قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2017-2-16
صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

استحوذت مسألة محاربة الإرهاب فى سوريا على الاهتمام الأكبر للرئيس ترامب، خاصة اهتمامه بالتنسيق الكامل مع روسيا والتحالف الدولى فى مواجهة داعش، وهو ما تُرجم فعليًّا فى زيادة عدد مشاركات الطيران العسكرى الأمريكى بالتنسيق مع نظيره الروسى فى استهداف داعش داخل معاقله فى محافظة الرقة السورية. كما أعطى ترامب أوامره باستمرار الدعم العسكرى الذى كانت تقدمه واشنطن للميليشيات الكردية السورية سواء كانت "قوات سوريا الديمقراطية"، أو قوات "وحدات حماية الشعب" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى، على إثر مشاركة تلك القوات فى محاربة داعش شمال شرقى سوريا.

لكن التطور النوعى الأهم جاء فى 25 يناير 2017 عندما أعلن ترامب فى تصريح له لقناة ABC NEWS أنه بصدد التوقيع على قرار تنفيذى يقضى بإقامة "مناطق" آمنة فى سوريا، وأنه بالفعل قد كلف كل من البنتاجون ووزارة الخارجية "بوضع خطة خلال 90 يومًا لإنشاء مناطق آمنة تمكن اللاجئين المدنيين السوريين من العودة إلى سوريا انتظارًا لتسوية عادلة"، دون أن يحدد القرار ما هى المناطق التى سيتم اعتبارها مناطق آمنة، والقوى التى ستتولى حمايتها وضمان تطبيقها. واتساقًا مع هذا التوجه، وقع ترامب بعد يومين فقط من هذا التصريح (فى 27 يناير) على وثيقة أشارت صراحة إلى أن "دخول المواطنين السوريين بصفة لاجئين يُضر بمصالح الولايات المتحدة".  

المناطق المقترحة

سيكون أمام الإدارة الأمريكية ثلاث مناطق داخل سوريا مرشحة لتنفيذ هذا البديل، وفقًا لتقاسم السيطرة على الأرض بين قوى الصراع. الأولى، هى المناطق الخاضعة لعمليات "درع الفرات" العسكرية التركية بالمشاركة مع الجيش السورى الحر فى المنطقة ما بين إعزاز وجرابلس وصولًا لحدود مدينة الباب. المنطقة الثانية، هى المنطقة الجنوبية، بالقرب من الحدود الأردنية، حيث تتركز معارضة الجنوب فى محافظة درعا. المنطقة الثالثة، هى منطقة تمركز الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية فى الشمال الشرقى.

وتظل المنطقة الأولى هى البديل الأكثر احتمالًا، نظرًا لضعف وجود تنظيم الدولة الإسلامية بها، خاصة بعد العمليات العسكرية المشتركة بين الجيش السورى الحر والقوات التركية. كما أنها تتسم أيضًا بغياب "قوات سوريا الديمقراطية"، و"قوات وحدات الشعب" الكردية. وبالإضافة إلى هذه الميزة، من المتوقع أن تحظى هذه المنطقة- حالة إقرارها- بالدعم اللوجيستى من جانب الحكومة التركية، وبحماية قوات الجيش النظامى التركى. لكن يتوقع أن تحظى بمعارضة قوية من جانب إيران، التى ترفض التدخل العسكرى التركى فى شمالى سوريا منذ أن سمحت به روسيا، لأنه ببساطة يمثل خصمًا من النفوذ والسيطرة الإيرانية على أرض الصراع، ويخلق واقعًا عسكريًّا تركيًّا على الأرض يماثل التواجد العسكرى الروسى والإيرانى، بما قد يهدد النفوذ الإيرانى فى إدارة الصراع ويعضد من المصالح والنفوذ التركى خاصة أثناء عملية التفاوض القادمة.

أما المنطقة الثانية، وهى المنطقة الجنوبية، فبالرغم من قربها من الأردن، وما يعنيه ذلك من إمكانية توفير الحماية الأمريكية عبر الحليف الأردنى، إلا أن الامتداد الصحراوى فى الجنوب يؤدى إلى غياب وجود البنية التحتية والخدمات الكافية لخدمة النازحين أو اللاجئين، ما يجعل من الصعب إقامة منطقة آمنة بها. لكن ولاعتبارات تمركز بعض قوات التحالف الدولى فى الأردن- ما يوفر تغطية جوية ممكنة للمنطقة-  فمن المرشح أن تكون تلك المنطقة من المناطق الآمنة.

وأخيرًا، فإن المنطقة الثالثة فى الشمال الشرقى والخاضعة لسيطرة الأكراد وإن كانت من المناطق الممكن شمولها بالحظر الجوى على اعتبار مساندة الولايات المتحدة عسكريا من حيث التمويل والتدريب للقوات الكردية السابق ذكرها، إلا أن صعوبة تحويلها إلى منطقة آمنة تكمن فى أن معظم النازحين من مناطق الصراع داخليًّا ومعظم اللاجئين فى الخارج هم من المكون العربى السنى، الأمر الذى يمكن أن يخلق العديد من المشاكل، ناهيك عن الرفض التركى المتوقع.

صعوبات هذا البديل

واقع الأمر إن قرار إنشاء مناطق آمنة داخل سوريا يمثل نقلة مهمة فى طريقة تعامل الإدارة الأمريكيةمع الملف السورى، لكنه يواجه عددًا من الصعوبات، نشير فيما يلى إلى أهمها:

أولها، أن إقامة مثل هذه المناطق يعنى تحول الولايات المتحدة عن سياسة عدم التدخل فى سوريا التى تمسكت بها إدارة أوباما منذ تطور الأزمة السورية، إلى تبنى أنماط أو أشكال محددة للتدخل. إذ إن تطبيق بديل "المناطق الآمنة" سيتطلب بالتأكيد زيادة حجم القوات الجوية الأميركية أو القوات الجوية للتحالف الدولى ضد داعش، وقد يتطلب أيضًا نشر قوات برية لتوفير الأمن.

ثانيها، أن إقامة مثل هذه المناطق سيكون مرهونًا بموقف روسيا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن روسيا استقبلت تصريحات الرئيس ترامب حول المناطق الآمنة بقدر من التحفظ، على خلفية عدم تشاور واشنطن معها بهذا الشأن. ومن ثم، كان من المنطقى أن تطلب روسيا من الإدارة الأمريكية تحديد ما المقصود بالمناطق الآمنة، وما هى آليات تنفيذها، لاسيما أن طرح ترامب جاء متزامنًا مع انطلاق المسار التفاوضى الجديد برعاية روسية- تركية مشتركة. أضف إلى ذلك أن روسيا طالما عارضت المطالب التركية فى هذا الشأن، واستبدلته بالسماح لأنقرة بالتوغل العسكرى فى شمال سوريا لدرء مخاطر داعش من ناحية، ولمنع التواصل بين الكانتونات الكردية السورية، من ناحية أخرى، لاسيما بعد عبور قوات "سوريا الديمقراطية" وقوات "وحدات الشعوب لغرب الفرات"، وهو ما تعتبره تركيا خطًا أحمر لأمنها القومى. وبالإضافة إلى التحفظات الروسية السابقة، فقد أشارت روسيا إلى أن إنشاء مثل هذه المناطق يتطلب موقفًا أمميًّا؛ بمعنى ضرورة الحصول على موافقة مجلس الأمن، فى إشارة إلى رفض أن تكون خطوة إنشاء المناطق الآمنة فى سوريا خطوة أمريكية أحادية الجانب، فضلًا عن ضرورة موافقة النظام السورى ذاته باعتباره صاحب السلطة الشرعية حتى الآن.

ثالثها، هو موقف تركيا؛ فقد استقبلت تركيا الطرح الأمريكى بقدر كبير من الارتياح لاسيما وأن فكرة المنطقة الآمنة طرحتها أنقرة منذ عام 2015، إلا أنها قوبلت آنذاك برفض أمريكى خوفًا من أن تشمل المنطقة الحلفاء الأكراد. ووفقًا لذلك، فقد أعلنت تركيا أنها بصدد دراسة الطرح الأمريكى وأنها تدعم الفكرة. إن الموافقة التركية السريعة على إقامة مناطق آمنة تستدعى التساؤل حول إمكانية استعادة الولايات المتحدة الحليف التركى من سياق تصاعد التوافق الأمريكى- الروسى بشأن الملف السورى منذ أغسطس 2016 وحتى الآن. الواقع يشير إلى أن برجماتية الحكومة التركية بعد تولى يلدريم قد تدفعها إلى إعادة ترتيب تحالفاتها بصورة مستمرة بحثًا عن المصلحة، وهو ما فعلته بالتوجه نحو روسيا التى سمحت لها بالتدخل العسكرى شمالى سوريا عبر "درع الفرات"، والابتعاد عن معسكر الحلفاء الخليجيين الداعم للمعارضة السورية فى وقت شهدت الأخيرة فيه انكسارات حادة فى الصراع الميدانى، وهى البرجماتية نفسها التى قد تعيدها إلى التقارب مع الولايات المتحدة حالة الشروع فعلًا فى إقامة مثل هذه المناطق، سواء عبر الأمم المتحدة أو عبر الولايات المتحدة بصورة منفردة.

لكن ثمة قيود على هذا التوجه التركى المحتمل؛ فالطرح الأمريكى جاء متأخرًا جدًا بالنسبة لمسار الصراع السورى، لاسيما بعد أن بذلت أنقرة جهودًا جبارة للتقارب مع موسكو للعودة للمسار التفاوضى على أمل التوصل لصيغة حل للأزمة التى أثرت سلبيًّا على تركيا من الناحيتين الأمنية والاقتصادية. كما أن أنقرة فعليًّا تعتبر قد أنشأت منطقة آمنة فى المناطق التى تحررها من سيطرة داعش، كجرابلس مثلًا، الأمر الذى أسهم فى عودة العديد من النازحين إليها، لاسيما فى ظل الغطاء الجوى الروسى. الأرجح إذن أن تركيا لن تغامر بمستوى التقارب الذى وصلت إليه العلاقات التركية الروسية لصالح العودة إلى الحليف الأمريكى، لاسيما وأن الأخير لا يزال يرى فى الأكراد السوريين حليفًا قويًّا فى سياق الصراع السورى، ما يشكل نقطة خلاف رئيسية بين الطرفين، لكنها فى الوقت ذاته ستتريث حتى تتضح كافة ملامح السياسة الأمريكية تجاه الملف السورى، وتجاه المصالح التركية فيه، لاسيما بعد تواجدها العسكرى داخل سوريا الذى يفرضها كرقم مهم فى معادلة النفوذ الإقليمى المتعلقة بالملف السورى. 

البدائل المقترحة أمام الإدارة الأمريكية

استنادًا إلى قراءة جملة التصريحات الصادرة عن الرئيس ترامب خلال مرحلة الحملة الانتخابية، وما بعد دخول البيت الأبيض، خاصة تلك المتعلقة بالسعى إلى فرض مناطق آمنة داخل سوريا، يمكن طرح ثلاثة بدائل أساسية يمكن أن تلجأ إليها الإدارة الأمريكية الجديدة فى التعامل مع الملف السورى.

الأول،هو العمل على تغيير معادلات الصراع من خلال حضور أمريكى أكبر فى المشهد، بما فى ذلك الوجود العسكرى الأمريكى. لكن هذا البديل يوجه معضلة أساسية، وهى أن مسار الصراع بات محكومًا بواقع التواجد الروسى الإيرانى التركى فى سوريا على الصعيدين العسكرى والسياسى؛ فقد ذهب مسار الأزمة بعيدًا لصالح روسيا وإيران، وفات أوان تغيير معادلات الصراع الميدانية إلى حد كبير، لاسيما بعد تقلص المساحات التى باتت تسيطر عليها المعارضة واستعادة النظام السيطرة على معظم المساحات التى فقدها خلال العامين الماضيين، وهو تقدم تحقق بلا شك من خلال الدعم السياسى والعسكرى الروسى والإىرانى.

البديل الثانى، هو توصل الإدارة الأمريكية إلى تفاهم مع نظام بشار الأسد وروسيا، يقوم على تفويض روسيا فى مهمة القضاء الكامل على المعارضة، مقابل التشارك فعليًّا فى مواجهة "داعش" و"فتح الشام" عبر حرب منظمة. هذا الاحتمال سيكون محكومًا بحجم ونوع التداعيات التى ستنتج عنه على مستوى نمو الإرهاب والتطرف، وتوفير البيئة المناسبة لمسبباته وتنامى مشاعر الكراهية تجاه الولايات المتحدة ومواطنيها. هذا بخلاف ارتدادات أزمة الهجرة عالميًّا.

البديل الثالث، هو تراجع ترامب عن تصريحات التنسيق مع روسيا فى سوريا على خلفية مواقفه من إيران التى يراها مصدر الإرهاب الرئيسى؛ فى الوقت الذى تتعاون فيه روسيا مع إيران فى الملف ذاته بغض النظر عن بعض الاختلافات البينية فى مواقف الطرفين الروسى والإيرانى تجاه تسويات مرحلة ما بعد سقوط حلب، وتجاه خيار روسيا بالعودة للمسار التفاوضى بالأستانة وجنيف. هذا المسار مرهون بمدى برجماتية ترامب وتعديله لمواقفه، خاصة أن معظم مستشاريه سواء فى المناصب السياسية أو الأمنية العسكرية، يرون أن روسيا والصين يمثلان تهديدًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة، ويعارضون فى الوقت ذاته ممارسات إيران فى منطقة الخليج والمشرق العربى؛ خاصة بعد إبرام الاتفاق النووى. ويظل مرهونًا كذلك بحالة الواقع الميدانى والسياسى التى فرضها التنسيق والتعاون الروسى الإيرانى فى سوريا؛ فقد استطاع التحالف الروسى الإيرانى فرض نفوذه، وأعاد رسم خريطة التوازنات داخل سوريا لصالح حليفهما بشار الأسد، وبالتالى فإنه قد يكون من الصعب ضرب هذا التحالف.

وختامًا، فإن التعاطى الأمريكى مع الملف السورى على الرغم من كونه غير كافٍ للقول بأن مسارًا أو نمطًا جديدًا واضحًا ستشهده السياسة الأمريكية خلال فترة رئاسة ترامب تجاه الملف نفسه - تكون مختلفة كلية عن سياسة الإدارة السابقة - إلا أنها تمثل مؤشرات تجعل بإمكاننا القول أن ثمة تغيرات ما قد تشهدها تفاعلات إدارة ترامب مع الصراع فى سوريا خلال المرحلة القادمة.