لا يتضمن هذا التقرير وجهة نظر واحدة، ولا يتفق كتابه في مشاربهم الفكرية والأيديولوجية. ومع هذا يدعي هذا التقرير أن ما وجهه بالأساس هو تقديم وجهة نظر علمية متماسكة، متبعا في ذلك قواعد ومنهجية علمية منضبطة. ومع هذا، فالتقرير في لغته وبناءه يتطلع للوصول للقارئ غير المتخصص، ولكن القارئ المجتهد المستعد لبذل بعض الجهد من أجل تملك فهم أفضل للتطورات الاقتصادية (بل والاجتماعية والسياسية أحيانا) التي تجري من حوله سواء على المستوى الوطني، أو العربي والإقليمي، أو الدولي خلال السنوات بل والشهور الأخيرة.
وفي القسم الأول المعنون "الاقتصاد المصري"، يقدم الأستاذ أحمد السيد النجار رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام دارسة بعنوان "المؤشرات الاقتصادية الرئيسية وتأثيرات تعويم الجنيه"، يعرض للمؤشرات الاقتصادية خلال العام محل التقرير مقارنة بالأعوام السابقة، ويشير إلى أن كون النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي يأتي بالأساس من الاستثمارات الجديدة والتوسع في الاستثمارات القائمة، فإن رفع معدل الاستثمار يعد أمرًا حاسمًا في دفع النمو الاقتصادي. كما أن رفع معدل الادخار لتوفير التمويل الضروري لرفع معدل الاستثمار يعد بدوره أمرًا حاسمًا لتأسيس تنمية مستقلة تتسم بدرجة مقبولة من الاعتماد على الذات وعلى الاحتشاد الوطني لتحقيقها.
أما فيما يتعلق بقضية تعويم الجنيه المصري فقد بينت الدراسة أنه نظرا إلى أن واقع الاقتصاد المصري يشير إلى تحقق عجز تجاري كبير، وعجز كبير أيضًا في ميزان الحساب الجاري، ففي ظل مثل هذا العجز ومع ضعف الاحتياطيات الدولية إلى ما يزيد قليلًا عن ما يعادل ثلاثة أشهر من الواردات فإن تعويم العملة المحلية يكون محفوفًا بمخاطر الاضطراب المالي مما يجعل توقيت اتخاذ القرار بالتعويم غير مثالي أو بالأحرى غير ملائم. وتؤكد الدراسة على أنه حتى في حالة التعويم في الظروف الاقتصادية الراهنة، فإنه كان من الضروري إعداد خطط فعالة لمعالجة عجز ميزان الحساب الجاري بإجراءات متعددة قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل.
وتقدم الدكتورة شيرين الشواربي، أستاذ الاقتصاد ووكيل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، دراسة ضافية بعنوان "قيمة الجنيه المصري: هل آن الأوان لاستيعاب الدرس؟".وتستهل الدراسة بتوضيح أن سعر الصرف هو أحد أهم الأسعار في أي اقتصاد؛ حيث يعد وسيلة مهمة للتأثير على تخصيص الموارد بين القطاعات الاقتصادية، وعلى ربحية الصناعات التصديرية، وتكلفة الموارد المستوردة. كما أن سعر الصرف هو الأداة التي تربط بين أسعار الأصول والسلع والخدمات وعوامل الإنتاج في الاقتصاد المحلي للبلد المعني وأسعارها في باقي اقتصاديات العالم. ويعد استقرار سعر الصرف أمرا حاكما في تحديد قدرة المتعاملين في الاقتصاد على اتخاذ قرارات اقتصادية (سواء التي تتعلق بالاستهلاك أو الادخار أو الاستثمار أو الإنتاج والتصدير والاستيراد) تتعلق بالحاضر (سعر الصرف الآني) أو المستقبل (سعر الصرف الآجل)، وبالتالي في تحديد مدى استقرار الوضع الاقتصادي الكلي. لذا، يعتبر سعر الصرف من بين أكثر المتغيرات الاقتصادية التي تتم متابعتها وتحليلها سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي.
ثم تعرض الدراسة في قسم ثاني لأسباب انهيار الجنيه المصري. وتشير إلى السبب الأهم الشامل المتعلق بتدهور الأساسيات الاقتصادية،ومن أهمها انخفاض معدل النمو الاقتصادي، ثم مشكلات السياسة النقدية، والاختلال المتزايد في الموازين الخارجية، وأخيرا تزايد العجز في الموازنة العامة للدولة.
ويخلص هذا القسم إلى أن كل ما يطلق عليه الأساسيات الاقتصادية3F، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي -وعدم وضوح التوجه الاقتصادي بشكل كامل- قد اجتمعت للضغط على قيمة الجنيه المصري.
وتتحول الدراسة في قسمها الثالث لمعالجة إجراءات مواجهة الضغوط على الجنيه المصري، فتفصل الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي فيما يتعلق بسعر الصرف خلال الأعوام الستة الأخيرة، لتنتهي إلى تعويم الجنيه في نوفمبر 2016 وتشير إلى تباين ردود الأفعال بشدة بشأن تحرير سعر الصرف على الصعيد المحلي.
ثم تعرض الدراسة للتداعيات المترتبة على انخفاض قيمة الجنيه المصري، فتشير أولا إلى الآثار الإيجابية المتوقعة والتي تتمثل في توحيد واستقرار سعر الصرف، وتعزيز مركز الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي، وتحسين مناخ الاستثمار، وتحسين موقف ميزان المدفوعات. أما في جانب الآثار السلبية المتوقعة فقد تعرضت الدراسة إلى القضية الرئيسية المتمثلة في ارتفاع التضخم وتكاليف المعيشة والفقر، ثم قضية زيادة الضغوط على الدين العام والموازنة العامة للدولة باعتبارهما أهم التداعيات السلبية لانخفاض قيمة الجنيه.
ويقدم الخبير الاقتصادي الأستاذ محمد نور الدين دراسة بعنوان"بدائل تمويل الاستثمار والسياسة المالية في مصر"، يطرح فيها بداية فكرة أن الاستثمار تتم ترجمته في النهاية باعتباره "إنفاقًا غير استهلاكي"، وهو يتطلب موارد مالية كبيرة ومستمرة لتمويله. ولما كان قطاع الصناعات التحويلية بصفة عامة هو القطاع القادر على تحقيق معدلات نمو أكثر ارتفاعًا واستقرارًا وعلى توفير ما يلزم للقطاعات الأخرى من مدخلات، فإن عملية التنمية تتضمن عادة أن يتم القيام باستثمارات ضخمة في هذا القطاع بشكل خاص، وكذا في الفروع العلمية والبحثية والتكنولوجية المرتبطة به. وهكذا، يكون الاستثمار خاصة في الصناعة هو حجر الزاوية الحقيقي في عملية التنمية. ويتطلب الاستثمار في الصناعة بصفة خاصة قدرًا أكبر من الموارد المالية بشكل يتم معه دائمًا طرح قضية الادخار كقضية محورية.
ثم تطرح الدراسة قضية بدائل التمويل المتاحة، وتشير إلى أن أي مجتمع يكون مطالبًا باتخاذ قرار لاختيار واحد من ثلاثة بدائل:
البديل الأول، الاكتفاء باستثمار ما تتيحه المدخرات المحلية من إمكانيات للاستثمار، وقبول تحقيق معدل نمو منخفض.
البديل الثاني، وهو أسهل البدائل لسد فجوة التمويل المحلية، ويتمثل في الاستعانة بالتمويل الخارجي متمثلًا في القروض الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة.
البديل الثالث، تعبئة أكبر قدر ممكن من الفائض الاقتصادي أو الادخار الاحتمالي أو الادخار الكامن والذي يوجد في المجتمع في أشكال مختلفة، وعن طريق ذلك يمكن سد فجوة التمويل وتحقيق معدل النمو المستهدف. وتستفيض الدراسة في مناقشة كل بديل من هذه البدائل.
وعند مطابقة هذا الحديث النظري مع الواقع الفعلي في مصر، يشير الكاتب إلى أنه من الملاحظ أن معدل الاستثمار في مصر سجل تراجعا مستمرا خلال معظم السنوات الأخيرة ليقتصر على نحو 14% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي، على حين كان قد بلغ 22.4% في 2007/ 2008. ويعد هذا الانخفاض في معدل الاستثمار سببا رئيسيا في تراجع معدلات النمو الاقتصادي خلال السنوات الماضية بحيث لم يشعر المواطن العادي بأي تحسن في مستوى معيشته.
ونظرا لخطورة أثر عجز الموازنة العامة للدولة على ظهور فجوة الادخار المحلي في مصر ونقص التمويل اللازم لرفع معدلات الاستثمار، ولذا تعرض الدراسة بشيء من التفصيل لكل من جانبي الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة للدولة. وتشير الدراسة إلى أن الحكومة قد اختارت بديل اللجوء لصندوق النقد الدولي.
وفي الدراسة الرابعة المعنونة "الفقر والسياسات الحكومية في مواجهته" تقوم الأستاذة سنية الفقي، الباحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتقديم تعريف للفقر وتعريف ما هو خط الفقر الوطني وما هي مكوناته. وتشير الدراسة إلى أن نسبة السكان تحت خط الفقر بلغت 27.8%، وهو ما يعني وجود نحو 25.4 مليون فقير غير قادرين على الحصول على احتياجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية. وقد اتجهت معدلات الفقر إلى الزيادة مقارنة بمثيلتها عام 1999/ 2000، حيث بلغت نسبة الفقراء في ذلك العام نحو 16.7%، بما يعادل 11.4 مليون فقير من إجمالي السكان في ذلك الوقت، الأمر الذي نستنتج منه أنه خلال خمسة عشر عاما، زاد عدد الفقراء في مصر حوالي 14 مليون، بمعدل 935.8 ألف سنويًّا. وقد ارتفعت أيضا نسبة الفقر المدقع في عام 2015، لتصل لنحو 5.3% من السكان بإجمالي بلغ 4.8 مليون فقير غير قادرين على الحصول على احتياجاتهم الغذائية الأساسية حتى لو تم تخصيص كل إنفاقهم للغذاء فقط، مقارنة بنحو 2.9% في عام 1999/ 2000، وهو ما كان يعادل وقتها نحو 2 مليون فقير فقرًا مدقعًا.
وأشارت الدراسة إلى تباين معدلات الفقر تباينا شديدا بين الأقاليم المختلفة، وفقا لبيانات مسح الدخل والإنفاقوالاستهلاكلعام 2015، حيث تصل أقصاها في ريف الوجه القبلي بنسبة 56.7%، وتصل إلى أدنى مستوى بنسبة 9.7% في حضر الوجه البحري.
وفيما يتعلق بتحديد من هم الفقراء في مصر أوضحت الدراسة وجود علاقة قوية بين ارتفاع مستوى التعليم، وبين انخفاض معدلات الفقر، حيث إن التعليم المنخفض أكثر ارتباطا بمخاطر الفقر في مصر، حيث تتناقص مؤشرات الفقر كلما ارتفع مستوى التعليم. فنجد أن 40% من الأميين فقراء، مقابل 7% من الجامعيين، 12% لحاملي الشهادة فوق المتوسطة، 22% لحاملي الشهادة الثانوية الفنية. ولاحظت الدراسة أيضا زيادة نسبة الفقراء مع زيادة عدد أفراد الأسرة، وكذا وجود علاقة قوية بين طبيعة العمل والفقر، حيث تزداد نسب الفقر خارج المنشآت الحكومية والخاصة (أي في القطاع غير الرسمي)، حيث لا توجد أجور عادلة أو أي مزايا تأمينية اجتماعية وصحية، وتزداد مخاطر فقدان العمل.
وفي الدراسة الخامسة وتحت عنوان "قراءة في استراتيجية مصر 2030" تثني الدكتورة هناء عبيد، خبيرة الاقتصاد السياسي ورئيسة تحرير مجلة الديمقراطية، أولا على اتسام وثيقة الاستراتيجية بالشمول مقارنة بالمبادرات السابقة. وتشير إلى أن الوثيقة وضعت خططا طموحة فيما يتعلق بعدد من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، بل وأدرجت هدف الرضاء العام بشكل مباشر ضمن عناصرها. كما أعدت الوثيقة بصياغة محكمة، وعلى دراية بمتطلبات التنمية المستدامة وعناصرها المقبولة، فحظيت الحساسية النوعية "الجندر"، ومتطلبات العدالة باهتمام معتبر في إطار الرؤية، فضلا عن التركيز على الاستثمار البشري من خلال محاور التعليم والصحة.
ومن بين الأهداف الطموحة على الصعيد الاقتصادي، مضاعفة متوسط دخل الفرد المصري ثلاثة أضعاف في المدى الزمني للإستراتيجية من 3500 دولار إلى 10 آلاف دولار سنويا، وخفض نسبة السكان تحت خط الفقر من 26% إلى 15%.
وبعد توضيح بعدي الوثيقة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، تخلص الدراسة إلى افتقاد الاستراتيجية لأي تقدير واقعي أو تفصيلي للعلاقة بين الأهداف المعلنة والإمكانات المتاحة على محاورها المختلفة، أو حتى تلك الإمكانات التي يتصور إتاحتها في غضون الفترة الزمنية التي تغطيها الاستراتيجية.
كما تشير الدراسة إلى أنه بنظرة على المتاح حتى الآن من برامج ومؤشرات قياس الأداء في الوثيقة، نجد أن البعد البرنامجي ما زال يشكل الحلقة الأضعف في استراتيجية التنمية المذكورة. كذلك تغيب عنها الأولويات الاقتصادية القطاعية فيما عدا الإشارة لقطاعي الطاقة والخدمات، والتقسيم المرحلي للأهداف، وتغيب الإشارة إلى الجهات المنوط بها تنفيذ هذه الأهداف ووسائل تحقيقها ومصادر تمويلها.
وفي خلاصة نهائية تشير الدراسة إلى أنه في ظل عدم وجود تخطيط قطاعي واضح وبرامج متبلورة، فإن هندسة أدوات الدولة لتحقيقها يصبح غير ممكن. فبالرغم من شمول الاستراتيجية لعناصر وأدوات مهمة، فإن البوصلة اللازمة لتوجيه وتنسيق تلك العناصر ما زالت غائمة في ضوء ضعف بعد التنمية القطاعي والبرامج المرتبطة به. ويقتضي التخطيط التنموي وجود خط ناظم أكثر وضوحا بخصوص القطاعات التي سوف يعول عليها في تحقيق التنمية المستدامة، ولو بطريقة تأشيرية. حيث يظل ذلك هو نقطة الضعف الأساسية في الاستراتيجية محل البحث، ويهدد بتعطيلها أو إفراغها من محتواها.
ويقدم مجدي صبحي في الدراسة الأخيرة بهذا القسم والمعنونة "برنامج الصندوق: هل هناك فرصة لنهوض الاقتصاد المصري؟" رؤية لكيفية تحقيق نهوض اقتصادي عبر التنمية الصناعية. وتوضح الدراسة أن توافق واشنطن الذي تستند إليه برامج الصندوق كان يعد بمثابة رد على الدور الرئيسي الذي تقوم به الدولة من المبادرة بالتصنيع عبر سياسة إحلال الواردات في الدول النامية. فمن ناحية أولى، تتضمن توصيات برامج الصندوق ما ترى أنه يعمل على تدعيم الاستقرار الاقتصادي من خلال الهيكلة المالية وإتباع آليات السوق بصورة رئيسية. وهناك من ناحية ثانية، خفض كبير في دور الدولة في الاقتصاد. وكانت استراتيجية التنمية بالتالي هي الموضوع حيث تختلف بشكل كبير جدا عن استراتيجية إحلال الواردات.
وتذهب الدراسة إلى أنه ربما تكمن في الأزمة الاقتصادية الراهنة فرصة لمصر إذا ما تم اغتنامها بشكل صحيح. ويتوقف ذلك بالدرجة الأولى على مدى توفر رؤية لمستقبل الاقتصاد المصري تطرح سبل واضحة لمعالجة مشكلاته وتطويره وتنميته. وفي صلب هذه الرؤية سيأتي العمل بعكس ما يطالب به أو يبشر به صندوق النقد الدولي في برنامجه. إذ المرجح أن الفرصة الراهنة والتي ترتبط بتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتعويم العملة المصرية، لا تكمن كما يشير الصندوق في حدوث ذلك مع زيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية على مصر، وزيادة تنافسية الصادرات المصرية بشكل تلقائي نتيجة لما اتخذ من خطوات بتعويم العملة ورفع الدعم عن بعض السلع.
وتراهن الدراسة، على العكس من رؤية الصندوق، على أن رؤية اقتصادية يتم صياغتها في ضوء هدي سياسة الإحلال محل الواردات (أي القيام بإنتاج العديد من السلع التي يتم استيرادها حاليًّا) ربما تكون الأنسب خلال الفترة الحالية إذا ما أحسنا التدبير والتنفيذ.
وتستند المراهنة على سياسة الإحلال محل الواردات إلى عدد من الأسباب المشجعة بعضها مرصود في التاريخ البعيد وبعضها الآخر يقع في التاريخ القريب المتعلق بنهوض بعض الدول التي تصنف الآن باعتبارها من الدول الصناعية الجديدة.
أما في القسم الثاني من التقرير والمعنون "اقتصاد عربي وإقليمي"، فيقدم الباحث الاقتصادي الأستاذ محمد جاد دراسة بعنوان "كيف تنتج النيوليبرالية حروبا أهلية... اقتصاد سوريا واليمن نموذجًا" في مواصلة لما بدأناه في تقرير العام الماضي من دراسة للاقتصادات العربية التي تعاني بلدانها من حروب أهلية، حيث كنا قد تعرضنا في تقرير العام الماضي لدراسة الاقتصاد الليبي. وتحاول الدراسة تتبع أسباب فشل النموذج التنموي في سوريا واليمن على مدار العقود الماضية وهو ما قاد إلى الثورة، وأن تحصي حجم الخسائر الاقتصادية في سنوات القتال، ثم تحاول أن تضع تصورا عن كيفية نهوضهما مجددا في المستقبل.
فقد كان البلدان حقلا لتطبيق سياسات التحرر الاقتصادي في فترات مختلفة، وفشلت السياسات التحررية في أن تحقق وعودها. وتحت هيمنة النيوليبرالية ظل اقتصاد البلدين يعتمد على الريع من مصادره الطبيعية وعلى إيرادات الخدمات مثل السياحة. ونتيجة لذلك كان وضع البلدين هشا للغاية، خاصة مع تأزم الاقتصاد العالمي منذ عام 2008 التي وجهت ضربات قاسية لكل من سوريا واليمن، إذ كانت الأزمة بداية لموجة من الركود العالمي الطويل المستمر إلى وقتنا الحالي، وهي أيضا بداية تفاقم المشكلات الاقتصادية في عالمنا العربي.
وبعد سنوات من الحرب في سوريا تقدر بعض المؤسسات الدولية ما تحتاجه سوريا من رؤوس أموال لإعادة الإعمار بنحو 180 مليار دولار من أجل استعادة مستويات الناتج المحلي الإجمالي التي كانت قائمة قبل نشوب الحرب الأهلية. وقدرت جهات بحثية أن الاقتصاد سيظل ينكمش بمتوسط سنوي تبلغ نسبته نحو 3.9% حتى عام 2019، وهو الوضع الذي يعيد الاقتصاد إلى الحجم الذي كان عليه في حقبة التسعينيات. وتراجع مستوى دخل البلاد ليقترب من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
أما في اليمن فقد فاقمت اضطرابات عام 2011 من المشكلات الاقتصادية وأصبحت احتياطات النقد الأجنبي تحت ضغط دائم كما ارتفع التضخم، ثم بدأ الاقتصاد يستقر ويتعافى في عام 2012. ويرجع الفضل جزئيا في ذلك إلى المنح الخارجية من السعودية وقرض صندوق النقد الدولي بقيمة 93.7 مليون دولار.
وعادت الضغوط الاقتصادية من جديد في عام 2014، خاصة مع استمرار الهجمات، التي بدأت بعد الثورة، على البنية الأساسية النفطية للبلاد، والتي كان الاقتصاد يتضرر منها بشكل بالغ في ظل ما تمثله الموارد البترولية من أهمية، فقبل عام 2011 كانت تشارك بنحو نصف التدفقات النقدية الأجنبية الداخلة للبلاد.
وفي هذا السياق، عادت اليمن لطلب المساعدة من الصندوق، وحصلت على موافقة على قرض بقيمة 550 مليون دولار في سبتمبر 2014.
وتمسك الصندوق بتطبيق نموذجه النيوليبرالي غير مراع حتى للظروف السياسية التي تعاني منها اليمن، إذ كان مسار التحول الديمقراطي في البلاد على وشك الانهيار، لكن المؤسسة الدولية كانت تكرر توصياتها. واستغل الحوثيون السخط الشعبي من ارتفاع أسعار المحروقات ودعوا لمسيرات تندد بسياسات الحكومة وتطالب بإعادة الدعم وتشكيل حكومة جديدة. وامتدت الحركة الاحتجاجية إلى العاصمة صنعاء في الوقت الذي كانت فيه مقاليد الحكم في البلاد في يد عبد ربه منصور هادي، نائب الرئيس اليمني المخلوع. وانقسمت البلاد لتصبح تحت حكم نظامين.
ويقدم د. محمد يوسف عبد المنعم،الباحث بوزارة الري المصرية، الدراسة الثانية في هذا القسم بعنوان "الآثار الاقتصادية للسدود الأفريقية: سد النهضة ومعضلة الأمن المائي المصري" ليستهلها بتقرير أن استخدام الدول لمياه الأنهار التي تجري بإقليمها من الحقوق المقررة لها والثابتة بمقتضى مبادئ وأحكام القانون الدولي العام، إذ إن لها الحق في استغلال هذه الموارد بكافة الوسائل والطرق المشروعة لتحقيق التنمية الشاملة لصالح شعوبها، إلا أن هذه المبادئ نفسها قيدت هذا الحق بعدة ضوابط قانونية ضمانا لتحقيق الاستخدام المنصف والرشيد لكافة الدول المتشاطئة على مياه نفس الحوض.
وتوضح الدراسة أن إثيوبيا تشرف على العديد من الأنهار، حيث تقدر كمية المياه العذبة المتاحة بنحو 123 مليار م3/سنة، وتمثل الأمطار نحو 936 مليار م3/سنة. وعلى الرغم من ذلك فإن إثيوبيا لم تسخر إلا جزءا صغيرا فقط من هذه الإمكانات، حيث تستخدم نحو 5.6 مليار م3/سنة بنسبة 4.6% من إجمالي الموارد المائية المتاحة.
وهناك العديد من التحديات التي تواجه المشروعات الإثيوبية، منها تحدي التمويل، والتحديات البيئية، ثم التحدي المتعلق بالعلاقات مع دول الجوار. ونجد أنه فيما يرتبط بالتحدي الأخير أنه لا يتوفر إطار مؤسسي حقيقي يجمع بين دول حوض النيل لحسم عملية توزيع المياه واستغلالها، ولاسيما في ظل وجود بعض الدعوات التي تظهر من وقت إلى آخر في بعض دول المنبع إلى المطالبة بحق هذه الدول في التعامل مع مياه النهر عبر إجراءات منفردة. أضف لذلك أن إثيوبيا التي تسهم وحدها بأكثر من 80% من جملة إيرادات النهر في مصر والسودان، تمثل عقبة حتى الآن أمام قيام تنظيم قانوني حقيقي يجمع كل دول الحوض، حيث ترى أن من حقها الاستفادة من هذه المياه في محاولة منها نحو القفز على القوانين الدولية المنظمة لاستغلال مياه الأنهار المشتركة.
أما في القسم الثالث المعنون "الاقتصاد الدولي" فيقدم الدراسة الأولى فيه الاقتصادي المصري الكبير د. سمير أمين بعنوان "المآلات المحتملة للنظام الاقتصادي الدولي" والتي يحاول أن يستشرف فيها ملامح حركة النظام الاقتصادي الدولي في المستقبل.
فيشير إلى أزمة النظام الرأسمالي العميقة الثانية في عام 1971، مع تخلي الولايات المتحدة عن قاعدة الذهب لتحويل الدولار، أي بعد قرن كامل تقريبا من بداية الأزمة الأولى. حيث هبطت معدلات الأرباح والاستثمار والنمو (ولم تعد أبدا لقيمتها التي كانت عليها خلال السنوات 1945/ 1975). ورد رأس المال على التحدي كما في الأزمة السابقة، بحركة مزدوجة للتركيز والعولمة، وهكذا أقام هياكل "المرحلة السعيدة" الثانية (1990/ 2008) للعولمة المؤمولة. واستمعنا للخطاب القديم مرة أخرى: فالسوق هو الذي يضمن الرواج والديمقراطية والسلام؛ إنها "نهاية التاريخ".
ويعود الكاتب لتقويم تجربة باندونج وعدم الانحياز في النهوض الوطني، لبيان أسباب نجاحها وحدود إنجازاتها وكذلك تحديد نواقص خططها. وتحتل الصين مكانة الصدارة في الحوارات حول هذه القضايا، وذلك بسبب الطابع الجذري لمشروعها في الصعود المستقل، وذلك من الأصل، أي منذ انتصار ثورتها عام 1949. بيد أن هناك أسئلة لابد من طرحها حول الهدف النهائي للمشروع وتخيل القيادات الصينية المتتالية للاستراتيجيات المطلوبة من أجل إنجازه.
واليوم، هل المشروع مشروع صعود في إطار العولمة القائمة – الرأسمالية والإمبريالية الطابع – وبالاعتماد على وسائل الإدارة الرأسمالية للشئون الاقتصادية (الملكية الخاصة، حرية المبادرات الرأسمالية إلخ)؛ ولو في شكل تلازمه بعض التنازلات الاجتماعية لصالح الطبقات الشعبية (على الجبهة الداخلية) وبعض المكاسب المنزوعة عبر مفاوضات دولية قاسية (على الجبهة الخارجية)؟ أم هو مشروع لا يزال يسعى إلى إنجاز صعود شامل يلازمه قدر من البصيرة الثاقبة وإدراك تعارضه مع استراتيجيات الإمبريالية؟ أهو مشروع قائم بالأساس على تدخل فاعل للدولة في إدارته؟ حتى تقوم الدولة بوظيفة بورجوازية وطنية في سبيل البناء؟
تحتل بعض الدول الأخرى – ولاسيما الهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا – بالإضافة إلى بلاد أخرى تبدو هي الأخرى "في الصعود" – مثل المكسيك وتركيا وتايلاند وماليزيا– مكانها في الحوارات الحارة المعاصرة. ولكن النغمة بالنسبة لهذه الأمثلة تختلف عما هي عليه في المناقشات حول مستقبل دور الصين. فهنا تسود روح خطاب الليبرالية حيث تطرح هذه الأمثلة بصفتها نماذج لصلاحية نظرية "العولمة السعيدة"، بمعنى أن نجاح الدول المذكورة في تحقيق معدلات نمو مرتفعة يعزى إلى قبولها قواعد إدارة العولمة الرأسمالية القائمة.
ولا تزال روسيا مترددة ومتريثة بين مشروع اندماج سافر في العولمة القائمة وبين مشروع دعم رأسمالية دولة مستقلة. أما صعود الهند والبرازيل فيبدو مشكوكا في صحته وقدرته على الدوام. يضاف إلى ذلك أن جنوب أفريقيا لم تخرج بعد عن الوراثة المتوقفة عند نمط اندماج نظام الأبارتهايد السابق في العولمة الإمبريالية. كما أن إجهاض مشروعات النهضة في الشرق الإسلامي (مصر، الجزائر، تركيا، إيران) وفي أفريقيا بصفة عامة يوضح أن مخطط جيو استراتيجيا الغرب الإمبريالي بالنسبة إلى هذه المنطقة والدول المكونة لها لا يسعى إلى تدعيم مشروعات صعود محلية، بل على عكس ذلك يسعى إلى تدمير منهجي لكيانات مؤسسات الدولة والمجتمع، وذلك من خلال تحريك بدائل مزيفة، ومنها الإسلام السياسي الرجعي.
الدراسة الثانية في هذا القسم بعنوان "الاقتصاد الهندي.. نمو متزايد ومعوقات تلقي بظلالها على المستقبل"، كتبها الخبير الاقتصادي الأستاذ ضياء حسني، مساعد رئيس تحرير مجلة الديموقراطية. وتذهب الدراسة إلى أن الخلل الرئيسي الذي يعوق انطلاق الاقتصاد الهندي لآفاق أوسع، يكمن في ضعف قدرات الاقتصاد على زيادة الإنتاج من السلع والخدمات، إذ يعاني من وجود الكثير من المعوقات. بعض تلك المعوقات تمس الهيكل المادي للقدرات الإنتاجية (مثل: الطاقة، النقل والمواصلات، توفر الأراضي للمشاريع الجديدة ومخازن البضائع)، وبعضها يمس رأس المال البشري (التعليم والتدريب)، هذا بالطبع بجانب عمليات الإدارة البيروقراطية والقوانين المعوقة للعمليات الإنتاجية.
وفي النظر للمعوقات أمام النمو الاقتصادي في الهند يرى البعض أن الخلل الهيكلي في بنية الاقتصاد، هو السبب الرئيسي في توقف معدلات النمو عن الاستمرار في مستواها المرتفع. فالحديث عن قدرات النقل وحجم الطرق وصلاحيتها يعد من أهم المشاكل أمام الاستثمارات في الهند، كما أن خطوط السكك الحديدية الهندية، بالرغم من أنها أطول خطوط السكك الحديدية في العالم، إلا أنها ليست بالكفاءة المطلوبة، وتعمل عبر نظام للدعم الحكومي، وبالتالي قدرة التطوير ضعيفة، كما أن نصيب النقل عبر السكك الحديدية مازال محدودا. كذلك، فإن الطرق وإدارتها تعكس عدم كفاءة كبيرة، فالطرق السريعة في الهند تمثل 2% من طول شبكة الطرق الإجمالية، وهي مع ذلك تحتل 40% من حجم حركة النقل على الطرق. بجانب هذا، فإن النظام الكونفدرالي في الهند يسمح بوجود نظام جمركي مختلف من ولاية لأخرى، مما يسبب حالة من حالات الارتباك للمستثمرين.
وتعد الصورة قاتمة بوجه خاص في قطاع الكهرباء، حيث يصل نقص الطاقة الكهربائية في أوقات الذروة إلى 11%، مع انقطاع متكرر، يصل في بعض الأحيان إلى عشر ساعات يوميا (وفقا لكل ولاية). وهناك حوالي 400 مليون مواطن محرومون من التيار الكهربائي في الريف الهندي. كما أن هذا النقص يعد من بين أهم مشكلات التصنيع الأساسية.
هذا في الوقت الذي ما يزال مستوى الفقر مرتفعا للغاية، حيث إن ثلث فقراء العالم من الهنود، كما أن مستوى الفقر في الهند يعد هو الأعلى مستوى ضمن دول الاقتصاديات الصاعدة. ويقدر عدد السكان الهنود الذين يعيشون على أقل من 2 دولار أمريكي يوميا بنحو 800 مليون مواطن في عام 2010، أي ما يقدر بنحو 68.8% من عدد السكان (بعد أن كان يبلغ 79.9% في عام 2004)، في حين أن تلك النسبة تقترب من 30% في الصين وجنوب إفريقيا، وتصل إلى21% في البرازيل خلال الفترة من 2009 وحتى 2014.
وفي الدراسة الثالثة والأخيرة في هذا القسم يشرح الباحث الاقتصادي الأستاذ محمد يحيى كرداسي في دراسة بعنوان "روسيا الاتحادية... بين طموح التوجهات واضطراب الواقع" الموقف الذي يمر به الاقتصاد والمجتمع والسياسة الروسية في اللحظة الراهنة. وتبدأ الدراسة بالتأكيد على أن الاقتصاد الروسي يعاني من أزمة اقتصادية مستمرة منذ عدة سنوات تراجعت فيها معدلات النمو والاستثمار وارتفعت معدلات الفقر تأثرًا بالتراجع الحاد في أسعار النفط، وكذا العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية. وفي ظل ضعف الاقتصاد الروسي تطمح روسيا إلى تعزيز تعاونها مع اقتصادات قوية عبر تحالفات استراتيجية في إطار ثنائي مثلما الحال مع الاقتصاد الصيني، أو عبر تكتلات اقتصادية-سياسية تجمع بلدانا عدة كما هو الحال مع تجمع البريكس، أو تجمعات إقليمية كما هو شأن منظمة شنغهاي للتعاون الإقليمي، وذلك تعزيزا لرؤيتها الاستراتيجية وتوجهها العام بشأن إعادة توازن للقوى على المستوى الدولي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو.
وتشير الدراسة إلى أنه نتيجة للتدهور الاقتصادي شهدت البلاد ارتفاع عدد المواطنين الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى نحو 23 مليون فرد في الربع الأول من عام 2016، ليصل معدل الفقر إلى نحو 16% وهو أعلى معدلاته في السنوات العشر الأخيرة وهو ما يعزي إلى تأثير الانكماش الاقتصادي على القدرة الشرائية للقطاع العائلي.
وبعد استعراض للأوضاع الاقتصادية والسياسة الخارجية لروسيا وتوجهاتها الاقتصادية والسياسية تذهب الدراسة إلى التأكيد على سعي روسيا الحثيث والجاد نحو إيجاد موطئ قدم لها على قمة النظام الدولي الحالي، ليساعدها ذلك فيما بعد وعلى المدى المتوسط والطويل، وبالتعاون مع قوى أخرى، على تغيير هيكل النظام الدولي القائم واستبداله بنظام دولي متعدد الأقطاب يراعي مصالح كافة أطرافه من القوى الكبرى، وذلك دون تفرد إحدى تلك القوى بالهيمنة على النظام من ناحية، ودون إحداث حالة من الصراع أو الصدام بين تلك القوى فيما يتصل بقضية دولية هنا أو هناك على خريطة العالم من ناحية أخرى.