د. إيمان مرعى

خبير ورئيس تحرير دورية رؤى مصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

تزايد الاهتمام بقضية تطوير الإدارة المحلية في مصر ودعم اللامركزية باعتبارها أولوية من أولويات الإصلاح لتحقيق التنمية الشاملة، لاسيما في ظل عجز الحكومة المركزية عن الوفاء بكافة احتياجات المجتمع من ناحية، وندرة وسوء استغلال الموارد الطبيعية والبشرية من ناحية أخرى. ويشكل نظام الحكم المحلي مطلبا مهما في منظومة التنمية، بما يلعبه من أدوار في إحداث التواصل بين الإدارة المركزية على مستوى الدولة وكافة قطاعات المجتمع الشعبية في المحافظات والمدن والقرى.

وعلى الرغم من أهمية الدور المفترض أن تلعبه المحليات إلا أن المتتبع لهذا الدور يرى أنها فقدت قدرتها على إدارة المرافق والخدمات حيث وصلت إلى مستوى من التدهور والفساد أفقدها التأييد الشعبي تجاه سياسات الحكومة في معالجة قضايا المواطنين.

ويتجدد الأمل في أن يكون للمجالس المحلية دور حقيقي في مراقبة الأداء، وضمان وصول الخدمات للمواطنين. خاصة أن غياب هذه المجالس على كافة مستوياتها -منذ صدور حكم قضائي بحلها عام 2011- كان له أثر سلبي على أداء كافة الأجهزة التنفيذية بالمحافظات، وعلى تنفيذ المشروعات الخدمية للمواطنين.

ثمة تحديات تواجه نظام الحكم المحلي في مصر وتحول دون فعالية الدور المحوري الذي يقوم به؛ وهى تختلف باختلاف الفاعلين المؤثرين؛ فهناك مشكلات مسئولة عنها الدولة، وأخرى تقع تحت مسئولية المحليات نفسها، وتحديات مسئول عنها الفاعلين غير الرسميين مثل: الأحزاب السياسية، وجماعات المصالح، وكذلك الإعلام.

(1) إشكالية الإطار الدستوري والقانوني

بنظرة سريعة على وضع الإدارة المحلية في الدساتير المصرية والقوانين السابقة يتضح أنها تعاملت بطرق مختلفة مع نظام الإدارة المحلية إما بإفراد فصل خاص بها أو في تقليصها لعدد من المواد. وآخر الدساتير التي تحدثت عن الإدارة المحلية كان دستور عام 1971وفي ظله صدر العديد من القوانين المنظمة للإدارة المحلية، آخرها هو القانون المعمول به حاليا قانون 43لسنة 1979 وما تلاه من تعديلات.

وعلى الرغم من انفراد مشروع دستور 2014بتناول الإدارة المحلية في فصل مستقل إلا أن ذلك لم يمنع من وجود مشكلات أهمها: تأكيد مشروع الدستور الجديد على استمرارية استخدام مصطلح الإدارة المحلية، بدلا من مصطلح الحكم المحلي، ومن ثم لا يجوز للمجلس المحلي في ظل الإدارة المحلية مساءلة القيادات التنفيذية بغياب حق استجوابها وسحب الثقة منها. أيضا لم يفصل الدستور بين السلطة التشريعية وبين المجالس الشعبية المحلية، حيث وضع بعض الأحكام التي من خلالها يكون لأعضاء السلطة التشريعية حق التدخل في نطاق عمل تلك المجالس ومناقشة الموضوعات التي تهم دوائرهم الانتخابية، هذا إلى جانب تدخل الحكومة المركزية في سلطة واختصاصات المجالس المحلية الشعبية والمحافظين.

ومع تزايد الاتجاه المطالب بتطوير منظومة قوانين الشأن المحلي، بدت هناك حاجة إلى إضافة نصوص صريحة وآليات تهدف إلى زيادة حيز اللامركزية في إدارة الخدمات الجماهيرية وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في صنع القرار المحلي والرقابة ومساءلة القائمين على تقديم الخدمات حتى تتمكن هذه المجالس من أداء وظيفتها على الوجه الأمثل.

(2) إشكاليات البنية التنظيمية لوحدات الإدارة المحلية

يتميز الهيكل المؤسسي لنظام الإدارة المحلية المصري بالطابع الهرمي في العلاقات بين وحداته ويتراوح عدد المستويات المحلية ما بين مستويين أو أربعة مستويات إدارية تبدأ من المحافظة وتنتهي بالوحدات المحلية القروية؛ باختلاف طبيعة المحافظات، ويتم انتخاب مجلس شعبي محلى كل أربع سنوات. ويضم نظام الإدارة المحلية في كل مستوياته مجالس رقابية شعبية منتخبة مباشرة من المجتمع المحلي ومجالس تنفيذية حكومية.

ويعد أسلوب اختيار وتشكيل المجالس الشعبية المحلية أحد أهم الإشكاليات التي تحد من فعالية الدور ويتضح ذلك من خلال شروط الترشح لعضوية المجالس الشعبية المحلية والتي وردت في القانون 43لسنة 1979ولائحته التنفيذية حيث لا تساعد كثيرا على إفراز أفضل العناصر الممثلة للمواطنين.أيضاً تتسممعايير تمثيل المواطنين في المجالس الشعبية المحلية بالتعقيد الشديد في ضوء ضخامة عدد التقسيمات الإدارية على مستوى الجمهورية. مما يتطلب مراعاة أن يتوافق العدد مع عدد سكان الوحدة المحلية على مختلف مستوياتها لضمان عدالة التمثيل للوحدات المحلية.

وفي سياق متصل هناك عدم توازن بين سلطات المحافظ ومسئولياته على الرغم من أن المحافظ يعتبر رأس السلطة التنفيذية المحلية وممثلا للحكومة المركزية إلا أنه لا يملك إلا اقتراح الخطط أو الإشراف العام غير المقترن بسلطة على الهيئات العامة لأن تلك الوظائف تدخل في اختصاص الوزارات المركزية.

تحد آخر وهو عدم وضوح اختصاصات وأدوار المجالس الشعبية والتنفيذيةحيثكانت المجالس المحلية حتى عام 1971تمارس الاختصاصات التقريرية والتنفيذية معاً. بيد أنه تم توزيع الاختصاصات بينهما حيث أصبحت المجالس التنفيذية التي تعد المشروعات وتشرف على تنفيذها وبالتالي تركزت الاختصاصات المحلية في المجالس التنفيذية على حساب المجالس الشعبية مما أدى إلى خلق فجوة تؤثر سلبا على فعالية الأداء التنفيذي والرقابي.

 (3) نظام اختيار وتعيين العاملين في الإدارة المحلية

في الوقت الذي تهتم فيه دول عديدة بتقييم أداء القيادات والوحدات المحلية، من خلال مقارنتها بالممارسات الأفضل وفق معايير ومؤشرات محددة ومتفق عليهاويسهل قياسها مثل: القدرة على اتخاذالقرارات المناسبة في الوقت المناسب، وأسلوب التعامل مع المواطنين، وكيفية التصرف في الأزمات المفاجئة. فإن الوضع في مصر مختلف حيث تعتبر الوحدات المحلية من أكثر هيئات وأجهزة الدولة معاناة من مشكلة تضخم أعدادالعاملين، وتدهور مستوى أداء وكفاءة معظم الموظفين المحليين في بعض الإدارات المحلية.

ومن ثم فإن عدم توافر نظام متكامل للتوصيف الوظيفي أو نظام لإحلال الموارد البشرية في المحليات أدى إلى غياب معايير اختيار القيادات المحلية على أسس موضوعية بل تعتبر المحليات في بعض الأحيان أماكن لتأديب بعض الموظفين وإبعادهم عن مواقع اتخاذ القرار، هذا إلى جانب غياب قواعد العدالة الاجتماعية في توزيع الأجور وفرص الترقي على اعتبار أن المعيار العلاقات  الشخصية وليس الكفاءة، أيضاً ضعف وقلة البرامج التدريبية المخصصة لموظفيها، وعدم تصميمها للتعامل مع المشكلات الواقعية.

 (4) التمويل المحلي

يعتبر التمويل المحلي من الضروريات الأساسية لقيام التنمية المحلية، بيد أن انخفاض مستوى التمكين المالي للمحليات واعتمادها الدائم على الإعانات المركزية والتي تصل إلى أكثر من 80%للتغلب على إشكالية عجز الموازنة المحلية أحد أهم العقبات التي تواجه التمويل المحلي في ظل ضعف دخول موظفي المحليات، وإنشاء صناديق خاصة وفق نظم محاسبية خارج الموازنة العامة، بالإضافة إلى غياب اعتبارات العدالة والمساواة في تحديد طبيعة وحجم الخدمات التي تقدم للأقاليم حيث تستأثر العاصمة بجل اهتمام الدولة بينما تتناقص الخدمات كلما ابتعدنا جغرافياً عن مركز السلطة الإدارية فيها.

 (5) اتجاهات التطوير

تكمن الإشكالية الأساسية في الفلسفة التي يقوم عليها نظام المحليات، فهو ميراث لتراث الدولة المركزية. وانطلاقا من الإشكاليات التي يعانى منها نظام الحكم المحلي في مصر يقتضي الأمر صياغة رؤية استراتيجية لإعادة إحياء دور المحليات بما يتوافق ويرضي حاجات المواطنين وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات يجب تنفيذها على المستويين البنيوي والسياسي ومستوى الآليات التي تحكم عمل المحليات. ومن أهم هذه الآليات: تعديل التشريعات واللوائح التي تحكم عمل المحليات في مصر، بحيث يتم تفعيل الدور الرقابي للمجالس الشعبية المحلية وتوسيع اختصاصاتها مع إلغاء الهيراركية بين المستويات المحلية، وتعديل شروط عضوية المجالس الشعبية المحلية والعمل على تحقيق التوازن في السلطات بين المجالس المنتخبة والمجالس التنفيذية المعينة مع إعطاء المجلس الشعبي المحلي حق استجواب المجلس التنفيذي بضوابط واضحة ومحددة لضمان الممارسة السليمة لحق الاستجواب.

 كما يتعين أن يتوافر نظام خدمة مدنية مستقل للمحليات يراعى الآتي: تلافي ازدواج تبعية الموظف وولائه بين الحكومة المركزية والسلطة المحلية، بحيث يكون ولاؤه بالكامل للسلطة المحلية، وإصلاح هياكل الأجور والرواتب لمكافحة الفساد، والمرونة في نظام الحوافز لجذب الكفاءات للعمل بالوحدات المحلية، خاصة في الوحدات النائية والريفية التي يحجم الكثيرون عن العمل فيها. وكل ذلك إلى جانب مراعاة بناء قدرات الموظفين المحليين وتدريبهم، والأخذ بسياسة التدوير الوظيفي خاصة في الجهات التي تعاني من ارتفاع معدلات الفساد (كالجمارك والضرائب والعطاءات) كلما كان ذلك ممكناً، وضرورة وضع مواثيق أخلاقية وسلوكيةلمعالجة المشاكل واتخاذ القرارات الفعالة.

وتقتضي الاستقلالية المالية للوحدات المحلية تزويدها بآليات تسمح لها بالنفاذ إلى مصادر الإقراض المختلفة من أجل مساعدتها على تجاوز قيود الموازنة العامة. ومنحها قدر أكبر من الاستقلالية في تحديد أولويات الإنفاق، وتمويل نفسها بموارد محلية من خلال البحث عن مصادر جديدة للإيرادات مثل: التمويل الذاتي، أو استرداد التكلفة، أو التمويل المشترك، أو زيادة الإيرادات العامة عبر تزويدها بالقدرة على فرض ضرائب محلية من أجل ضمان حسن أدائها لمهامها المنصوص عليها قانونا. هذا إلى جانب إحلال أسلوب الدعم المشروط محل نظام الدعم المطلق الذي تتبعه الدولة، بحيث تكون هذه الإعانات محددة على بعض المعايير مثل: حجم سكان كل محافظة، ودخل مواطني الأقاليم، ومعدل الاستثمار، ومستوى الخدمات المتاحة. ويتعين أن يوضع في الاعتبار عند تقنين هذه الإعانات طبيعة حاجات كل وحدة محلية، وتكاليف الخدمات، والاختلافات بين الحضر والريف، ومدى توافر الخدمات الأساسية بما يتلاءم مع الواقع.

خلاصة القول ثمة توافق على أن قضية إصلاح المحليات هي الضمان الحقيقي للتنفيذ الفعال للسياسات العامة للدولة، وبداية الطريق الحقيقي للتنمية لتحقيق إدارة محلية فعالة ذات كفاءة عالية تستجيب للمتطلبات الاجتماعية، وتؤدي إلى نمو حالة من الرضا الشعبي تجاه سياسات الحكومة في معالجة قضايا المواطنين؛وذلك في إطار إستراتيجية شاملة تنطلق من أهداف محددة حيث أن التعامل بشكل جزئي أو فردي مع عدد من قضايا الإدارة المحلية في مصر سيؤدى إلى نتائج محدودة ومتواضعة في المستقبل.