ثمة مؤشرات عدة تُقرأ لمصلحة نجاح زيارات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لعدد من دول الخليج العربي خلال الفترة الأخيرة على أصعدة عدة، وتدفع باتجاه التأسيس لفهم أكثر لدور مصر في منظومة أمن الخليج العربي.
1- أمن الخليج في المبادئ الدولية
كانت منطقة الخليج العربي حاضرة بقوة في مختلف المبادئ المهمة التي حكمت السياسات الخارجية للقوى الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف الحفاظ على المصالح الأمريكية. وعلى سبيل المثال، وحسب مبدأ أيزنهاورEisenhower Doctrine الصادر في يناير1957 كان بمقدور أي بلد أن يطلب العون من القوات الأمريكية إذا ما تعرض للتهديد من أي أمة تسيطر عليها الشيوعية الدولية. وكان الخليج في حينها في عزلة مريحة تحت الحماية البريطانية، باستثناء الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية. ورغم ذلك حاول أيزنهاورضم الخليج لحلف بغداد 1957 في إطار سياسة إقامة الأحلاف العسكرية. ووفقًا لمبدأ نيكسون الصادر في 1969 التزمت الولايات المتحدة بتوفيرالحماية للدول المتحالفة معها بدعمها عسكريًّا، فأصبح الخليج العربي تحت "مظلة الداعمتين"Twin Pillarsفي هذا المبدأ وهما إيران والسعودية. أما مبدأ كارترCarter Doctrine الصادر في1980 فقد تضمن تصميم الولايات المتحدة على مقاومة أي خطر يهدد الخليج؛ بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، وربط أمن الخليج بالأمن القومي الأميركي.
2- مبدأ السيسي تجاه أمن الخليج العربي
قد لا يكون متوافقًا مع المزاج المعتاد للقارئ العربي أن نلفت النظر لقيام مبدأ عربي مماثل هو مبدأ "مسافة السكة" أو بعبارة أخرى "مبدأ السيسي" El-Sisi Doctrine حول العلاقة بين الأمن المصري والأمن الخليجي. فقد دشن المشير عبد الفتاح السيسي، وكان حينها مرشحًا لرئاسة الجمهورية، لهذا المبدأ عندما قال "إنه في حالة تهديد أي دولة عربية، فإن الجيش المصري القوي، صاحب القوة العاقلة الرشيدة التي تحمي ولا تهدد، سيكون مسافة السكة هتلاقونا موجودين، محدش يتهدد وإحنا موجودين لا مش هيحصل أبدا"[1]. وقد أعاد السيسي التأكيد على نفس "المبدأ" أكثر من مرة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية. كما شدد المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء على هذا المعنى في تصريحاته بدولة الإمارات العربية المتحدة "إن أمن الخليج العربي جزء لا يتجزأ عن أمن مصر[2]".
إن تلقائية عبارة"مسافة السكة" وشعبيتها لا تعني عدم جديتها؛ فالجمل القصيرة لا يعني قصرها قصر رؤيتها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها صادرة من جنرال ورجل حرب، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية. فهل كانت هذه هي حقيقة المشهد المصري الجديد أم أنها لا تتعدى الدعاية الانتخابية لرجل عسكري يستخدم مفردات عمله، أو مجرد انحناءات دبلوماسية لضيوفه الخليجيين يوم تنصيبه؟
لقد أدى اندلاع الانتفاضات العربية إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط برمته.وأصبحت عودة القوة لمراكز الثقل العربية التقليدية أمرغير يقيني ومشروط ومرتبط بعوامل أخرى[3]. إلا أن مصر ستظل صاحبة الدور الأهم باعتبارها أحد الكيانات الفاعلة، كما أن نجاح التحول السياسي فيها يؤثر وبشكل مباشر على الكيفية التي تتطور بها الأمور في دول عربية أخرى[4].وعسكريا، يعتبر تحديد "الغريم المفترض" خطوة واجبة لتوفير قراءة واضحة لما يمكن تبنيه من خطوات. وإذا كانت الشيوعية وقود محركات المبادئ الأمريكية من أيزنهاور حتى رونالد ريغان، فإن الهيمنة الإيرانية على الخليج العربي كانت وقود الحرص المصري على الخليج. ومن ثم ليس على السيسي تقديم أوراق اعتماد جديدة في الإقليم في هذا الصدد؛ فقد كانت الهيمنة الإيرانية نفسها غريم الناصرية. وفي الوقت الذي تسعى فيه إيران لتكون مركز الإقليم دون سند دولي واضح، فإن مصر قادرة على نسج شبكة علاقات إقليمية ناجحة بالإضافة إلى قدراتها السكانية والعسكرية.
فهل "مصر السيسي" قادرة على لعب الدور القديم المتجدد، وما هي فرص نجاح الدور المصري في الحفاظ على أمن الخليج العربي استنادًا إلى مبدأ "مسافة السكة"، والعقبات التي تواجه هذا الدور؟
أ- فرص النجاح
لا شك أن هناك ظروفًا إقليمية مواتية للعسكرية المصرية لملء الفراغ الناتج عن الاستدارة الأميركية، وتراجع الخليج في سلم أولويات واشنطن لصالح أقاليم أخرى. كما أن التعاون العسكري الخليجي لازال يعاني من العقبات، وقلة الإنجازات المتحققة في هذا المجال، بسبب ضغط الحذرمن استفزاز دول الجوار، وغياب الإرادة السياسية للقفز بالتعاون إلى مستوى "الجيش الموحد". أضف إلى ذلك اختلاف وجهات النظر بين الدول الأعضاء حيال تحديد أولويات التهديد حتى وإن حدث تحول نسبي في هذا المجال ذلك بعد عاصفة الحزم.
ونتيجة عمله كعسكري، يتمتع الرئيس عبد الفتاح السيسي بإدراك جاد وعميق لمحيطه الإقليمي وللبيئة الخليجية. كما أنه يدرك إمكانية استعادة الأجواء التي صاحبت التعاون المصري الخليجي إبان حرب تحرير الكويت، والتفاف معظم دول الخليج حول وصوله للحكم. وعليه، لم يتردد السيسي في الإفصاح عن حاجته للدعم الخليجي.
وفي كل دعم غربي للخليج كانت المنطقة تتعرض لصدام حضاري، وبعد سنوات طويلة من التعاون الخليجي- الغربي لازال هناك شعور بالغربة ليس بين حضارتين فحسب، بل بين ثقافتين عسكريتين هما الغربية التي تتقن التعامل مع أسلحة وعقيدة الجيل الخامس القتالية، وبين عسكرية خليجية لا تتبوأ قصب السبق حتى بين عسكريات العالم الثالث، مما يجعل العسكرية المصرية أسهل في الاستيعاب والتكامل والاندماج مع كل ما يتطلبه العمل في الخليج للتعامل مع كافة الصراعات المسلحة، سواء أعمال التمرد ودعم الاستقرار السياسي، أو الإسهام في مكافحة الفوضى.
وبمستويات القدرات والعقائد العسكرية في العالم الثالث، لعبت القوات المسلحة المصرية دوما أكبر دور، فلها أقدر قوات مسلحة لتتحرك كعنصر قائد؛ فهي الأقوى عربيا وإفريقيا، وهي تحتل مرتبة متقدمة نسبيا على مستوى العالم. كما تشكل القوات الجوية المصرية أكبر أسلحة الطيران حجمًا في أفريقيا والشرق الأوسط، وتأتي في المركز الثاني بعد إسرائيل. كما أن لدى مصر أكبر جيش بري وقوة بحرية في أفريقيا والشرق الأوسط[5]. كما يمتلك المصريون إرثًا في الدخول في معارك قصيرة المدى يتم من خلالها توجيه ضربات موجعة للعدو اكتسبتها ووضعت قواعدها في حرب الاستنزاف خلال الفترة (1969-1972).
وفي العالم الثالث تغذى القوة العسكرية طموحات القادة السياسيين لتكوين دول مهيمنة. وفي الستينيات كان تاريخ العلاقات المصرية- الخليجية يعطي الكثير من دواعي الشك بين الطرفين. أما الآن ففي تقديرنا أن مصر باتت ذات درجة عالية من المصداقية، وهي الدولة الوحيدة في محيطنا الإقليمي المؤهلة لحفظ أمن الخليج تبعًا لمصالحها وواجبها العربي دون أن يكون لها أطماع حادة أو نزعة للتوسع.
ولعل خير اعتراف بالدوروبالثقل المصري في الخليج ما صرح به مساعد وزير الخارجية الإيراني للشئون الأفريقية، أمير عبد اللهيان، فور صدور مبدأ السيسي حيال الخليج من أن إيران لا تنظر إلى تصريحات الرئيس السيسي التي قال فيها إن أمن مصر من أمن الخليج، بـ"فهم عدائي"، مضيفا أن "إيران ومصر وكل دول الخليج تعيش في منطقة واحدة ومشتركة، والأمن مفهوم متصل وليس قابلا للتجزئة"[6].، وأضاف عبد اللهيان، "نعتقد أن أمن مصر هو أمن إيران، وأمن إيران هو أمن مصر، كذلك فإن أمن الخليج أمن لمصر والمنطقة.. والعلاقات بين إيران والأشقاء في الخليج مثمرة، وليس هناك ما يهدّد أمن المنطقة من ناحية إيران، ولا حتى علاقاتنا مع أي دولة أخرى في المنطقة تهدّد دول الخليج".
ب- شروط النجاح
إن المراقب الخليجي يثمن بقوة موقف سيادة الرئيس السيسي النبيل وحرصه على أمن الخليج؛ فحين فصّل الرئيس المصري السياسة الخارجية لبلاده بثلاثة عناوين رئيسية، جاء "أمن الخليج العربي كجزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري"، بل كأولها، تلاه القضية الفلسطينية، ثم الالتزام باتفاقيات مصر الدولية. لكن رغم المقومات العديدة السابقة لنجاح "مبدأ السيسي" بشأن أمن الخليج، يظل هناك عدد من الشروط المهمة لنجاح هذا المبدأ كإطار لتعميق الارتباط بين الأمن القومي المصري وأمن الخليج. نشير فيما يلي إلى أهمها من وجهة نظرنا:
1- ضرورة وجود وثائق رسمية تنظم العلاقات الأمنية بين مصر ودول الخليج العربي. فعلى الرغم من أهمية العلاقات التاريخية بين الجانبين، إلا أنه لا يوجد حتى الآن وثيقة رسميةعلى المستوى المصري أو المصري- الخليجي تضع استراتيجية متكاملة لأمن الخليج، أو التزامات محددة على الجانبين في التعامل مع مصادر التهديد، وهو ما ينطبق على "مبدأ السيسي" بشأن الخليج العربي، حيث لم يتبع الإعلان عن هذا المبدأ إصدار وثيقة رسمية مصريةحتى الآن.
2- الحاجة إلى بناء توافق مصري- خليجي، سواء فيما يتعلق بالقضايا ذات الأهمية بالنسبة لدول الخليج العربي، خاصة مصادر التهديد، أو فيما يتعلق بالعلاقات المصرية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يستوجب تحقيق مصالحة مصرية- قطرية استنادًا إلى قاعدتي الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية. لقد كان في تهنئة السيسي من قبل أمير قطر بعد نجاحه في انتخابات الرئاسة عام 2014 إشارة إيجابية لتحسن العلاقات بين البلدين، لكن عملية المصالحة لازالت تواجه عقبات.
وتزداد أهمية الحوار وبناء هذا التوافق المصري- الخليجي بالنظر إلى إمكانية ظهورمعارضة خليجية داخلية لأي دور مصري في الخليج، وهو أمر قد لا يرجع بالضرورة إلى موقف خليجي خاص من مصر، بقدر ما قد يرجع إلى غياب التوافق الخليجي المحتمل حول مثل هذا الدور المصري، خاصة من جانب أتباع إيران الذين لم يرحبوا بقوات "درع الجزيرة" نفسها رغم أنها قوات خليجية، حيث تبنت مجموعات خليجية معارضة "مفردات" إيرانية من قبيل وصف هذه القوات بـ"المحتلة".
3- ضرورة الانفتاح المصري على طبيعة البيئة الأمنية في منطقة الخليج العربي والدراسة الدقيقة لطبيعة مصادر التهديد ذات الصلة. إن تغييب مصر عن المسرح الخليجي لمدة تزيد عن عقدين (منذ حرب تحرير الكويت في بداية التسعينيات من القرن الماضي)، نتج عنه ترسيخ البعد الدولي لأمن الخليج، وغياب البعد العربي بشكل عام، ليس على مستوى المناورات والمشاريع التعبوية فحسب، بل على مستوى صناعة الفكر العسكري والاستراتيجي. لقد نتج عن هذا الوضع غياب مصر من ترتيبات أمن الخليج، نظرًا لضيق المساحة المتوفرة للمتنافسين على صيانة الأمن الإقليمي في الخليج؛ حيث قفز التنافس الغربي بدرجات عالية عقب الغزو العراقي للكويت، ثم تحول لوجود عسكري، وازداد بعد حرب تحرير العراق ليظهر على شكل دخول حلف شمال الأطلنطي (الناتو) للخليج عبر مبادرة إسطنبول للتعاون.
لقد شكلت مشاركة مصر في عدد من الفعاليات الأمنية المهمة في منطقة الخليج، خاصة "القمة السنوية لحوار المنامة حول أمن الخليج"، و"المنتدى الاستراتيجي العربي" في دبي، وهو المنتدى الذي يمثل محاولة لاستنساخ تجربة منتدى دافوس العالمي، خطوة مهمة على طريق التحاق مصر بالجدل الخليجي المهم على المستوى الأمني.
وأخيرًا، فإن مبدأ السيسي لا يعني بحال من الأحوال تخلي مصر عن دورها في الدفاع عن أمن الخليج في إطار دورها العربي بشكل عام، والأمن القومي العربي بشكل خاص. وربما يكون من المناسب هنا أن تعود مصر لقيادة العالم العربي عسكريا كما كان عليه الوضع في منتصف القرن الماضي عبر اتفاقية الدفاع العربي المشترك والدفع بها لتكون ذات أولوية في دوائر الأمن الخليجية. أضف إلى ذلك أهمية تشكيل "نظام أمن عربي" جديد يتم من خلاله التعاون الاستراتيجي بين دول الخليج ومصر والأردن، وتوحيد المواقف العربية حيال ملفات الأزمات في سوريا والعراق واليمن وإيران، بحيث يكون هذا النظام سندًا ومكملًا لمجلس التعاون لا بديل له.
[2]جريدة المصري اليوم، 7/6/2014.
[6]جريدة الأخبار، 10 يونيو2014.