وسائل التحكم في المحتوى الإعلامي بمختلف الوسائل القانونية والأمنية، ففي خضم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها مصر نال الإعلام قسطًا كبيرًا من المناقشات العامة لتنظيم مجاله بحجة القضاء على الفوضى الإعلامية، ومهد النظام الأرضية القانونية تدريجيًا، فمنذ إعلان الدستور الجديد لعام 2014 توالت الطرق القانونية مثل إصدار قانون مكافحة الإرهاب عام 2015 أو إصدار النائب العام حظر للنشر في قضايا معينة بما لا يسمح بمراجعة الرواية الرسمية، ثم قانون الهيئات الإعلامية في ديسمبر 2016 الذي أقره المجلس التشريعي بعد توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية وتحويل المجالس الإعلامية التي تم تشكيلها قبيل أسابيع قليلة إلى ما يقرب من السلطات السياسية الرقابية وليس التنظيمية، ويتزامن هذا التوجه مع حجب أكثر من خمسين موقعًا منها عدة مواقع مصرية مستقلة مؤخرًا، وإلى جانب الوسائل التشريعية توجد أساليب أكثر مباشرة وصدامية منها احتجاز عدد من الصحفيين والمصورين أثناء تأدية عملهم، بحجة تهديد الأمن وأحيانًا تمديد حبسهم احتياطيًّا بلا أي تهم محددة، كما تشير بعض الشواهد إلى وجود إجراءات شبيهة بالرقابة القبلية أو التوجيه لنشر بعض المانشيتات المتطابقة في الصحف الخاصة الموالية، وذلك من خلال التنسيق مع الأجهزة التحريرية للصحف مباشرة.
على الرغم من الركود الاقتصادي الذي عانى منه سوق الإعلام الورقي والمرئي شهد عاما 2014 و2015 صفقات بيع صحف، وإصدارات صحفية جديدة مثل البوابة والدستور بطاقمها التحريري الجديد و إطلاق قنوات جديدة مثل مجموعة شبكات DMC، إذ إن المرحلة تحتاج وجوهًا جديدة من رجال أعمال تستثمر في قطاع الإعلام لا يشوب ولاءها شائبة، وواكب ذلك تبديل للوجوه المعتادة على شاشة الإعلام الخاص تحديدًا، فتم استبعاد وجوه معينة عن الشاشة كانت قد تصدرت المشهد في أعقاب الثورة مثل محمود سعد ويسري فودة وليليان داوود وباسم يوسف، بل وإيقاف توفيق عكاشة في 2015، وتصعيد وجوه إعلامية جديدة على الساحة، كما اتجه إعلاميون آخرون إلى المضامين ترفيهية واجتماعية مثل منى الشاذلي ومعتز الدمرداش، وسيطرت البرامج الفكاهية أو التي تعتقد أنها كوميدية على أوقات الذروة وتصدرت نسب المشاهدة، بما يؤكد التوجه الجماهيري العام للابتعاد عن السياسة والتوجه للمواد الترفيهية.
أعقب الإغلاق التدريجي للمجال العام آلية أشبه بمفهوم الطرد المركزي المستمد من علوم الطبيعة، بشكل أدى إلى إنشاء منصات إعلامية صغيرة اقتصاديًّا بعيدة عن المركز تتسم بالمرونة وسرعة الأداء الإعلامي منها زائد 18 أو بوابة يناير أو المنصة ومن قبلهم مدى مصر، وخروج عدد من كوادر الإعلاميين ذوي الانتماءات المغايرة عن التيار الرسمي من منظومة الإعلام المصري إلى أنماط إعلام مهاجر خارج مصر مع الاهتمام بالشأن المصري.
كان الشرح المطول لأسس نشأة الصحافة الخاصة في عهد مبارك في الجزء الأول من المقال ضروريًّا لشرح تحولات دور الإعلام الخاص بعد 2013، فالعلاقة التكافلية جوهرها لم يتغير، وإنما طرأ التغيير على أطراف المعادلة السياسية، فعلى مستوى النظام الحاكم انتقل مركز الثقل السياسي من مؤسسة الرئاسة خلال حكم مبارك إلى مؤسسات أخرى في الفترة الحالية، أما ساحة الإعلام الخاص فانضم إليها لاعبون جدد إضافة إلى اللاعبين القدامى المتحكمين في رأس المال، وطرأ على العلاقة التكافلية بين الطرفين تضاؤل احتياج النظام الحاكم للإعلام الخاص للتدليل على حرية التعبير، ذلك نتيجة المناخ السياسي السائد والتحولات الإقليمية الكبرى من جهة، مع رغبة النظام الشديدة وسعيه الحثيث لتجميد المنطق المهني في التغطية الإعلامية وتجميد ديناميكيات السيرورة الذاتية للإعلام لصالح المنطق السياسي من جهة أخرى.
يتواكب ذلك مع رؤية النظام للإعلام كأداة تعبوية مؤيدة وليس أداة رقابية على الأداء السياسي والاقتصادي، مع توقع النظام لمسحة من دور تربوي للإعلام في المجتمع، كما أشارت تصريحات رسمية متكررة عن دور الذوق العام في التصدي للفوضى الإعلامية، ولذا يمكن فهم غرض احتواء المجال الإعلامي الذي يهدف لتوجيه الخطاب نحو سردية الإنجازات والدور الوطني للنظام الحاكم القائم على الولاء للوطن والتضحية، في الوقت ذاته تتراجع ملامح الإعلام التنموي أو الحرص على مبادئ التعددية والإتاحة.
ثالثاً: الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الساحة الإعلامية حتى المرحلة الراهنة
تشكل المعطيات الاقتصادية لصناعة الإعلام إلى جانب الملكية والسلطة السياسية الوجه الآخر من الاقتصاد السياسي للإعلام، ففي مصر نرى أزمة اقتصادية واحدة مع ازدواجية أنماط الإنتاج الإعلامي، وبصفة عامة تخيم روح الأزمة والإحساس بعدم اليقين على الصحافة الخاصة والعاملين بها تحديدًا، فقد أشار المقال في بدايته إلى ازدواجية البنية الاقتصادية لإنتاج المحتوى الإعلامي في البيئة الراهنة ما بين مؤسسات مملوكة للدولة ومؤسسات خاصة، يتضح الفارق بين مواجهة مصيريهما، ففي حين لا تواجه المؤسسات القومية خطرًا يهدد وجودها حتى الآن لارتفاع التكلفة السياسية والاجتماعية لأي إجراء ضد العاملين بها، برغم من ارتفاع فاتورتها وأزمتها الاقتصادية الطاحنة والترهل الإداري وغياب الإدارة الرشيدة لعقود، يواجه الإعلام الخاص وحده التحديات المالية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية وانكماش السوق الصحفية في مصر والعالم، وانصراف الشرائح العمرية الشابة إلى الوسائل غير المطبوعة، مع اتجاه المعلنين لوسائط أخرى وتراجع المبيعات وارتفاع أسعار المواد الخام، خاصة مع تحرير سعر صرف الجنيه نوفمبر 2016 بما أثر بشكل مباشر على أسعار الورق والأحبار.
وأدى ذلك إلى تفاقم الأزمة بشكل أكثر وضوحًا عن الصحافة المملوكة للدولة، تمثل في تعثر سداد مستحقات العاملين وتقليص الرواتب بل وتقليص أعداد الصحفيين، إلى جانب استفحال ظروف العمل المجحفة لشباب الصحفيين والمماطلة في تعيينهم بالصحف بما يؤخر انضمامهم إلى نقابة الصحفيين ويحرمهم من حماية مؤسسية أثناء ممارسة عملهم. وفي ظل ذلك المناخ الاقتصادي المتردي ارتبط مصطلح إعادة الهيكلة بتسريح الصحفيين دون خطط بديلة أو برامج ذات بعد اجتماعي، بما أدى لنشوب احتجاجات لصحفيين سواء نقابيين أو غير نقابيين على إدارة الصحيفة نتيجة سوء أوضاعهم المادية، وأدى إلى إغلاق بعض الصحف الخاصة تمامًا، لدرجة أن اللهجة السائدة هي عن استمرار الصحف الورقية أصلًا.
ويطرح هذا المناخ الضاغط إشكاليتين: تتعلق الإشكالية الأولى بنمط الإدارة الاقتصادية للإعلام الخاص، فالمقولة السائدة في السياق المصري أن “الإعلام صناعة خاسرة"، إلا أن هناك تجارب صحفية محلية وعالمية نجحت اقتصاديًّا عبر تقديم توليفة تحريرية يحتاجها ويريدها القارئ، بما يرجح أن جزءًا من سبب الأزمة الاقتصادية هي إدارة المؤسسات الإعلامية بطريقة غير رشيدة، ومن شواهد ذلك تضخم أعداد الصحفيين العاملين أو التفاوت الكبير في أجور الصحفيين أو الممارسات غير التنافسية لوكالات الإعلان كالاحتكار، بالإضافة إلى صعوبة استقلال التحرير عن الإدارة، بما يشكل تحديًّا حقيقيًّا أمام الإدارة الاقتصادية الرشيدة للمؤسسات الصحفية والإعلامية التي من المفترض أن تقدم “سلعة معلوماتية" تهم القارئ دون ضغوط، من جانب آخر يطل رأس المال الخليجي كمنافس عبر قنوات أو صحف تعمل في السوق المصري ليرفع سقف توقعات كل من الصحفيين والجمهور بما يفوق إمكانيات رأس المال المصري، ويربط الإعلام المصري الممول خليجيًّا بالولاءات والصراعات الإقليمية، أما الإشكالية الإدارية الثانية فتتمثل في المأزق الأخلاقي أمام مجالس إدارة المؤسسات الإعلامية الخاصة ما بين توفير النفقات وتقليل الخسائر للحفاظ على بقاء الجريدة على قيد الحياة، أم الابقاء على العمالة كاملة لتواجه الصحيفة مصير الإفلاس والإغلاق كلية بشكل مبكر يهدد كافة العاملين بها.
يشكل الجمهور الضلع الأخير لمثلث العلاقة بين الإعلام - السلطة - الجمهور، ففي السياق المصري يغيب ظهير جماهيري للإعلام المطبوع الخاص، باستثناء الإعلام المرئي الترفيهي والدراما، وفي ظل التحديات الاقتصادية الحالية تشهد معدلات توزيع الصحافة أزمة حقيقية، فإلى جانب الأسباب الاقتصادية والتكنولوجية لتراجع ربحية الصحف تأتي محدودية المستوى الاحترافي للمهنة في الإدارة والأداء الصحفي، أي أن انصراف الجمهور يعود في أحد أبعاده إلى قلة مصداقية الصحف وعدم قدرتها على المنافسة بمضامين تحليلية عميقة أو أنماط حديثة للصحافة، والدليل على أهمية المضمون الصحفي، وليس الجانب الاقتصادي فحسب، أنه بعد موجة اهتمام كبيرة بالشأن العام تمثلت في ارتفاع مبيعات الصحف الخاصة تحديدًا خلال فترة الانفتاح السياسي القصيرة بعد يناير 2011، انصرف القراء مرة أخرى عن الصحف وانحدرت نسب مشاهدة برامج التوك شو السياسية، أي أن صعود وهبوط استهلاك الجمهور للمضامين السياسية للإعلام يرتبط بانفتاح المجال العام في مقابل انغلاقه، بما يلفت النظر مرة أخرى إلى إشكالية العقد الاجتماعي بين الإعلام الخاص والقراء ومدى قدرته على تأدية أدواره الإعلامية بموضوعية وكفاءة مهنية.
الخلاصة
انطلق المقال من فرضية تبعية المنظومة الإعلامية للمنظومة السياسية في أغلب فترات تاريخ مصر الحديث، وناقش المقال بالتفصيل دور الإعلام والصحافة الخاصة وتحولاتها بعد 2013 في ضوء مدخل الاقتصاد السياسي، الذي يسلط الضوء على سياسات ترخيص الإعلام الخاص منذ منتصف التسعينيات وأهداف كل من النخبة السياسية وأصحاب بيزنس الإعلام من جهة، وتأثير ملكية وسائل الإعلام وتمويلها ونمط إدارتها في ظل الأزمة الاقتصادية المستفحلة على جودة واستقلال مضامينها الصحفية من جهة أخرى.
أظهر التحليل نشأة العلاقة التكافلية بين النظام ونخبة البيزنس الإعلامي في نصف التسعينيات طمحت ثورة يناير 2011 إلى تغييرها جذريًّا، ليتوجه الإعلام نحو جمهوره، إلا أنه بعد فترة قصيرة من الازدهار الصحفي خلال الفترة المفتوحة بعد حراك 2011 وطرح خطط لعقد اجتماعي جديد بين الإعلام والشعب ذهبت التطورات السياسية على الساحة منذ 2013 إلى مزيد من التحكم على الساحة الإعلامية نتيجة التوجس الأمني من ملاك الإعلام الخاص وولائهم، وتضافر ذلك مع كل من المناخ السياسي السائد والأزمة الاقتصادية والتوترات الإقليمية مع استمرار الحرب على الإرهاب على كل من الحدود الشرقية والغربية لمصر، ومن وجهة نظر النظام الحاكم لا تشجع هذه الظروف اتباع سياسات لتحرير الإعلام أو الاستثمارات الحرة مثل التي شهدها العقد الأخير من حكم مبارك، خوفًا من تداعيات هذه الحرية على الاستقرار، ولعل خطوات الهيئات الإعلامية الجديدة كالمجلس الأعلى للإعلام تؤكد التوجهات الرسمية نحو مزيد من التحكم في منظومة الإعلام خلال المرحلة القادمة.
أما على المستوى الاقتصادي فتتسم الملامح العامة للمنظومة الصحفية بإحساس الأزمة وعدم اليقين نتيجة الظروف الاقتصادية غير المواتية، وضعف الإدارة الاقتصادية واحترافيتها المحدودة، بما يقلل إمكانية الاستقلال المادي قريبًا في ظل استمرار تراجع الجمهور، ومن المتوقع إحداث تغيير في الأوضاع قريبًا مع بدء الهيئات الإعلامية لعملها التنظيمي، ولكن المتوقع على المدى القريب أن يأتي التغيير مرة أخرى وفقًا للمنطق السياسي وليس المنطق المهني للصحافة.