حرص المخرج الإيراني الذي ذاع صيته على مستوى العالم أصغر فرهادي على إضفاء طابع اجتماعي على معظم أعماله الفنية، وربما يعود ذلك، في قسم منه، إلى حرصه على تفادي "مقصلة" الرقابة، لا سيما في دولة تخضع لإجراءات صارمة من جانب نظامها الحاكم. لكن المفارقة أن فرهادي دخل عالم السياسة من بابه الواسع، عندما أصر على اتخاذ موقف بارز تجاه القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمنع رعايا سبع دول، من بينهم إيران، من دخول الولايات المتحدة الأمريكية. 1
إذ لم يكتف فرهادي بإدانة القرار الأمريكي، وإنما حرص أيضاً على عدم المشاركة في حفل جوائز الأوسكار في 26 فبراير 2017، بعد أن فاز فيلمه "البائع" بجائزة أحسن فيلم أجنبي غير ناطق باللغة الإنجليزية. لكن الأهم من ذلك، هو أنه كان دقيقاً في اختياره لمن ينوب عنه في تسلم الجائزة، في رسالة لا تخلو من مغزى سياسي واضح.
إيران بدورها تعمدت الاحتفاء بفوز مخرجها بجائزة الأوسكار وإضفاء طابع سياسي عليها، وهو ما انعكس في اهتمام كبار المسئولين الإيرانيين، مثل نائب الرئيس اسحاق جهانجيري ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، على الربط بين هذه الجائزة وبين الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها إدارة ترامب تجاه إيران.
لكن اللافت في هذا السياق أمران: الأول، أن تلك الجائزة ليست الأولى من نوعها، فقد فاز فيلم آخر لفرهادي بالجائزة نفسها في عام 2012، وهو فيلم "انفصال"، لكنه لم يحظ باهتمام خاص داخل إيران، على المستوى السياسي، مثلما حظى الفيلم الأخير. والثاني، أن انتقادات فرهادي لقرار ترامب لم تخل أيضاً من إسقاطات سياسية على الوضع الداخلي في إيران، رغم ما هو معروف عنه من العزوف عن الاشتباك مع الواقع السياسي القائم في دولته. فقد علق فرهادي على قرار ترامب بقوله: "إن تقسيم العالم إلى الولايات المتحدة وأعداءنا يخلق مناخاً من الخوف"، مضيفاً: "إن تغيبي بدافع احترامي لمواطنين من بلدي وست بلدان أخرى لم يحترمهم قانون غير إنساني يحظر دخول المهاجرين إلى الولايات المتحدة".
كما استغل فرهادي الفرصة لتوجيه انتقادات قوية لتيار المحافظين الأصوليين في إيران، عندما أشار إلى أن "إدارة ترامب تشبه المحافظين الإيرانيين لأن الإثنين يستغلان الخوف من الغرباء لتبرير السلوك المتعصب والمتطرف للأشخاص ضيقي الأفق".
لكن الأهم من ذلك هو أن صاحب جائزة الأوسكار كان حريصاً على أن ينوب عنه في تسلم الجائزة كل من أنوشي أنصاري، أول رائدة فضاء، وفيروز نادري المدير السابق لبرنامج التنقيب عن الطاقة الشمسية في وكالة "ناسا"، وهما أمريكيان من أصول إيرانية.
من دون شك، فإن الرسالة واضحة، ومفادها أن قسماً من المهاجرين الذين أثبتوا كفاءة وتميزاً خاصاً في المجالات العلمية المختلفة، والذين يريد ترامب منع المزيد منهم من دخول الولايات المتحدة، من أصول إيرانية. هذا المغزى تحديداً عبر عنه الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بطريقة أخرى، وذلك في الرسالة اللافتة التي بعث بها إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر السفارة السويسرية في طهران، باعتبارها راعية المصالح الأمريكية في طهران، وعبر الموقع الإليكتروني للأخير. فقد كان لافتاً أن أحمدي نجاد كان ودوداً بشكل ملحوظ مع ترامب، لدرجة أثارت جدلا سياسياً واسعاً داخل طهران، لكن أهم ما جاء فيها أنه اعتبر أن "أمريكا المعاصرة هى ملك للجميع، وليس من حق أحد أن يقول إن أمريكا ملك لى، بما في ذلك السكان الأصليين ليس لهم الحق بقول أنت مهاجر أو ضيف على أرض الولايات المتحدة"، مضيفاً أن "هناك أكثر من مليون إيراني يقيمون في الولايات المتحدة، أغلبهم من الاختصاصيين والفنيين والخبراء".
وهنا، ربما لا يمكن فصل هذا الحرص الإيراني على الاحتفاء بجائزة فرهادي وإضفاء طابع سياسي عليها من اللحظة الأولى، عن المحاولات الحثيثة التي ما زالت تبذلها إيران من أجل الوصول إلى محاور توافق مع الغرب، وبالتحديد مع الولايات المتحدة، رغم كل التصعيد الذي حدث في الفترة الماضية، خاصة في مرحلة ما بعد وصول ترامب إلى البيض الأبيض في 20 يناير 2017. إذ أن إيران تريد إثبات أنها "دولة طبيعية" وليست "دولة ثيوقراطية" أو "راديكالية" على غرار ما تقول كثير من الاتجاهات السياسية والأكاديمية التي تدعو إلى كبح نفوذها ودورها في المنطقة، بدليل أنها إحدى أكثر الدول حصولا على جوائز دولية، خاصة في مجال السينما.
وبمعنى آخر، فإن إيران تسعى عبر إثبات أنها "دولة طبيعية" إلى تأكيد قدراتها على الانخراط في التزامات وصفقات دولية حتى مع ما تسميه "الشيطان الأكبر"، بشكل لا يمكن معه استبعاد احتمال أن تتجه نحو البحث عن محاور للتوافق أو للتفاهم مع الإدارة الجمهورية الجديدة في البيت الأبيض.
وهنا، ربما يكون للإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة، الذين شكلوا في السنوات الماضية جماعة ضغط "لوبي" داخل الأخيرة، دور رئيسي في الجهود التي يمكن أن تبذلها طهران بهدف تقليص حدة الاحتقان بين الطرفين والبحث عن خيارات أخرى للتفاعل، بدلا من المواجهة والتصعيد الذي يمكن أن يفرض، وفقاً للرؤية الإيرانية، تداعيات سلبية على أمن ومصالح كليهما.
وثمة مؤشرات عديدة تدعم من إمكانية حدوث ذلك، منها الدراسة التي أعدها كل من بايام محسني مدير مشروع إيران في جامعة هارفارد، ومحسن كالوت الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة نفسها، والتي تنشرها مجلة "مختارات إيرانية" في هذا العدد (العدد رقم ١٩١، يناير ٢٠١٧). إذ تشير تلك الدراسة إلى أن التطورات الإقليمية التي شهدتها المنطقة صبت في صالح المحور الذي تقوده إيران، على عكس ما كانت ترغب بعض القوى الدولية والإقليمية الأخرى، وتقدم توصيات لصانعي القرار في الولايات المتحدة بتبني سياسة مغايرة تقوم في الأساس على الانخراط في تفاهمات مع إيران من أجل تشكيل شرق أوسط جديد، والاعتراف بدور إيران كقوة إقليمية رئيسية في المنطقة.
في النهاية ربما يمكن القول إن إيران تريد من "تسييس الأوسكار" تعزيز جهودها الرامية إلى تحييد المواجهة المحتملة مع إدارة ترامب، خاصة أنها تبدو في أمس الحاجة في الوقت الحالي لعدم المغامرة مع "الشيطان الأكبر". ومن هنا يبدو أن جائزة فرهادي جاءت في لحظتها المناسبة بالنسبة لطهران.
1- افتتاحية العدد رقم ١٩١ من سلسلة مختارات إيرانية، يناير ٢٠١٧. للاطلاع على محتويات العدد انظر قسم الإصدارات.