كانت المفاجأة شبه مكتملة عندما تقدمت الفصائل العسكرية المعارضة في جبهة دمشق، لتتراجع أمامها قوات النظام السوري والقوات الأجنبية المتحالفة معه. فعندما كان العالم يستعد لغلق الملف السوري لصالح انتصار نظام الأسد في مشهد تاريخي باستعادته لحلب، والبدء في دفع عجلة المفاوضات في كل من الأستانة وجنيف، عادت المعارك العسكرية لتتصدر المشهد. فيما كان المعارضون السوريون يراجعون أوراقهم ويفحصون كشف حساب الثورة، وأين أخطأت؟ وكيف تعثرت؟ ولماذا تعسكرت؟ عاد من جديد المشهد العسكري في الصدارة لكن ليس في حلب بل من دمشق. قارن المراقبون مشهد تقدم المعارضة في دمشق بعملية تفجير "خلية الأزمة" في صيف عام 2012، عندما ترنح النظام السوري وتبعثرت أوراقه العسكرية مما استدعى دعمًا إيرانيًّا متناميًّا ليتماسك في موقعه. حينها انتظر الكثيرون أن تكتمل عمليات توغل الفصائل المقاتلة في دمشق بسقوط النظام، ولكن سريعًا ما انتقلت المعركة إلى حلب، ثم بمجرد أن أغلقت صفحة حلب منذ ثلاثة أشهر، أعيد فتح صفحة دمشق على نحو فاجأ الكثيرين سواء مؤيدين أو معارضين للنظام السوري.
تقدمت فصائل مسلحة معارضة في الأحياء الشرقية للعاصمة السورية، وتوغلت محرزة بعض المكاسب في منطقة تضم بعض المقار العسكرية ذات الطبيعة الاستراتيجية للنظام، حتى أجبرته على تنفيذ إعادة تموضع لقواته ولبعض القوات المساندة له، مثل نقل الضباط الروس من سكنهم المعتاد إلى سكن آخر. فيما حقق هذا التقدم الآني للمعارضة اتصالًا جغرافيًّا بين بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها سابقًا، كجوبر والقابون، مع مناطق جديدة ففكت الحصار الذي فرضه النظام على بعض النقاط وكسبت نقاطًا جديدة.
وفي التحليل الأولي لهذا التقدم يمكن القول إنه لم يكن متوقعًا، خاصة أن النظام والقوات المساندة له كانت في لحظة استرخاء تنتظر أن يؤتي ضغطها المتواصل على الغوطة الشرقية ثماره فتقبل الفصائل فيها الانسحاب، ويقبل سكانها التهجير القسري إلى مناطق تحت سيطرة المعارضة في إدلب. فعقب طي صفحة حلب ونجاح النظام السوري في خطته للسيطرة عليها، كان الروس يمهدون لاستئناف المفاوضات السياسية في محطة الأستانة ثم جنيف، بينما كان النظام، ومن ورائه إيران، يمهد لإطباق الحسم العسكري على الغوطة الشرقية كي يحكم السيطرة على كافة الجيوب المحيطة بالعاصمة. ولذا لم يكن من المصادفة أن يتم إعلان الهدنة برعاية تركية- روسية في عموم سوريا فيخرقها النظام تحديدًا في ريف دمشق. ففعليًّا لم تعرف الهدنة المفترضة طريقها إلى ريف دمشق منذ أن أُعلنت في نهاية عام 2016.
من جهة ثانية كانت بوصلة المعارك التي تقودها الفصائل المعارضة تتجه برعاية تركية نحو تطهير مناطق الشمال السوري من وجود داعش، فيما كانت تقترب هذه الفصائل من مناطق تنتشر بها قوات النظام دون أن ينشأ عن ذلك أية اشتباكات. كان ذلك بضمانة أمريكية، حيث انتشرت قوات أمريكية محدودة في منبج لتضمن عدم الاشتباك بين الأطراف العديدة المنضوية في الحرب على داعش ولكنها معادية لبعضها البعض في سياقات أخرى كالوحدات الكردية والفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وقوات النظام والمجموعات المدعومة من إيران التي تساند النظام السوري. ولذا فالمعركة التي كانت متوقعة هي معركة القضاء على داعش ضمن معاقلها في الرقة، بموازاة معارك القضاء على داعش في الموصل.
من جهة ثالثة، لم تكن الفصائل المنفذة للتوغل العسكري في شرق العاصمة على وفاق تام، بل خلقت فيما بينها تحالفًا جديدًا لتعود به إلى تصدر المشهد، بعد أن كانت مهددة بالإجلاء من مناطقها وإنهاء سيطرتها على ريف دمشق الشرقي. وفيما تفرض هذه الفصائل تكتمًا كبيرًا على مسوغات تحالفها وخطتها المستقبلية في هذه المعركة، لا يـُتوقع أن تحقق حسمًا عسكريًّا بالمعنى المعروف رغم رهانها الكبير على عنصر المفاجأة. فهذه الفصائل كانت محاصرة لفترات طويلة، ولا تملك بالضرورة مخزن الذخيرة الكبير الذي كان متاحًا لفصائل حلب شمالًا، والتي انتهى بها الحال إلى الإجلاء. ومن ثم، فإن خططها للإمداد ترتبط بالضرورة مع خططها للتقدم في مساحات النظام في العاصمة، كي تحصل على الذخيرة التي تمكنها من شراء الوقت لانتصارها العسكري. وبالتالي فإن صمودها في النقاط التي كسبتها خلال اليومين الماضيين مرتبط بمدى تقدمها وسيطرتها على مخازن ذخيرة النظام.
أضف إلى ذلك أن ضلوع النسخة الأحدث من جبهة النصرة، هيئة تحرير الشام، في هذه المعارك بشرق العاصمة يضيف المزيد من التعقيد إلى المشهد، بسبب تزايد الشكوك حول هوية هذا التنظيم ومدى جدية خطواته لفك ارتباطه بالقاعدة ومدّ الجسور مع الفصائل السورية الأكثر اعتدلًا. ولذا فالتحالف العسكري الوليد المشارك في عملية دمشق، والذي يضم هيئة تحرير الشام وفيلق الرحمن وأحرار الشام، سيشهد اختبارًا حقيقيًّا ليثبت جدارته العسكرية في هذه المعركة، كي يخلق لنفسه موقعًا سياسيًّا وقبولًا شعبيًّا. ولكن في حال استطاعت هذه الفصائل أن تسيطر على مواقع استراتيجة للنظام وتحافظ على سيطرتها على هذه المواقع، فإنها ستصطدم بالتفوق الجوي للنظام عليها، فإذا كان من غير المتوقع أن يُقدم النظام على قصف بعض المواقع التي تكسبها هذه الفصائل في قلب دمشق، فإنه بالتأكيد سيوجه قصفه الجوي ضد الريف الدمشقي وهو نقطة التمركز الأصلية لهذه الفصائل. ولذا يبدو أن حصيلة الخسائر البشرية ستكون كبيرة في الأيام القادمة، بما يعيد طرح السؤال حول مدى جدوى عسكرة الثورة السورية في ظل التفوق العسكري المتاح للنظام واستعداده المتواصل لاستخدام القوة العسكرية المفرطة لدك أحياء وقرى بالكامل.
وبصرف النظر عن مدى قدرة هذه الفصائل على توسيع عملياتها في العاصمة، فإن نجاح الفصائل في تحقيق هذا التقدم داخل العاصمة ينطوي على عدد من الرسائل المهمة التي وصلت باقتدار.
الرسالة الأولى، هي محاولة إقناع الروس أن سياسة النظام في التهرب من التزاماته بالهدنة لن تمر دون رد، بل قد ترتد عليه وتنفجر في مساحات لم يكن متوقعًا أن يفقدها.
الرسالة الثانية، إن الثقة الكبيرة التي اكتسبها النظام السوري عقب معارك حلب لم يلبث أن فقدها في العاصمة بعد أسابيع قليلة واضطر إلى تنفيذ إجراءات احترازية وتحصينات مضاعفة في عقر داره. ورغم أن الوجود العسكري الروسي لم يُمس حتى هذه اللحظة بفعل تقدم الفصائل في العاصمة، فإن هذه الجرأة العسكرية للمعارضين قد تفرض على الروس إعادة النظر في حدود دعم النظام، وربما إجباره على تغيير خططه في التهجير القسري للمناطق التي يدخلها كشرط لوقف عملياته العسكرية الجوية ضدها.
الرسالة الثالثة، إن هناك فصائل كثيرة لا تزال غير مقتنعة بما يقدمه لها المجتمع الدولي ضمن حزمة الحل السياسي وسلسلة المفاوضات التي لم تبلغ حتى بعد مناقشة البند الأول في سلال جنيف وهو هيئة الحكم الانتقالي. وبالتالي لن توقف هذه الفصائل استخدامها للقوة العسكرية متى أيقنت أن النصر، ولو كان جزئيًّا ومؤقتًا، سيكون حليفها.
الرسالة الرابعة، إنه أيًّا ما كان الحل السياسي الذي يجهز له المجتمع الدولي في سوريا، فإنه لابد أن يأخذ في اعتباره مسألة التسخين المفاجئ للجبهات الساكنة من جانب المعارضة، سواء بالتنسيق المسبق مع تركيا والسعودية أو بدونه. وهو الأمر الذي بدا جليًّا من عملية السيطرة على شرق العاصمة والعملية الجديدة في ريف حماة وهي الجبهات التي كانت ساكنة نسبيًّا منذ فترة.
ولكن الرسالة التي لم تتحدد ملامحها بعد، هي مدى قابلية هذه المعارك العسكرية أن تنعكس بمكاسب سياسية للمعارضة في جولة جنيف القادمة، فمن المعروف أن التحالف العسكري الوليد في ريف دمشق والذي أجبر النظام على التقهقر في بعض النقاط، يتبنى آراء مختلفةً تجاه عملية جنيف. فقد سبق وأن أعلنت "هيئة تحرير الشام" رفضها التام لمحاولات التفاوض مع النظام واعتبرتها مؤامرة دولية ضد السوريين. بينما سبق ووافقت حركة "أحرار الشام" على الالتزام بالهدنة التي مهدت للجولة السابقة من جنيف. ومن ثم، فإنه من غير المعروف أن تقبل هذه الفصائل استثمار تقدمها العسكري في دمشق على طاولة جنيف أو أن تعترف بشرعية المفاوضين عن المعارضة، خاصة أن "جيش الإسلام"، والذي يمتلك تمثيلًا داخل وفد المعارضة إلى جنيف ويملك حضورًا عسكريًّا معتبرًا في الغوطة الشرقية، تم استبعاده من هذه العملية الأخيرة ولم يعلم عنها شيئًا قبل أن تقع. وبالتالي، فإن أهداف هذه العملية قد تكون محلية بحتة تستهدف استنزاف القوات الضالعة في حصار الغوطة الشرقية والتي كان من المفترض أن تنفذ اجتياحًا وشيكًا بها. وربما قد يكون لها أهداف بعيدة المدى والتأثير على المشهد السوري ككل وليس مجرد التأثير على توازن القوى في ريف دمشق الشرقي.
ولكن رغم كل ذلك، فإن عملية فصائل المعارضة الخاطفة في شرق دمشق قد بيّنت مواطن ضعف النظام الذي أُجبر على التقهقر في العاصمة قبل أن يستعيد بعض النقاط ثم يخسرها مرة أخرى. والعبرة هنا ليست في قدرة الفصائل المعارضة على الاحتفاظ بمواقع في شرق العاصمة أو الاقتراب من قلبها أو السيطرة النارية على الطريق الدولي بين دمشق وحمص، بل العبرة في إثبات بأن النظام ليس بالقوة التي يدعيها وأن تحصيناته المحيطة بالعاصمة، والتي من المفترض أن تكون التحصينات الأقوى، قد تعرضت للاختراق في غضون ساعات قليلة.