د. معتز سلامة

رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

شهدت الأيام الماضية مؤشرات على إمكانية رأب الصدع في العلاقات المصرية- السعودية، وتجاوز الخلاف القائم بين البلدين والذي استمر لأشهر وخرجت بعض أصدائه للعلن، على نحو وضع حدًا للتطور الكبير الذي شهدته هذه العلاقات إثر زيارة الملك سلمان لمصر في إبريل 2016. وفي هذا الإطار، يمكن رصد مؤشرين مهمين. كان المؤشر الأول هو موقف مجلس الوزراء السعودي من القرارات الصادرة في ختام أعمال الدورة الـ 147 لمجلس وزراء الخارجية العرب التي عقدت مارس الجاري (2017)، والتي تبنت قرارات راعت وجهات نظر ومصالح المملكة فيما يتعلق بالأزمتين اليمنية والسورية[1]، وذلك على الرغم من عدم حضور وزير الخارجية السعودي وبعض وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي أشار إلى اتجاه الجامعة إلى اتخاذ موقف من شأنه "لملمة" الصف العربي. وعلى الأرجح كان لمصر دور مهم في ذلك. وهو ما يعني أنه على خلاف التحليلات التي راجت حول اتجاه الجامعة إلى تبني قرار بإعادة النظام السوري أو عودة مقعد سوريا أو حضور بشار الأسد للقمة، فلا يزال هذا التوجه بعيدًا عن مركز الثقل في القرار داخل الجامعة، وأن مركز النظام العربي لا زال عند الموقف الذي اتخذته مؤسسته الرسمية بخصوص سوريا قبل سنوات.

وجاء المؤشر الثاني في 15 من الشهر ذاته، عندما قررت شركة "أرامكو" السعودية، استئناف توريد شحناتها البترولية إلى مصر، بعد خمسة أشهر من توقفها في أكتوبر 2016. وأكد وزير البترول المصري أنه تم الاتفاق على استئناف الجانب السعودي توريد شحنات المنتجات البترولية وفقًا للعقد التجاري الموقع بين هيئة البترول المصرية والشركة.وفي الوقت ذاته، حرص الوزير على الإشارة إلى أنه طبقًا لإفادة أرامكو، فإن تأجيل الشحنات كان لظروف تجارية خاصة بها، في ظل المتغيرات التي شهدتها أسعار البترول العالمية خلال الفترة الماضية، وقيام السعودية بتخفيض مستوى إنتاجها من البترول، بالتزامن مع أعمال خاصة بالصيانة الدورية لمعامل التكرير[2].

ويعني بيان الوزير استمرار التمسك بالرواية الرسمية التي أعلن عنها منذ اليوم الأول لتوقف أرامكو عن التوريد، وهي الرواية التي استهدفت الحد من الأثر السيئ الذي كان يمكن أن يترتب على الإعلان عن أن المملكة نفسها أوقفت تصدير النفط لمصر، بالإشارة إلى أن قرار وقف التصدير كان قرارًا من الشركة وليس من الدولة السعودية. كما أن التأكيد على أن وقف التوريد يعود لأسباب تجارية، وليست سياسية، حافظ على اللغة الدبلوماسية، وأفسح الباب للعودة وفق مبررات تضمن الحفاظ على صورة البلدين ولو شكليًّا على الأقل. وقد جرى استئناف التوريد بسرعة، واستقبلت مصر أول شحنتين من السولار السعودي قبل الموعد المحدد، والذي كان مقررا له مطلع إبريل 2017 على حد ما أعلنه الوزير المصري تاليًا[3].

ماذا يعني ما تقدم، وهل يشير قرار أرامكو إلى تحسن شامل في العلاقات المصرية- السعودية أم يجب تفسيره في حدوده "التجارية" التي لا تزال تتمسك بها وجهة النظر الرسمية؟

وجهات نظر ثلاث في شأن العلاقات المصرية – السعودية

خلال الأشهر الماضية، كانت هناك ثلاث وجهات نظر فيما يتعلق بالعلاقات المصرية- السعودية. وجهة النظر الأولى عبرت عن الموقف التقليدي الذي نسمعه دومًا مع كل خلاف بين البلدين، حيث تشدد على أن العلاقات بين البلدين هي علاقات لها خصوصيتها، وتتسم بأنها "أبدية" و"استراتيجية"، وأن عودتها أمر مفروغ منه وحتمي. وكانت الكلمة الأثيرة لدى البعض أن البلدين معا يمثلان "عمود الخيمة" العربية، على حد ما وصفها حزب الوفد المصري في بيان له صدر في أكتوبر 2016[4]، وهو التعبير نفسه الذي أطلقه د. مصطفى الفقي منذ أيام ليخص به البلدين معًا، بعد أن كان يطلقه ويخص به مصر فقط[5]. وفي السياق ذاته، اعتبر سامح شكري وزير الخارجية المصري، أن العلاقات العربية "تتعدى العلاقات الطبيعية"، في سياق إشارته إلى العلاقات المصرية- السعودية[6]. أما وجهة النظر الثانية، فقد رأت أن العلاقات مرشحة لمرحلة من الفتور الذي قد يصل إلى حد القطيعة. ورأت أنه لا خصوصية للعلاقات المصرية- السعودية، وأنها يمكن أن تتدهور إلى حد "الفراق الاستراتيجي"[7] أو المرور بفترة من الفتور والانحسار، وربما التنافس والصراع. وأخيرًا، ركزت وجهة النظر الثالثة على الإشارة إلى الخلل العلمي في هذه العلاقة، وأنها لم تُبن على أسس استراتيجية ومؤسسية، وإنما اكتفت بالاستناد إلى العلاقات الشخصانية والثقة المتبادلة بين القادة والزعماء، ومن ثم فإنها ستظل عرضة للإصابة بكل أعراض العلاقات العربية- العربية. ودعت وجهة النظر هذه إلى ضرورة بناء العلاقات بين أكبر بلدين عربيين على أسس استراتيجية جديدة كضمانة للنظام العربي كله[8].

يعيب وجهة النظر الأولى أنها مفرطة في التفاؤل والثقة؛ وتتصور أن العلاقات المصرية- السعودية قائمة على أسس صلبة تمكنها من تحمل كل الصدمات والهزات، ومهما كان هناك من أخطاء وقعت على الجانبين، فإن العلاقات مكتوب لها أن تظل أبدية ومصيرية وكأنها "زواج كاثوليكي". وفي الحقيقة، فإن وجهة النظر هذه قائمة على قدر كبير من روابط المشاعر والعواطف العربية التي لم تعد تُبنى عليها علاقات الدول العربية نفسها، خصوصًا مع تنامي أدوار النخب السياسية والإعلام والرأي العام ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي كلها عوامل لم تعد تجعل العلاقات حكرًا على القادة حتى في أكثر الدول دكتاتورية وسلطوية. وقد وقعت وجهة النظر هذه في أخطاء كثيرة؛ أبرزها أنها لم تقدم حلولًا للمشكلات التي تتعرض لها العلاقات بين البلدين من حين لآخر، وأعطت في المقابل مبررات لبقاء هذه المشكلات، وافترضت أن كل جانب سوف يتحمل إلى آخر المدى، انطلاقًا من أن هناك قانونًا مثل قوانين الطبيعة أو قوى "خفية" لا تسمح بانهيار العلاقات بين البلدين.

مشكلة وجهة النظر هذه أيضًا أنها مغلقة؛ فهي غير قابلة للتعلم من دروس وخبرات الماضي، لأنه بعد كل أزمة مصرية- سعودية تعود العلاقات مجددًا، ولا يتمكن المسئولون عن الإضرار بالعلاقات من إدراك كم طرحوا من أعباء على الآخر، وكم تسببوا في خسارة مكاسب كان يمكن أن تجنيها علاقات البلدين لو لم تمر بفترة الأزمة، حيث تضطر الدولتان للبدء من الصفر، وتتعرض الثقة الشخصية بين القادة للاهتزاز. وعلى الرغم من مشكلات وجهة النظر هذه، إلا أنه يبدو أنها كانت جزءًا من تقديرات الكثيرين، على نحو لم يساعدهم على إدراك مصادر المشكلات المتكررة في علاقات البلدين ارتكانًا إلى نظرية "أبدية" العلاقات، أو إيمانًا بصواب هذا النمط من العلاقة على أساس أنه الأجدى في التعامل مع الآخر وفقًا للخبرة التاريخية.

أما وجهة النظر الثانية،فعلى الرغم من أنها تتسم بدرجة من الواقعية من جهة تأكيدها على أنه لا خصوصية للعلاقات المصرية- السعودية، بالشكل الذي يدفع الناس على الجانبين لأن يتحملوا من بعضهما ما لا يطيقون تحمله في ظل العلاقات الطبيعية بين الدول، وأيضًا من جهة أخذها تجارب الماضي في الاعتبار، حيث مرت العلاقات المصرية- السعودية بفترات تنافس وخلاف وصلت حد الحرب على الساحة اليمنية خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، لكن يعيبها أنها اندفعت في الفترة الأخيرة برؤى أيديولوجية موظّفة سياسيًّا، انطلقت من رغبة فعلية من جانب البعض لإعمال معاول الهدم في هذه العلاقات وتوسيع الفجوة بين البلدين كجزء من حملاتهم ضد أحد النظامين طرفي العلاقة، ودلائل ذلك أنها شهدت دخول عناصر غريبة اندفعت بمصلحة ملحة في هدم هذه العلاقات. وعلى وجه التحديد، شمل ذلك المتعاطفين مع جماعة الإخوان ودولة قطر، على نحو ما بدا في إعلامهم الفضائي وأدواتهم في التواصل الاجتماعي. ويمكن هنا الإشارة إلى تقارير مختلفة لقناة الجزيرة للنفخ في الخلاف المصري- السعودي، وإلى تقدير موقف أعده أحد مراكز الدراسات التابعة لدولة قطر، رجح احتمال أن تشهد العلاقات بين مصر والمملكة مرحلة من "الافتراق الاستراتيجي"[9]، قبل أن يطرح ذلك كاحتمال ممكن وفق التقدير الاستراتيجي لأي من الجانبين. وفي الحقيقة، فلقد انتبه البعض إلى محاولات تخريب العلاقات المصرية السعودية قبل فترة طويلة من الأزمة التي برزت في عام 2016[10].

مع ذلك، فإن إنكار وجهة النظر هذه والعتب على أنصارها الجدد، لا يعني أنها لا تحمل وجهة نظر "تنبيهية" مهمة تدق أجراس الخطر، وتلفت النظر إلى "السيناريو الأخطر" في العلاقات المصرية- السعودية، ومن ثم هي تتضمن دعوة للواقعية، من خلال التأكيد على أن أعباء العلاقة أصبحت من الجسامة إلى حد يجعل فكرة "الافتراق الاستراتيجي" إحدى الخيارات المطروحة أمام القادة والمسئولين، وليس مستبعدًا أن يكون بعض هذه التحليلات قد روج لها بعض المسئولين في إحدى الدولتين كلافتة حمراء في وجه الآخر تحذره من التمادي في الخط والأسلوب ذاته.

أما وجهة النظر الثالثة، فإنها تستند إلى التحليل والقراءة العلمية لعلاقات البلدين، وتضع يدها على جوانب القصور القائمة فيها؛ إنها لا تنطلق من الإيمان بنظرية "الحتمية والجبرية" في العلاقات المصرية- السعودية بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الدينية والشخصية، ولا ترجح مقولة أن البلدين مجبولان بالضرورة على علاقات قد تجعلها خلافات أطرافها عبئًا مكلفًا، ولم تعد محل رضا داخلي، مع دخول الرأي العام والنخب كأحد مداخل صناعة القرار، ومع تبدل توازنات القوى عما كان سائدًا في حقبة الستينيات (على نحو ما تذهب وجهة النظر الأولى). كما أنها لا تحمل وجهة نظر سياسية تستهدف استثمار الخلاف في العلاقات لأجل تعميق وتوظيف التوترات المحدودة وفرض خلاف تتسع هوته (على نحو ما تسعى وجهة النظر الثانية). وإنما هي وجهة نظر موضوعية تنطلق من التحليل العلمي لهذه العلاقات في ضوء خبرة الماضي وأزمات الحاضر، وهي فضلًا عن ذلك تحمل وجهة نظر تحفيزية، ربما قد تكون قاسية لكنها تستهدف المصلحة، وتشدد على ضرورة دخول البلدين في حوار استراتيجي لأجل بناء العلاقات فعليًّا، وليس عبر الخطب والتصريحات واستمرار الاستنامة لنمط العلاقة الراهن. إنها دعوة للارتقاء بالعلاقات إلى المستوى المؤهلة له وبمفاهيم القرن الحادي والعشرين، والذي لا يجعل خيار الارتداد عنها متاحًا في أي وقت دون تحمل تكاليف تمنع التفكير فيه أصلًا، كما أنها تدعو إلى استكشاف الفرص في علاقات الدولتين والتحرك في مساحات الفراغ القائمة لأجل سدها.

إن وجهة النظر هذه مؤمنة بحتمية العلاقات، ليس كاستدلال في سياق المعطى التاريخي أو إيمانًا بنظرية الحتمية التاريخية أو الجغرافية، وإنما انطلاقًا من رؤية استراتيجية مستقبلية تنطلق من قراءة جيدة للتحديات والمخاطر وحسابات المصالح، والتي تؤكد أنها متقاربة خصوصًا في الوقت الراهن، وأن أفضل السبل هو تعاطي البلدان معها سويًا في ظل علاقات عربية ونظام عربي يكونا هما عماده السياسي والاقتصادي.

إن أنصار وجهة النظر (الثالثة) فهم عرضة للهجوم من قبل وجهتي النظر السابقتين؛ فالأوائل يرتكنون إلى وجهة نظر أقرب إلى الرسمية والبروتوكولية، تعمل على التغطية على الخلافات حتى لا تتسع، ولذلك ينكرون دومًا حدوث توتر –أو إمكانية حدوثه- بين البلدين. أما أنصار وجهة النظر الثانية، فيدركون خطورة مسار البناء الاستراتيجي وحصول توافق مصري- سعودي يؤدي لتراجع مكانة أنصارهم (خاصة تركيا وقطر وفروع جماعة الإخوان المسلمين في الإقليم) وفي الداخل (جماعة الإخوان في مصر). وبالتأكيد فإنهم ينظرون بكل ارتياب إلى أي خطوة نحو تمتين العلاقة الاستراتيجية بين مصر والمملكة، ويكشف عن ذلك بجلاء توجهات خطابهم الإعلامي وحملاتهم التي ترتفع وتيرتها وصخبها عند كل تطور إيجابي في علاقات مصر بالمملكة، وهو ما كان باديًا تمامًا خلال زيارة الملك سلمان لمصر في إبريل 2016.

ما الذي تعنيه الحتمية الاستراتيجية في العلاقات المصرية- السعودية؟

على الرغم من الحديث المتكرر عن أن العلاقات المصرية- السعودية هي علاقات استراتيجية، إلا أن ذلك لم يكن أكثر من تعبيرات بلاغية في سوق الخطابة العربي؛ فليس هناك أي مؤشرات على أن العلاقات بين مصر والمملكة، أو بين مصر وأي من دول الخليج الخمس الأخرى، هي علاقات استراتيجية (على نحو ما هو معروف دوليًّا بشأن طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الدول)، حيث إن وصف علاقات ما بين دولتين بأنها "استراتيجية" يشير إلى توافق في الرؤى والخطط والاستراتيجيات، وتعهدات ملزمة بين المؤسسات العسكرية والدفاعية، وتعاون بين المؤسسات السياسية والاقتصادية. ولم تصل العلاقات بين مصر والسعودية مطلقًا إلى هذا المستوى من العلاقات، لأنها مبنية على مفاهيم وخصائص العلاقات العربية التي يسودها دفء المشاعر والعواطف، لكنها لم تتأسس وفق أسس وضوابط عملية ومؤسساتية، فالعلاقات الاقتصادية والعسكرية ليست كبيرة ومعقدة بالشكل الذي يضع الدولتين في أزمة حال قطع هذه العلاقات، وهو ما يجعل هذه العلاقات في مهب الريح عند أي خلاف ولو هامشي[11].

وفي الحقيقة، فإنه إذا لم تكن مؤشرات التحسن الأخيرة بين البلدين (التوافق داخل الجامعة العربية وقرار أرامكو) تأتي في سياق رؤية مصرية- سعودية مشتركة وتعهدات ملزمة تحول دون تكرار ما حدث، فلن تكون هذه المؤشرات سوى مؤشرات إيجابية لحظية تعقبها أزمات أخرى مفاجئة، دون أن يكون هناك إمكانية لتغيير هذه الحالة أو الوصول بالعلاقات إلى المستوى الاستراتيجي المرجو.

 وتعني "الحتمية الاستراتيجية" للعلاقات المصرية- السعودية ضرورة أن تتأسس على اقتناع الجانبين بأن هناك تحديات مشتركة تفرض عليهما هذه العلاقة، وفرص تتراكم بمتوالية هندسية إذا عملا معًا، أما إذا استمرا في تغليب المسار الانفرادي في السياسات، فإنهما سوف يتحملان تكلفة مضاعفة تاليًا في مواجهتها. لذلك على الرغم من أهمية مؤشرات التحسن فإن ذلك لن يعني الكثير إذا لم يكن قد سبقته حوارات استراتيجية، وإذا لم يكن البلدان قد اتفقا فعليًّا على ضوابط تمنع ما تكرر.

ونطرح فيما يلي تصورًا لمحاور ثلاثة لبناء علاقات استراتيجية مصرية- سعودية.

١- وجود قرار ثنائي بضرورة الارتقاء بالعلاقات إلى المستوى الاستراتيجي

ويقصد به المستوى الذي يضمن استقرار علاقات الدولتين دون أن تتهدد بالقطيعة أو تتحول من حال الصداقة إلى العداء بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار. فعلاقات الدول الأعضاء بحلف الأطلنطي أو الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، لا تشهد الاهتزازات والاضطرابات المفاجئة. فقد تشهد خلافات في وجهات النظر، لكن لا تتحكم بها المزاجية ولا تتهدد بالقطيعة، وحتى لو توترت علاقات المسئولين والقادة فإن علاقات الدول تظل استراتيجية وطبيعية وتحكمها المصالح المتبادلة. لكن للأسف فإن هذه الثقافة لا تنتشر في الواقع العربي. ولا يعني ذلك فقط أن الأشخاص والقادة لا يجب أن يلعبوا دورًا مهمًا في علاقات الدول العربية، وإنما تعني عدم وصول هذه العلاقات إلى المستوى الذي يلحق الضرر بأطرافها حال التلاعب بها أو التخلي عنها. ولا يمكن القول بأن هناك قرارًا استراتيجيًا مصريًا سعوديًا أو رؤية مشتركة واضحة لمستقبل العلاقات الثنائية والأهداف منها، لأن نقاط الخلاف لازالت قائمة ولا يجري الحوار المؤسسي بشأنها، كما أن أغلب ما يجري من نقاط تقدم في العلاقات يأخذ شكل "هبّات" وقرارات موسمية لا تمنح الوقت الكافي للدراسة من ناحية متطلبات الشراكة والقدرة على تنفيذ الاتفاقيات الموقعة وموقع الالتزامات الثنائية للدولتين من الالتزامات الدولية لكل منهما.

٢- إعادة الإمساك بالهيكل المؤسسي والرسمي للعلاقات الثنائية

ويعني ذلك ضررةوضوح الآليات والأجهزة والمؤسسات المكلفة بإدارة العلاقات البينية، بحيث لا تترك هذه العلاقات لفاعلين غير مدركين لطبيعتها ولطبيعة القضايا الثنائية، أو لفاعلين لهم مصالح محددة في تدهور هذه العلاقات. هذه مشكلة أساسية وجوهرية، حيث إنه في ظل فترات التحول في العالم العربي طغى دور أجهزة الإعلام على دور صناع القرار والسياسيين والدبلوماسيين، وحدث اضطراب في بيئة صنع القرار الوطني، ما جعل بعض الملفات الحيوية تقع فريسة للتوجهات والآراء الخاصة ببعض الإعلاميين الذين بات لهم مصالح وتوجهات طغت فعليًّا على مصالح وصوت الدولة، على نحو بدا منه وكأنهم صوت الدولة الفعلي، بينما تراجع الصوت الرسمي للدولة بين أصوات عديدة باتت أعلى صخبًا وضجيجًا. وفي ضوء الارتباطات والمصالح المتعددة لهؤلاء الإعلاميين وتركز الأضواء عليهم، وأحيانًا لنقص معارفهم وخبراتهم في الملفات المتخصصة، فقد عرض ذلك العلاقات المصرية- السعودية لأزمات عاصفة. في بعض الأحيان وضع بعض الإعلاميين أنفسهم في مواقع المسئولين، وتوجهوا بخطابات عصماء امتدت إلى حد التعريض بأخص الشئون الداخلية للدول الأخرى، وسلطوا أيديولوجياتهم وقناعاتهم الخاصة يهاجمون من خلالها الدول والمجتمعات. ومنح بعض الإعلاميين لأنفسهم امتيازًا حصريًّا واستثنائيًّا في الإمساك بعلاقات الدول العربية ببعضها، وهو ما سبب كوارث سياسية أحيانًا. وفي الحقيقة، فإنه إذا كان قد حدث تحسن ما في العلاقات المصرية- السعودية حاليًا، فإن جزءًا أساسيًّا منه يعزى إلى تراجع حدة الهجوم الإعلامي غير المبرر أو المطلوب، ونجاح البلدين في تجاوز اختبار فترة الصمت عن الهجوم الإعلامي على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.

٣- مفهوم استراتيجي ينظم رؤى البلدين حول السياسات العربية

ويعني ذلك أهمية بناء توافق بين البلدين بشأن الواقع العربي؛ فهناك خلافات في المنطقة تتيح لكل من مصر والسعودية قدرًا من حرية الحركة يضمن توافر قوى داعمة للخيار الخاص بكل منهما، إذا رغبا في ذلك. ومن ثم، هناك إمكانية لبناء محاور متصارعة في المنطقة، ولكن من المهم لكليهما أن يرتكنا إلى رؤى تجمعهما ولا تسمح بإمكان توظيف أي منهما ضد الآخر. هذا المسعى نحو بناء رؤى توافقية ينبغي أن يأخذ في الاعتبار المواقف السياسية والدبلوماسية السابقة التي تبناها كل منهما بشأن الأزمات والتي استثمر فيها وربما خسر الكثير لأجلها مع الأخذ في الاعتبار القيود الواردة على سياسته الخارجية. ويعني ذلك أنه حتى لو كانت هناك وجهات نظر لمصر مختلفة مع السعودية في سوريا، فإنه لا يجب أن يؤدي الخلاف حول ذلك إلى رهان البعض في مصر على تحالف مع سوريا قد ينتهي إلى موضعة مصر ضمن المحور الإيراني ونقلها إلى خط مغاير وصدامي تمامًا للخط الخليجي –وفق وجهة النظر السعودية- بل إن بقاء مصر على موقفها الحيادي -واقترابها من المملكة- في هذا الأمر يمكنها من التأثير كثيرًا في الموقف السعودي والخليجي الذي استبق بمواقف وأفعال منذ بداية الأزمة، على الأرجح لم يكن ليتبناها لولا غياب حاضنته المصرية التي تعرضت للثورة منذ 2011.

إن بقاء مصر على مقربة من الموقف الخليجي في أزمات سوريا واليمن يسمح بالتغيير المنظم في السياسات الخليجية وعودتها تدريجيًّا عن خط العسكرة في أزمات الإقليم، وذلك يحول دون حدوث كسر وصدع إقليمي إذا تطور الخلاف المصري- السعودي. وإذا كان البعض يوجه اللوم إلى المملكة على أنها انخرطت عسكريًّا مع الجماعات المسلحة في سوريا، فإنه يمكن توجيه اللوم إلى الحكومة المصرية على أنها تأخرت عن إعلان موقف واضح من الأزمة السورية حتى مع المعرفة بظروفها الخاصة خلال الثورة، وعلى من أتى متأخرًا أن يراعي المصالح والمواقف التي أصبحت مثل "المبادئ" في السياسات الخارجية للآخرين، والذين يعتبرون أن التراجع المفاجئ عنها سيكون بمثابة انكسار لهم أمام إيران، فضلًا عن الخسائر الهائلة وحسابات الداخل. وذلك ينبغي أن يكون مجالًا لحوار استراتيجي كبير بين مصر والمملكة، وباقي دول مجلس التعاون الخليجي.

وفي الحقيقة، فإن كثيرًا من الأزمات في العلاقات المصرية- السعودية أساسها عدم وضع اليد على نقاط التلاقي الاستراتيجي التي تجمع بين البلدين، مع الافتقاد للرؤية الحقيقية والموضوعية للآخر وتقدير ما اكتسبه من مكانة عالمية أو ما شهده من تحولات في الداخل.


[1] "السعودية تشيد بقرارات وزراء الخارجية العرب المنددة بالإجراءات الأحادية للانقلابيين في اليمن"، جريدة الشرق الأوسط، 13 مارس 2017.

[2] الهيئة المصرية العامة للبترول، وزارة البترول والثروة المعدنية، جمهورية مصر العربية، "وزير البترول في اجتماع موسع مع وكلاء وزارة البترول"،15 مارس 2017.متاح على الرابط التالي:

  http://www.petroleum.gov.eg/ar/MediaCenter/LocalNews/pages/mop_15032017_03.aspx(accessed on 18 March, 2017).

[3]  انظر: "سولار السعودية يصل مصرقبل موعده والبترول تطلب ضمانات"، عربي 21، 19مارس 2017. راجع الرابط التالي في ذلك التاريخ.

 https://arabi21.com (accessed on 19 March 2017).

[4] تمثل وجهة النظر هذه الطبقة الأوسع من أطياف الرأي على الجانبين المصري والسعودي، وهي وجهة نظر تتردد دومًا عند كل أزمة بين البلدين، ويمثلها سياسيون ومفكرون ودبلوماسيون وإعلاميون وأعضاء مجالس تشريعية ووزراء وأمراء... بل إن حزبًا مهمًا مثل حزب الوفد المصري أصدر بيانًا في 12 أكتوبر 2016 تضمن هذه العبارات. انظر: "الوفد : مصر والسعودية عمود الخيمة العربية.. وأمن الخليج من أمننا"، موقع التحرير، ١٢/١٠/٢٠١٦. راجع الرابط التالي في ذلك التاريخ: http://www.tahrirnews.com

 [5]مصطفى الفقي،"السعودية ومصر عمود الخيمة للعالم العربي"، تحيا مصر. نت، 19 مارس 2017.  

http://www.tahyamisr.net/2017/03/blog-post_2915.html

[6] جاء ذلك في حوار لوزير الخارجية المصري سامح شكري مع برنامج "نظرة" في ١٧ نوفمبر ٢٠١٦، على قناة صدى البلد. راجع عرض لهذا الحوار تحت عنوان: "وزير الخارجية: علاقاتمصر والسعودية قوية وتتجاوز الطبيعية"، اليوم السابع،17  نوفمبر 2016. راجع مضمون الحوار على موقع اليوم السابع في ذلك التاريخ.

 http://www.youm7.com

[7] "الخلافات المصرية - السعودية: أزمة عابرة أم مقدمة لافتراق استراتيجي؟"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 27  أكتوبر 2016. متاح على الرابط التالي:

http://www.dohainstitute.org/release/8fdce100-c835-4240-a201-6d216063ff5e?platform=hootsuite(accessed on 18 March, 2017).

[8] د. معتز سلامة، "هل تضيع الفرصة التاريخية لبناء علاقات خليجية – مصرية؟"، في: التطورات الداخلية والإقليمية والدولية في الخليج 2016 – 2017 (جدة: مركز الخليج للأبحاث، ط1، يناير 2017)، ص ص 38 – 42.

[9] انظر على سبيل المثال: "الخلافات المصرية - السعودية: أزمة عابرة أم مقدمة لافتراق استراتيجي؟"،مرجع سابق.

 [10]انظر على سبيل المثال: عبدالرحمن الراشد، "هل تخرب علاقة السعودية بمصر؟"، جريدة الشرق الأوسط، 9 إبريل 2015.

[11] لمزيد من التفصيل حول هذه الفكرة، انظر: د. معتز سلامة، "هل تضيع الفرصة التاريخية لبناء علاقات خليجية – مصرية؟"، مرجع سابق.