صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تشهد منطقة الحدود السورية- العراقية صراعًا دوليًّا / إقليميًّا بين الولايات المتحدة وإيران، عبر تحركات حلفاء الطرفين في المنطقة المذكورة بهدف إحكام السيطرة عليها. ففي الثامن والعشرين من مايو الماضي (2017)، أعلنت "قوات الحشد الشعبي"، العراقية الشيعية، المدعومة من إيران تسليحًا وتدريبًا، عن نجاحها في الوصول إلى منطقة الحدود العراقية مع سوريا، وذلك في سياق حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في مدينة الموصل بمحافظة نينوى المتاخمة للحدود السورية. في الوقت ذاته، وعلى الجانب السوري، تسعى القوات النظامية السورية، المدعومة بميليشيات شيعية إيرانية وأفغانية وعراقية، للوصول إلى المنطقة الحدودية نفسها، الأمر الذي ينذر بمواجهة عسكرية محتملة مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، المدعومة من قبل الولايات المتحدة، والتي تتولى محاربة داعش في محافظة دير الزور السورية بالقرب من الحدود مع العراق، تمهيدًا لملاحقة التنظيم داخل عاصمته الافتراضية في محافظة الرقة.  

وصول "قوات الحشد الشعبي" الشيعية العراقية إلى منطقة الحدود مع سوريا بهذه الكيفية يمثل تطورًا مهمًا في سياق الحرب على تنظيم داعش؛ على اعتبار أن تطهير تلك الحدود من جيوب التنظيم كفيل بقطع التواصل بين مقاتليه وبين خطوط الإمداد مع قواعده على طرفي الحدود العراقية السورية، والممتدة من صحراء محافظة الأنبار وحتى مدينة الموصل بمحافظة نينوى. كما يمثل تطورًا مهمًا أيضًا على مستوى المواجهة بين إيران والولايات المتحدة في ساحة الصراع السوري؛ الأمر الذي يدعو إلى طرح تساؤل مهم حول من سيتمكن من السيطرة على المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا؛ هل إيران؟ عبر حلفائها على الجانبين العراقي والسوري، أم الولايات المتحدة؟ عبر دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في الجانب السوري من الحدود مع العراق!

دلالات التوقيت

توقيت وصول "قوات الحشد الشعبي"، الشيعي العراقي المدعوم إيرانيًا إلى منطقة الحدود العراقية مع سوريا، على هامش معركة تحرير الموصل من داعش، يحمل دلالتين:

الأولى،هي تزامنه مع تصعيد إيراني واضح على أرض الصراع الميداني السوري عبر الميليشيات الشيعية التابعة لإيران هناك لتأمين "ممر بري" يمكنها من ضمان التواصل الجغرافي بينها وبين سوريا عبر الأراضي العراقية؛ وذلك بهدف إعادة ترتيب أوراق مشروعها الإقليمي الجيو-سياسي في حلقته السورية، والذي تعرض لتحديات ميدانية وسياسية نتيجة التدخل العسكري الأمريكي لمواجهة داعش، وما يمثله ذلك من تداعيات سلبية محتملة على مصالح إيران في سوريا، لاسيما في ظل مناصبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العداء لإيران وانتقاده لتمدد نفوذها في كل من العراق وسوريا. أضف إلى ذلك محاولات واشنطن منع قوات النظام السوري- حليفة إيران- من الاقتراب من منطقة الحدود العراقية عبر ضرباتها الجوية في منطقة معبر التنف الحدودية (جنوب محافظة دير الزور السورية) المقابلة لمعبر الوليد على الجهة العراقية. وتزامنت تلك التطورات كلها مع تهديدات شديدة اللهجة وجهتها قوات سوريا الديمقراطية - التي تحظى بدعم عسكري أمريكي- لقوات الحشد الشعبي العراقية تحذرها فيها من دخول المناطق الخاضعة لسيطرتها في محافظة الحسكة السورية بذريعة ملاحقة فلول داعش، على خلفية تخوفاتها من تصريحات مسئولي الحكومة العراقية الداعية إلى تأمين وتطهير الحدود العراقية مع سوريا، حتى ولو تطلب ذلك ملاحقة ما تبقى من مقاتلي التنظيم داخل الأراضي السورية.

الثانية، تتعلق بتزامن تلك النقلة النوعية - وصول الحشد الشيعي للحدود العراقية السورية - مع دخول معركة محافظة دير الزور السورية الحدودية بين قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا، وبين تنظيم داعش مرحلتها الأخيرة، والبدء فعليًا في معركة الرقة معقل التنظيم في سوريا، وهي المعركة التي تشهد مزيدًا من الانخراط العسكري الأمريكي، والتي بمقتضاها ستتحدد مسارات التسوية المحتملة للصراع السوري. ومن ثم، فإن سعى الحشد الشيعي العراقي إلى التواجد بالقرب من هذه المناطق يستهدف توصيل رسالة للولايات المتحدة مؤداها أن حلفاء نظام الأسد من الميليشيات العراقية والإيرانية سيواصلون دعمهم العسكري الميداني للنظام، لاسيما محاولته إحكام السيطرة على البادية السورية المتاخمة للعراق.

أهداف تتجاوز ملاحقة داعش

النقلة النوعية التي أحدثها وصول "قوات الحشد الشعبي" الشيعية العراقية إلى منطقة الحدود مع سوريا تتجاوز في أهدافها مجرد ملاحقة مقاتلي تنظيم داعش في المنطقة المذكورة؛ فهناك جملة من الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إيران لتحقيقها من خلال دعمها لتلك الميليشيات وتحركاتها على الجانب العراقي، وتحركات مثيلاتها من الميليشيات الإيرانية على الجانب السوري يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- تعزيز قدرة النظام السوري على استيعاب التحديات الميدانية التي فرضها الوجود الأمريكي الجديد في الأراضي السورية؛ فالسيطرة على الحدود العراقية- السورية تعني تأمين مسارات نقل الإمدادات العسكرية للنظام ولباقي الميليشيات الداعمة له، وهو ما مكن النظام خلال الأسابيع القليلة الماضية من التصعيد في البادية السورية القريبة من الحدود العراقية، وأدى إلى رد أمريكي فوري في 18 مايو الماضي تمثل في ضربات عسكرية جوية في منطقة التنف السورية المقابلة لمعبر الوليد الحدودي العراقي لإجهاض تحركات النظام وميليشياته في تلك المنطقة، والتي تمثلها هنا الميليشيات التابعة لحزب الله اللبناني، حيث حاولت فتح طريق للتواصل بين إيران وميليشياتها عبر منطقة التنف جنوب سوريا بهدف السيطرة على الحدود وتأمين الإمدادات الإيرانية عبر العراق إلى سوريا. الضربة الأمريكية على قوات حزب الله في التنف تعني أن الولايات المتحدة غير مستعدة للقبول بالتواجد الإيراني في تلك المنطقة الحدودية لما يمثله من تهديدات لكل من قوات المعارضة السورية المتواجدة بالقرب من التنف، وهي قوات الجيش السوري الحر، وللنخبة العسكرية الأمريكية من الضباط والمستشارين العسكريين المتواجدين في المنطقة نفسها، هذا فضلًا عما تمثله منطقة الحدود العراقية- السورية من أهمية استراتيجية بالنسبة لعملية ترتيب النفوذ الإقليمي والدولي مستقبلًا.

2- سعي الميليشيات الإيرانية الموجودة في سوريا إلى فك الحصار عن ميليشيات حزب الله اللبنانية التي تتمركز في مدينة دير الزور السورية حيث الحدود مع العراق، والمحاصرة من قبل كل من الجيش السوري الحر المدعوم من قبل تركيا من الجهة الجنوبية الغربية، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل الولايات المتحدة من الجهة الشمالية الغربية.

3- إحكام السيطرة الإيرانية على القرار السياسي والعسكري لكل من الحكومة العراقية والنظام السوري، من منطلق الدعم اللامحدود على أرض الصراع الميدانية للحكومة العراقية في حربها مع داعش في الموصل تحديدًا، تدريبًا وتسليحًا وتخطيطًا، والدعم المماثل للنظام السوري في صراعه مع المعارضة المسلحة في مجمل الأراضي السورية. هذا الهدف استعاد مكانته في أجندة إيران الإقليمية بعد التحركات السريعة والمباغتة لميليشياتها على جانبي الحدود العراقية- السورية خلال الأسابيع الماضية بعد تراجعه على وقع التدخل الأمريكي القوي في سوريا.

4- اختبار إيران لقدرة التحالف الدولي على توفير الحماية الجوية للقوات الكردية التي تمثلها قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضمن نطاق الحدود العراقية- السورية؛ حيث عبرت قوات الحشد الشيعية العراقية الحدود مع سوريا إلى منطقة الحسكة التي تمثل أحد الكانتونات الكردية السورية الثلاثة إلى جانب (عين العرب "كوباني"، وعفرين) قبل أن تجبرها قوات التحالف على الانسحاب إلى داخل الحدود العراقية مرة أخرى.

5- توسيع إيران لنطاق سيطرة ميليشياتها في سوريا ليصل إلى مثلث الحدود العراقية السورية الأردنية؛ بهدف زعزعة تواجد قوات الجيش السوري الحر التي تسيطر على هذا المثلث الحدودي، وتوظيف تلك النقلة النوعية في التفاوض مع الولايات المتحدة عبر المساومات السياسية.

6- تحدي إيران لرغبة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برازاني في ضم المناطق التي تحررها قوات البيشمركة الكردية من قبضة داعش في غرب نينوى ومناطق سنجار إلى سلطة الإقليم سياسيًّا وجغرافيًّا. وقد انعكس هذا التحدي عبر رفض الحكومة العراقية وقوات الحشد الشعبي الشيعية ومن ورائهما إيران لمسعى برازاني. وفي سبيل منع الإقليم من السيطرة على المناطق المذكورة أعلنت قوات الحشد الشعبي الشيعية عن تسليمها للمناطق التي تحررها من قبضة داعش في تلك المناطق إلى القوات الإيزيدية الموالية لها بدلًا من قوات البيشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان والتي تتمتع بدعم أمريكي. وتستهدف إيران بذلك منع الأكراد العراقيين والسوريين المدعومين أمريكيًا من غلق الحدود العراقية- السورية في مناطق تمركزها أمام إيران، وهو ما اعتبره المحللون بداية لحلقة جديدة من الصراع متعدد الأوجه في العراق بين البيشمركة الكردية وبين الحشد الشيعي.

احتمالات التهدئة والتصعيد

يبدو مما سبق أن سعي إيران للسيطرة على منطقة الحدود العراقية- السورية عبر حلفائها في البلدين، ومن ثم مواجهة الولايات المتحدة في ذلك، يدفع الصراع بين الطرفين نحو احتمالين:

الاحتمال الأول، هو استمرار التصعيد وصولًا إلى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة، لاسيما في ظل إصرار إيران على تواجد "قوات الحشد الشعبي" العراقية في المنطقة الحدودية مع سوريا لضمان استمرار دعمها للنظام السوري وتأمين ممرها الاستراتيجي عبر العراق وسوريا وصولا للبحر المتوسط، وهو ما ترفضه واشنطن جملة وتفصيلًا، ما يعني أن واشنطن "قد" لا تكتفي في هذه الحالة بتوجيه ضربات إجهاضية لتحركات الميليشيات الشيعية التابعة لإيران في المنطقة الحدودية على غرار ضرباتها في التنف جنوب سوريا، وإنما ستنقل مواجهتها إلى مرحلة أكثر تصعيدًا قد ترتقي لمرحلة الحرب مع تلك الميليشيات عبر منظومة التحالف الدولي.

الاحتمال الثاني، هو استبعاد المواجهة المباشرة وتوقف التصعيد بين الجانبين الأمريكي والإيراني في منطقة الحدود العراقية- السورية عند حد الضربات الأمريكية الخاطفة، التي تستهدف توصيل رسائل سياسية وميدانية فقط. ويرى أنصار هذا الاحتمال أنه طالما كان العنوان العام للانخراط الأمريكي العسكري في سوريا هو محاربة الإرهاب ومواجهة داعش، فإن الاحتياج الأمريكي لنشاط الحشد الشعبي في ملاحقة التنظيم يظل كابحًا لأية سيناريوهات تتضمن مواجهة أمريكية عسكرية شاملة مع تلك الميليشيات في الوقت الراهن. كما أن انكشاف ميليشيات الحشد في منطقة الحدود الصحراوية وعدم توافر غطاء جوي لها سيجعلها في مرمى الضربات الجوية للتحالف الدولي. هذا فضلًا عن المواجهات المحتملة بين قوات الحشد الشعبي وكل من قوات البيشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان العراق، و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المدعومة من قبل الولايات المتحدة. وتمثل تلك المعطيات عوائق فعلية أمام استمرار سيطرة الحشد الشيعي العراقي على الحدود العراقية السورية، كما تمثل عوامل كبح لحالة التصعيد بين الجانبين الأمريكي والإيراني.

مما سبق يتضح أن استراتيجيات "قوات الحشد الشعبي" في منطقة الحدود العراقية السورية، ستظل مرهونة إلى حد كبير بمعطيات العلاقة مع الولايات المتحدة التي ترغب في تقليص التمدد الإيراني في كل من العراق وسوريا؛ فواشنطن لم تبد اعتراضًا على مشاركة الحشد الشعبي في محاربة تنظيم داعش داخل المحافظات العراقية طالما لم تمدد تلك الميليشيات نفوذها داخل الحدود السورية. أما مثيلاتها من الميليشيات الشيعية التابعة لإيران العاملة في سوريا لمساندة النظام فستظل مستهدفة من قبل طيران التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة حال محاولتها الوصول إلى الحدود مع العراق؛ لما يمثله ذلك من تهديد مباشر للقوات الأمريكية ولفصائل المعارضة السورية المتمركزة في تلك المنطقة. ووفقًا لهذه المعطيات فإن قدرة الولايات المتحدة على حسم معركة الحدود السورية وإحكام سيطرتها عليها يبدو هو الاحتمال الأقرب للتحقق؛ لاسيما بعد نقل الولايات المتحدة منظومة راجمات الصواريخ المتطورة "هيمارس" من الأردن إلى سوريا، ما يعني أن تحركات القوات النظامية السورية المدعومة بالميليشيات الإيرانية في منطقة المثلث الحدودي العراقي السوري الأردني باتت مستهدفة. ويعني أيضًا أننا أمام حلقة جديدة من الصراع الدولي والإقليمي المرشح لمزيد من التصعيد خلال المرحلة القادمة.