د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

رغم المناشدات الدولية بعدم الإقدام على هذه الخطوة المخيبة للآمال من أجل إنقاذ حياة البشر على كوكب الأرض، هز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم بقراره في أول يونيو الجاري (2017) بالانسحاب من اتفاق باريس للتغير المناخي. وقد برر الرئيس الأمريكي هذا القرار بالقول إن اتفاق باريس ينطوي على تمييز ضد الولايات المتحدة، ويقف في طريق إنهاض الاقتصاد الأمريكي،  مبديًا استعداده للتفاوض حول اتفاق مناخ جديد "ببنود تكون عادلة للولايات المتحدة". وأشار الرئيس ترامب أيضًا إلى أن الاتفاق لم يكن حازمًا بما يكفي مع الصين والهند، أهم منافسي بلاده الاقتصاديين، وبالتالي من الضروري التفاوض على اتفاقية أفضل للشركات والعمال الأمريكيين.

وكان الرئيس الأمريكي الجديد قد زعم، إبان حملته الانتخابية العام الماضي، أن اتفاق باريس للتغير المناخي سيكلف الولايات المتحدة خسارة ثلاثة تريليونات دولار من إجمالي ناتجها القومي وحوالي 6.5 مليون وظيفة في قطاعات مختلفة مثل قطاع الفحم. وقال ترامب أيضًا "إن الدول نفسها التي تطلب منا البقاء في اتفاق باريس هي الدول التي تكلف الولايات المتحدة إجمالًا تريليونات الدولارات من خلال ممارسات تجارية قاسية، وفي كثير من الحالات إسهامات ضعيفة في تحالفنا العسكري المهم"، مشيرًا إلى أن إدارته ستتوقف عن دفع أموال لصندوق المناخ الأخضر، الذي تدفع له الدول الغنية مليارات الدولارات سنويًا لمساعدة الدول النامية على التعامل مع الفيضانات والجفاف والآثار الأخرى لتغير المناخ.

ردود فعل متفاوتة

في مواجهة هذا القرار الأمريكي الصادم من اتفاق باريس للتغير المناخي، تراوحت ردود الفعل الدولية بين الصدمة والغضب وأيضًا التصميم على مواصلة الجهد المشترك الذي يمثله هذا الاتفاق من أجل مواجهة التغير المناخي العالمي. فمن جهة، سارع الاتحاد الأوروبي والصين بالتأكيد على أنهما سيواصلان العمل معًا لتنفيذ اتفاق باريس. ومن جهة أخرى، أصدر قادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا بيانًا مشتركًا يؤكدون فيه أن الزخم الذي ولده اتفاق باريس في ديسمبر 2015 لا يمكن التراجع عنه، وأن هذا الاتفاق هو "أداة حيوية لكوكبنا ومجتمعاتنا واقتصاداتنا". كما أكد البيان أيضًا أن الدول الثلاث ترفض اقتراح الرئيس ترامب بإعادة التفاوض حول اتفاق باريس مرة أخرى. وفي هذا السياق، كانت ردة الفعل الفرنسية ملفتة للأنظار، حيث أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن نظيره الأمريكي ارتكب "خطأً تاريخيًا بحق مصالح بلاده وبحق مستقبل كوكبنا" بالانسحاب من اتفاق باريس، مضيفًا أن "الولايات المتحدة أدارت ظهرها للعالم"، ودعا علماء المناخ الأمريكيين ورجال الأعمال للذهاب إلى فرنسا والعمل فيها لإيجاد "حلول ملموسة للتغير المناخي". ومن ناحيتها، دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دول العالم للعمل سويا من أجل "حماية كوكب الأرض" من ظاهرة تغير المناخ، مؤكدة عزمها المضي قدمًا بكل حزم في هذا الطريق، رغم خروج الولايات المتحدة من اتفاق باريس للتغير المناخي. وأكدت ميركل أن بلادها ستفي بالتزاماتها في هذا المجال، مشيرة في الوقت نفسه إلى أهمية استمرار المساعدات المالية للدول الأكثر فقرًا وتعرضًا لأضرار تغير المناخ. وفي الاتجاه ذاته، قالت اليابان إن قرار الولايات المتحدة الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ "مؤسف" وأن ظاهرة تغير المناخ تتطلب جهدًا منسقًا من المجتمع الدولي بأكمله. وعبرت كندا عن "خيبة أملها الشديدة" تجاه قرار الرئيس ترامب. الموقف ذاته عبرت عنه رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، والتي أبلغت الرئيس ترامب في اتصال هاتفي أن الاتفاق يحمي "رخاء وأمن الأجيال المستقبلية". كما أدان قادة دول الشمال (السويد وفنلندا والدنمارك والنرويج وآيسلندا) خطوة الانسحاب الأمريكية. وقالت روسيا، من جهتها، إن اتفاق باريس للمناخ سيكون أقل فعالية بدون المشاركين الأساسيين فيه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وكانت دول الجزر الصغيرة المهددة بارتفاع مستوى مياه البحر من أشد المنتقدين للانسحاب الأمريكي، إذ قالت رئيسة جمهورية جزر مارشال، هيلدا هاين، إنه "مثير للقلق جدًا بالنسبة لنا، نحن الذين نعيش على الخط الأمامي في جبهة التغير المناخي". وكان عدد من زعماء العالم، وبينهم بابا الفاتيكان، قد طالبوا الرئيس ترامب بألا ينسحب من الاتفاق، إلا أنه ضرب عرض الحائط بكل هذه المطالبات.

ما هو اتفاق باريس للتغير المناخي؟

يتصدى اتفاق باريس للتغير المناخي، الذي وقعت عليه 194 دولة (كل دول العالم ماعدا سوريا ونيكارجوا)، وصدقت عليه 147 دولة،  لواحدة من أهم قضايا القرن الحادي والعشرين، وهي قضية مواجهة التداعيات السلبية للتغير المناخي، عن طريق إلزام الدول، سواء كانت فقيرة أم غنية، بتقليل انبعاثات ما يطلق عليها الغازات المسببة للاحتباس الحراري، التي ينحي عليها العلماء باللائمة في ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. ويشتمل اتفاق باريس لمواجهة التغير المناخي، والذى سيدخل حيز التنفيذ فى عام ٢٠٢٠، على عدة نقاط أساسية، أهمها:

الهدف طويل المدى: ويتمثل في محاولة الحفاظ على زيادة متوسط درجة الحرارة العالمية بنهاية القرن الحالي في حدود أقل بكثير من درجتين مئويتين، فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية، ومواصلة الجهود الرامية إلى عدم تجاوز هذه الزيادة حد 1.5 درجة مئوية، من خلال الحد من معدل الانبعاثات الغازية المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض (المادة 2 والمادة 4).

آلية لرفع وزيادة الطموح: من خلال الاتفاق على مراجعة مساهمة كل دولة في تقليل معدل انبعاثات الغازات بها كل خمس سنوات، بدءًا من عام 2023، حتى تتمكن كل دولة من مراجعة سياساتها بهذا الخصوص، بما يضمن تحقيق غرض الاتفاق وأهدافه طويلة المدى (المادة 14).

التمويل: فمن المنتظر أن تتماشي التدفقات المالية من الدول المتقدمة إلى الدول النامية مع مسار يؤدي إلى خفض هذه الانبعاثات، مع ضمان التزام الدول الغنية بتقديم ١٠٠ مليار دولار على الأقل سنويًا بحلول عام ٢٠٢٠ لمساعدة الدول الفقيرة على مواجهة التغير المناخي، على أن يراعي ذلك الحاجة إلى أن تكون هذه الأموال من مصادر عامة، وفي شكل منح (المادة 9).

الخسائر والأضرار: تم الاتفاق على أن تقدم الدول المتقدمة الدعم المالي والفني لمساعدة الدول النامية على التكيف مع الأضرار والخسائر المترتبة عن التغير المناخي، بما في ذلك الظواهر الجوية القصوى والظواهر البطيئة الحدوث، ويشمل ذلك توفير نظم الإنذار المبكر، والاستعداد للطوارئ، وتسهيلات التأمين ضد المخاطر، وغيرها (المادة 8).

نتائج كارثية

رغم أن معظم قادة دول العالم عبروا عن أسفهم لانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للتغير المناخي، مؤكدين ضرورة استمرار جهود محاربة التغير المناخي، إلا أن الحقيقة المؤسفة تشير إلى أن هذا الانسحاب سيجعل جهود المجتمع الدولي في تحقيق الأهداف التي وضعها لنفسه بموجب الاتفاق المذكور أكثر تعقيدًا. فالولايات المتحدة، وهي أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر مصدر لانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بعد الصين، مسئولة عن 15 في المائة من مجموع الانبعاثات الكربونية عالميا، كما أنها أيضًا مصدر رئيسي للتمويل والتكنولوجيا التي تعتمد عليها الدول النامية في محاربة ارتفاع درجات الحرارة. كذلك ثمة مخاوف أيضًا من اتباع دول أخرى للولايات المتحدة في نهجها هذا أو إبداء التزام أقل بأهداف اتفاق باريس، مما يعني إفراغه من محتواه تدريجيًا. ومن ناحية ثانية، سيكون انسحاب واشنطن مؤثرًا للغاية من حيث زيادة صعوبة وفاء الدول النامية، ومنها مصر، بالتزاماتها في ظل اتفاق باريس، الذي وقعته كثير من الدول النامية بعد أن حددت الدول الغنية هدفًا بجمع تمويل لمواجهة التغير المناخي، يبدأ من 100 مليار دولار في السنة اعتبارًا من عام 2020 لمساعدة الدول الفقيرة على التخفيف من انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري والتكيف بشكل أفضل مع موجات الحرارة والفيضانات والعواصف وارتفاع مستويات البحار.

وربما يؤدي الانسحاب الأمريكي من اتفاق باريس إلى الإضرار بالشعب الأمريكي ذاته ومصالحه في مجالات الصحة والأمن والغذاء والوظائف، ومستقبل صناعاته الأكثر تفوقًا في العالم، كتلك المرتبطة بالصناعات التكنولوجية والرقمية وغيرها. وقد عبر عن وجهة النظر هذه عدد من الأفراد القريبين من الرئيس ترامب، وعلى رأسهم ابنته إيفانكا، التي كانت من المنادين بعدم الانسحاب من الاتفاق. ومن المؤيدين للموقف ذاته من داخل الإدارة الأمريكية الحالية وزير الخارجية ريكس تيلرسون، بالإضافة إلى دوائر الأمن القومي التي عبرت عن قناعتها بأن التغير المناخي أصبح يمثل أحد تهديدات الأمن القومي الأمريكي. كما ينتشر الإيمان بأهمية قضية تغير المناخ بين الديمقراطيين، وعلى رأسهم الرئيس السابق باراك أوباما. وفيما يتعلق بالشركات الأمريكية الكبرى، فقد أعلن عدد كبير منها عن معارضته لقرار ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس،وكان على رأسها شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل: تيسلا موتورز، وجوجل، وفيسبوك، وآبل، المعروفة باتخاذها إجراءات طوعية لتقليل الانبعاثات الكربونية. وكان من بين الشركات التي أبدت اعتراضها أيضًا على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق شركات كبرى في عالم الصناعة، مثل: جنرال إلكتريك، وجنرال موتورز، وفورد، وبيبسي، وأيضًا من أكبر الشركات في عالم المال، مثل: جي بي مورجان تشيس. وينبع ذلك من أن كل هذه الشركات ترى أن الالتزام بمعايير تقليل الانبعاثات الكربونية، وفقًا لاتفاق باريس، يصب في مصلحتها، ويجنبها مستقبلًا عزوف المستهلكين والمستثمرين عن التعامل معها إذا ما انفصلت عن الاتجاه العالمي في هذا الإطار.

تداعيات مهمة

في النهاية، يمكن القول إن انسحاب الرئيس ترامب من اتفاق باريس للتغير المناخي يمثل انقلابًا خطيرًا على جهود المجتمع الدولي من أجل مواجهة التداعيات السلبية للتغير المناخي العالمي، والتي يمثل ذروتها هذا الاتفاق. فهذا الانسحاب الصادم، والذي يغامر بمستقبل كوكب الأرض، وضع الولايات المتحدة في جهة وباقي دول العالم في جهة أخرى. وبالتالي إذا ما استمر هذا الوضع في الفترة المقبلة، فمن المرجح أن تهتز صورة الولايات المتحدة باعتبارها القوة المسيطرة على القيادة العالمية في الوقت الراهن. فقرار الرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس يعطي مؤشرًا واضحًا على الدور المحدود الذي تعتزم واشنطن أن تلعبه على الساحة الدولية في عهد الرئيس ترامب.

ومن ناحية أخرى، فإن ما قام به الرئيس ترامب من انقلاب على المجتمع الدولي فيما يتعلق بمواجهة التغير المناخي لا يتعلّق فقط بشعاره "أمريكا أولًا" بل بالجزء التمييزي فيه، والذي يضع كل الاهتمام على المصالح الأمريكية اليوم والآن، حتى لو كان ذلك على حساب الأجيال القادمة التي ستعاني من التغير المناخي، وبالتالي فإن قرار ترامب ليس ضد العالم فحسب بل ضد الولايات المتحدة ذاتها ومصالح الأمريكيين. وهنا تتأكد مقولة المفكر والفيلسوف الشهير نعوم تشومسكي قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية الماضية حين أكد أن الجنس البشري يواجه تحديًا غير مسبوق في تاريخ البشرية، و"أن العالم يقف على مفترق طرق لم نشهده من قبل، وعلينا أن نقرر ما إذا كنا نرغب في إنقاذ البشرية ونحافظ عليها كما عرفناها، أم أننا سنخلق دمارًا شديدًا لا يمكن تصوره".