د. محمد كمال

أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة

لسنوات طويلة وصفت الولايات المتحدة علاقتها بمصر بأنها "علاقات صداقة"، أو "علاقات خاصة"، أو "علاقة شراكة استراتيجية". وقد استندت هذه التوصيفات على رؤية أمريكية سعت لتحقيق عدد من المصالح في علاقتها بمصر. وقد أشارت إحدى الدراسات التي أعدتها مؤسسة الأبحاث التابعة للكونجرس الأمريكي لأهم هذه المصالح، ومنها:

- الاستفادة من الدور القيادي لمصر في الوطن العربي، حيث إنه في أغلب الأحيان تنظر الدول العربية الأخرى إلى مصر على أنها صاحبة المبادأة أو الدولة التي تمثل النموذج الذي تحتذي به الدول العربية فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية.

- الحفاظ على الصوت المصري المعتدل في المؤسسات والمجالس الإقليمية العربية، وفي بعض الأحيان الاعتماد على مصر  لإقناع الدول العربية الأقل اعتدالًا بحكمة التوصل لحلول وسط.

- الحفاظ على معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، ومساندة عملية السلام في الشرق الأوسط.

- التعاون العسكري بين البلدين لمواجهة التهديدات التي تشهدها المنطقة.

ولكن السنوات الأخيرة في فترة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما شهدت ظهور بعض الأصوات الأمريكية التي طالبت بمراجعة الأسس التي تقوم عليها العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة، ورأت أن هذه الأسس قد تجاوزها الزمن، وأن أهمية مصر في المنطقة وفي الاستراتيجية الأمريكية قد تقلصت. ومن ثم، دعى هؤلاء لإعادة هيكلة العلاقات الثنائية بين البلدين، خاصة فيما يتعلق بالمعونات الأمريكية استنادًا للمتغيرات الجديدة. وفي هذا الإطار، جاءت إشارة أوباما في حديث صحفي في سبتمبر 2012  إلى أن مصر ليست حليفًا أو عدوًا للولايات المتحدة.

وقد شهدت العلاقات المصرية- الأمريكية تراجعًا في الفترة الثانية للرئيس أوباما، خاصة بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر، وقيام الإدارة الأمريكية بتجميد المعونات العسكرية لمصر، ووضع عدد من الشروط لإنفاق هذه المعونة في المستقبل، ومنها إلغاء ما يعرف بآلية "التدفق النقدى Cash Flow" وهى الميزة التي أتاحت لمصر التعاقد على أسلحة في عام معين وأن تدفع قيمتها في السنوات التالية بدلًا من الدفع في الحال، وإعلان الولايات المتحدة أنه ابتداءً من عام 2018، فإن المعونة العسكرية لمصر ستوجه لأربعة مجالات فقط، هى مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، وأمن سيناء، والأمن البحري، بالإضافة لصيانة الأسلحة الموجودة بالترسانة المصرية. واستهدف ذلك وضع قيود على حصول مصر على نظم تسليح معينة والتركيز على نظم أخرى بحجة التحديث ومواجهة التحديات التي تواجهها المنطقة وخاصة الإرهاب.

وبالرغم من أن الإدارة الأمريكية عادت واعترفت بالأوضاع الجديدة بمصر، خاصة بعد انتخاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث قرر أوباما استئاف المعونة وصفقات السلاح، إلا أن العلاقة بين البلدين اتسمت بقدر كبير من البرود. وقد زار الرئيس السيسي الولايات المتحدة ثلاث مرات منذ توليه الحكم، ولكن اقتصرت الزيارة على نيويورك مقر الأمم المتحدة، وليس واشنطن مقر الحكومة الأمريكية وهو ما عكس حالة التراجع الذى شهدته العلاقات مع الإدارة الأمريكية. ولم يفلح الاجتماع الذي عقد بين السيسي وأوباما في نيويورك عام 2014 في إذابة الجليد بينهما، أو بين البلدين.

الآن وبعد تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة يثور السؤال حول رؤية إدارته لمصر؟ وإلى أي مدى سوف تختلف عن رؤية أوباما، أو الرؤية التي حكمت العلاقات بين البلدين لسنوات طويلة؟

وبالرغم من أن إدارة ترامب لم يصدر عنها حتى الآن أي رؤية متكاملة للسياسة الخارجية بما في ذلك علاقتها مع مصر، إلا أن هناك عددًا من المؤشرات التي يمكن أن نستنتج منها بعض ملامح رؤيتها لمصر ودورها الإقليمي.

أحد هذه المؤشرات ظهرت في اللقاء بين الرئيس السيسي والمرشح الجمهوري في ذلك الوقت دونالد ترامب أثناء زيارة الرئيس المصري لنيويورك (سبتمبر 2016)، حيث صرح  المرشح ترامب بعد اللقاء "أنه لمس وجود كيمياء وانسجام بينه وبين الرئيس السيسي"، و"أن اللقاء مع السيسي كان مثمرًا" وأكد دعمه "للحرب التي تخوضها مصر ضد الإرهاب"، وأشار إلى أنه في حالة فوزه بالرئاسة ستكون  الولايات المتحدة "صديقًا وفيًا، وليس مجرد حليف يمكن لمصر الاعتماد عليه في الأيام والسنوات المقبلة".و انتقد ترامب سياسة إدارة أوباما تجاه تغيير النظام في مصر، واتهمها بالتخلي عن أحد حلفائها في المنطقة ومساعدة الإخوان المسلمين للوصل للحكم.

ترامب إذن يرى مصر كحليف للولايات المتحدة، ولكن الرئيس الأمريكي الجديد ينظر للعلاقة مع أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة على أنها صفقة تقوم على منطق "هات وخد" ، أو أنها علاقة تبادلية تفرض على الحلفاء أيضًا التزامات ومسئوليات تجاه الولايات المتحدة، وأنه سيحدد طبيعة علاقة بلاده بحلفائها استنادًا لمدى الوفاء بهذه الالتزامات.

وفي هذا الإطار فإن إدارة ترامب تتوقع دورًا مصريًّا فيما يتعلق بثلاثة ملفات إقليمية تعطيها أهمية في منطقة الشرق الأوسط.

الملف الأول،  يتعلق بقضية مكافحة الإرهاب، والتي يعتبرها  ترامب أحد أولوياته. ويؤمن بأن القوة العسكرية هى الأداة الأساسية  "لمحو" داعش. ولكن ترامب يتفق مع سلفه أوباما في أنه لا يريد استخدام قوات أمريكية على الأرض في الحرب على الإرهاب خوفًا من الخسائر البشرية أو احتمال التورط في نزاع ممتد  يشبه ما حدث في العراق. ويرى ترامب أيضًا أن الصراع ضد الإسلام الراديكالي هو صراع فلسفي وفكري  كما كان الحال أثناء الحرب الباردة في مواجهة الشيوعية. وشدد ترامب على أهميه التعاون مع دول العالم الإسلامي التي يهددها خطر الإرهاب، ولكنه أشار إلى أن هذا التعاون هو طريق ذو اتجاهين، بمعنى أن حلفاء المنطقة المهددين بهذا الخطر يجب أن يبذلوا جهدًا أكبر في مواجهته وليس الاعتماد فقط على الولايات المتحدة.

خلاصة ما سبق أن إدارة ترامب تتوقع أن تلعب مصر دورًا رئيسيًّا في مكافحة الإرهاب في إطار الرؤية السابقة.  والمطلب الأساسي لترامب من حلفائه في المنطقة، ومنهم مصر، قد يتعلق بالمساهمة بقوات برية في مكافحة داعش سواء في سوريا أو العراق وربما في اليمن، وهو أمر تتحفظ عليه بعض الدول ومنها مصر. وقد يدخل في هذا الإطار أيضًا المطالبة بالمشاركة في تأمين "المناطق الآمنة" التي اقترح ترامب تطبيقها في سوريا واليمن.

سوف تتوقع إدارة ترامب أيضًا دورًا قياديا مصريًّا فيما يسمى بالحرب الفكرية ضد الإرهاب من خلال مؤسساتها الدينية مثل الأزهر، وما أعلنه الرئيس السيسي من قبل بخصوص تجديد الخطاب الديني.

الملف الثاني، هو ملف عملية السلام العربي – الإسرائيلي. وبالرغم أن المؤشرات الأولية الصادرة من ترامب سارت في اتجاه عدم إعطاء أولوية لهذا الملف، إلا أن أحاديث تاليه له أوضحت أنه يتطلع لتحقيق إنجاز بخصوصه، وأن الملف مازال له جاذبية بالنسبة لترامب. وفي هذا الإطار، قام ترامب بتعيين مبعوث جديد لعملية السلام في الشرق الأوسط، وطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بوقف الاستيطان، فضلا عن حديثه عن قبوله بما سيقبل به الفلسطينيون والإسرائيليون كحل للصراع بينهما سواء في إطار دولتين أو دولة واحدة !!

ومن ثم، فإن إدارة ترامب سوف ترحب باستئناف عملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، وتتوقع قيام مصر بدور في إطارها، وكذلك في تشجيع عملية التقارب والتطبيع بين إسرائيل والدول العربية كإجراءات لبناء الثقة قبل التوصل لحل للقضية الفلسطينية.

الملف الثالث،يتعلق بإيران، ويتوقع ترامب قيام حلفاء الولايات المتحدة بمساندة سياسته الجديدة القائمة على مواجهة إيران، والتي بدأت بفرض عقوبات اقتصادية عليها وعلى مجموعة من الكيانات الدولية التي تساعدها في تطوير برنامجها الصاروخي. والأمر هنا لا يرتبط  فقط برؤية ترامب، فوزير دفاعه "جيمس ماتيس" James Mattis  يتبنى سياسة المواجهة العسكرية مع إيران منذ كان قائدًا لقوات القيادة المركزية الأمريكية التي تعمل في الشرق الأوسط في عهد الرئيس أوباما، وأسهمت مواقفه المتشددة تجاه إيران وتوصياته بالاشتباك العسكري معها إلى قيام أوباما بإقالته من منصبه. الآن قد تتاح له الفرصة لإحياء وتنفيذ هذه التوصيات، أو على الأقل الطلب من الحلفاء، ومنهم مصر، المساهمة بقوات عسكرية في تأمين مياه الخليج والبحر الأحمر، أو المشاركة في مهام بحرية بالمنطقة لردع إيران، وهو ما نفذه بالفعل عام 2012 بمشاركة 29 دولة. وقد يسعى ترامب لتكرار ذلك مرة أخرى.

وأخيرًا، فإن إدارة ترامب تتوقع عودة بعض جوانب التعاون العسكري مع مصر والتي تجمدت في عهد الرئيس السابق أوباما، ومنها مناورات النجم الساطع وزيادة التعاون الأمني والمخابراتي مع تركيزها على مكافحة الإرهاب.

الخلاصة، هناك فرصة كبيرة لتطوير العلاقات المصرية الأمريكية في ظل إدارة ترامب، إلا أن هذه الفرصة سوف ترتبط بشكل كبير بكيفية تعامل مصر مع التوقعات الأمريكية بشأن دورها في المنطقة.