بعد إجتماع دول الجوار: إلى أين يتجه استيعاب نفوذ حفتر في ليبيا ؟
2017-1-23

د. خالد حنفي علي
* باحث مصري، مؤسسة الأهرام

    بعد أكثر من عامين ونصف على إطلاق عملية "الكرامة" ضد الجماعات الإرهابية في شرقي ليبيا في مايو 2014، استطاع المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي فرض معادلات جديدة على موازين القوى الداخلية والخارجية في المشهد الليبي، خاصة بعد السيطرة على غالبية بنغازي ومدن شرقية، ثم مدها لاحقا إلى منطقة الهلال النفطي في سبتمبر 2016.

وبدا ذلك النفوذ المتصاعد لحفتر كنقطة تلاق وتكريس لتحالفات داخلية في الشرق الليبي، وأخرى إقليمية (كمصر والإمارات) ترى إجمالا أن تجاوز معضلة عدم الاستقرار في مرحلة ما بعد سقوط القذافي يكمن في بناء مؤسسة عسكرية وطنية تجابه فوضى المليشيات وتهديدات الإرهاب التي انتقلت من داخل ليبيا إلى الإقليم والعكس.

في المقابل، لم ينجح الدعم الأممي والغربي في تكريس سيطرة حكومة الوفاق الليبي برئاسة فايز السراج والتي أفرزها اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015. فبخلاف أن تلك الحكومة لم تنل ثقة مجلس النواب، فقد عانت انحسارا للنفوذ منذ دخولها إلى طرابلس في مارس 2016، إثر تعثرها في معالجة الملفات الاقتصادية والأمنية التي تفاقمت على خلفية صراع المليشيات المسلحة على العاصمة ذاتها. ناهيك عن الخلافات والانسحابات المستمرة بين أعضاء المجلس الرئاسي بسبب طبيعة تشكيله التي تأسست على المحاصصة السياسية والمناطقية، بما جعله كيانا هشا، وغير قادر على إنفاذ اتفاق الصخيرات.

صحيح أن حكومة السراج نجحت في تحرير سرت من تنظيم "داعش" بدعم جوي أمريكي ولوجستي أوروبي، إلا أنها اعتمدت في ذلك على أداة أمنية ذات طابع مليشياوي تمثلت في قوات البنيان المرصوص التي يتشكل أغلبها من مصراته ذات النفوذ القوي في غربي ليبيا. الأهم من ذلك، أن تحرير مدينة سرت لا يكتمل تأثيره جيوسياسيا في معادلة القوة الليبية، إلا بمنطقة الهلال النفطي المحيطة به، والتي يسيطر عليها حاليا الجيش الوطني الليبي، الأمر الذي كفل له السيطرة نسبيا على المورد النفطي الرئيسي في البلاد.

اتجاهات إقليمية

بميل موازين القوى نسبيا لصالح حفتر وحلفائه، بدا أن ثمة اتجاها إقليميا ودوليا لاستيعابه في سياق المساعي لتعديل الشق الأمني في اتفاق الصخيرات المتعثر. ذلك أن أحد أبرز معضلات هذا الاتفاق- والتي عرقلت نيل حكومة الوفاق لثقة مجلس النواب- تركزت في المادة الـثامنة من باب الأحكام الإضافية في الاتفاق، والتي نقلت صلاحيات المناصب الأمنية لمجلس رئاسة الوزراء، بما يعنى لتحالفات الشرق الليبي تهميش حفتر من معادلة الشق الأمني في البلاد.

 فإقليميا، تحولت القاهرة – التي تشكل داعما رئيسيا للجيش الليبي- إلى منصة وساطة للأطراف الليبية المتنازعة خلال شهر يناير 2017 من أجل التوصل إلى حل وسط يتجاوز مأزق اتفاق الصخيرات. إذ استقبلت كل من حفتر والسراج وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب ومارتن كوبلر المبعوث الأممي إلى ليبيا. ولوحظ أن حفتر أبدى بعد لقائه برئيس أركان الجيش المصري الفريق محمود حجازي استعداده للمشاركة في أي حوارات وطنية برعاية مصرية لحل الأزمة الليبية.

بدورها، فإن الجزائر، كقوة إقليمية في الغرب الليبي، وداعمة لحكومة الوفاق استقبلت هي الأخرى حفتر في ديسمبر 2016، في مسعى للتكيف مع نفوذه في المعادلة الليبية، من جهة، والتحسب الأمني لمرحلة ما بعد سرت، حيث تتصاعد احتمالات فرار مقاتلي داعش عبر الحدود الليبية - الجزائرية، من جهة أخرى. أيضا، فإن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي دعا خلال لقائه مع عقيلة صالح (حليف حفتر) في يناير 2017 إلى بناء أرضية مشتركة بين الأطراف الليبية، في إشارة إلى القلق التونسي من أن تأثيرات أزمة ليبيا باتت ممتدة إلى ما وراء الحدود، كما جرى في بن قردان جنوب البلاد في مارس 2016.

تلك المساعي الإقليمية لبناء معادلة متوازنة تجمع بين استيعاب حفتر ودعم حكومة السراج لم يتم الاتفاق على كيفية إنفاذها في تعديلات اتفاق الصخيرات وإن كانت انعكست إجمالا على الاجتماع العاشر لدول جوار ليبيا في القاهرة يوم 21 يناير 2017، والذي ضم مصر والجزائر وتونس وتشاد والسودان والنيجر، فضلا عن ممثلين الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.

فقد مال البيان الختامي للاجتماع إلى صيغة توافقية إقليمية عامة تجمع بين أنه لا بديل عن التمسك باتفاق الصخيرات، وإشراك كافة أطراف الأزمة في الحوار، والحفاظ على وحدة الجيش الليبي ومكافحة الإرهاب، ورفض التدخل الأجنبي. وربما كان أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية أكثر وضوحا في اجتماع جوار ليبيا، عندما أشار إلى أهمية تجاوز عقبات اتفاق الصخيرات ومنها ما يتعلق بالجيش الليبي وهياكل قيادته.

تكيف دولي

دوليا، وبرغم التمسك الأوروبي بدعم حكومة السراج، فقد برزت تصريحات أممية وغربية تشي بالتكيف والاعتراف بجهود الجيش الوطني الليبي في الشرق. منها مثلا ما صدر عن المبعوث الأممي في ليبيا مارتن كوبلر والمبعوث الأمريكي في ليبيا جوناثان واينر خلال شهر نوفمبر 2016. إذ امتدحا جهود الجيش الليبي في طرد تنظيم داعش، ومليشيا أنصار الشريعة من القوارشة غربي بنغازي.

ذات الموقف تبنته فرنسا بحكم اتصالاتها مع حفتر في شرق ليبيا، بل وأيضا ايطاليا، ففي ظل حكومتها الجديدة التي يتولاها باولو جنتيلوني خلفا لماتيو رينزي صارت أكثر توازنا تجاه موازين القوى الليبية. إذ قال وزير خارجيتها انجيلنو ألفانو في 4 يناير 2017، إنها تسعى لاتفاق شامل في ليبيا يضم حفتر، محاولة بذلك تجاوز مأزق الانتقادات التي وجهها قائد الجيش الليبي مؤخرا لروما بـ"الانحياز للمعسكر الاخر في ليبيا"، في إشارة إلى الدعم الانساني والطبي الايطالي لجرحى مصراته أثناء الحرب على داعش.

كذلك، فإن غموض وجهة نظر إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب تجاه ليبيا اللهم باستثناء مسألة مكافحة الإرهاب وخصوصا داعش، لا يمنع من القول إن تفهمها المحتمل للطروحات الروسية وكذا المصرية تجاه ليبيا قد يمهد الطريق أكثر لاستيعاب نفوذ حفتر. وقد يتعزز ذلك بالنظر إلى تصاعد الحضور الروسي الداعم لجهود الجيش الليبي في مكافحة الإرهاب، كما برز مؤخرا في زيارة حفتر لحاملة طائرات روسية ( الأميرال كوزنيتسوف) أمام سواحل طبرق في الحادي عشر من يناير 2017 ومن قبل ذلك، استقباله في موسكو مرتين في نوفمبر ويونيو 2016

هنا، يبدو الرهان الروسي على حفتر وتحالفاته، مدفوعا تارة باعتبارات استعادة النفوذ الاقتصادي الذي خسرته لصالح الغرب في ليبيا بعد القذافي، وتارة أخرى جيوسياسية تتعلق بمنافسة الأوروبيين في البحر المتوسط والذي بات منطقة رئيسية في الصراع على أمن الطاقة، أضف لذلك، استثمار موسكو قدرتها على تغيير موازين القوى في سوريا لصالح نظام الأسد لتوسيعها باتجاه في أزمات أخرى ترتبط بمصالحها في الشرق الأوسط مثل ليبيا.

مسارات الاستيعاب

في ظل هكذا مؤشرات واتجاهات دافعة لاستيعاب حفتر، بات السؤال المطروح، وربما الأكثر تعقيدا في تسوية الأزمة الليبية الراهنة، إلى أين ستتجه عملية استيعاب نفوذ حفتر؟. هنا قد يبرز احتمالان رئيسيان، وهما:

الاحتمال الأول: استيعاب جزئي، بمعنى أن يتم ادماج حفتر بطريقة تعكس نفوذه العسكري في الشرق الليبي، أي ضمن الشق الأمني لاتفاق الصخيرات، بما يمنع سيطرة المجلس الرئاسي على تعيينات المناصب الأمنية، ويعطي ذلك الاستيعاب لحفتر القدرة على السيطرة على الجيش الليبي وتسلسل القيادة فيه. ولعل ذلك برز واضحا في مخرجات اجتماع عدد من الشخصيات الليبية في القاهرة خلال يومي 12و13 ديسمبر 2016 لتجاوز أزمة اتفاق الصخيرات، حيث اقترح تعديل الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة الـثامنة من الاتفاق من حيث إعادة النظر في تولي مهام القائد الأعلى للجيش، وكذلك معالجة المادة الثامنة من باب الأحكام الإضافية المشار لها سلفا، بما يحفظ استمرار المؤسسة العسكرية وابتعادها عن التجاذبات السياسية.

لكن هذا الاتجاه الاستيعابي قد يدخل ضمن إطار "اللا مركزية العسكرية" عبر إبراز قوة عسكرية موازية أخرى في الغرب الليبي مثل، الحرس الرئاسي الذي نشأ بقرار من حكومة السراج في مايو 2016 للسيطرة على فوضى المليشيات لكن دون تفعيل حقيقي على الأرض. بدا ذلك جليا في كلمة المبعوث الأممي مارتن كوبلر أمام مجلس الأمن في الأسبوع الأول من ديسمبر2016، عندما طالب بتقوية الحرس الرئاسي، وكذلك في الاجتماع الدولي الذي عقد في تونس في نفس الشهر لدعم هذه المؤسسة الأمنية، وقال فيه كوبلر إن الأحداث الأخيرة في طرابلس ( محاولة حكومة الانقاذ السابقة السيطرة على مقار الوزارات) تتطلب دعم دور الحرس الرئاسي، ليس ككيان منفصل وإنما تابع لقيادة الجيش الليبي. أضف لذلك كله، أن تجربة تحرير سرت برغم أن غالبيتها من مليشيات مصراته، إلا أنها مثلت بادرة للقوى الغربية على إمكان توحيد مليشيات في قوة عسكرية مناطقية في الغرب الليبي، دون إنكار وجود صعوبات في دمج مليشيات معارضة لمصراته في الغرب.

 الاحتمال الثاني، استيعاب كلي: وهو يشير إلى تولي حفتر مقاليد السلطة الأمنية والعسكرية في كافة مناطق ليبيا عبر اتفاق محتمل مع حكومة السراج حال تصاعد صراع المليشيات في طرابلس وعدم قدرة مصراته على حسمه لصالحها، وهو أمر تطرحه بعض الاتجاهات الغربية لحل أزمة عدم استقرار ليبيا جذريا. لكن ذلك الأمر يستلزم توافقا داخليا وإقليميا ودوليا قد يصعب تحققه لرفع حظر السلاح لتقوية الجيش الليبي، بحيث يستطيع السيطرة على طرابلس والجنوب وتطهيرها من المليشيات المسلحة.

بل إن هذا الاحتمال قد يواجه أيضا صعوبات معقدة تحول دون إنفاذه، فداخليا قد لا يلقى أصلا قبول مصراته وحلفائها في الغرب الليبي المعارضين أساسا لتوسع نفوذ حفتر الأمني، وخارجيا، قد لا يحظى أيضا بحماس من بعض الحكومات الأوروبية أو الجزائر أو تركيا أو حتى قطر نظرا لطبيعة تحالفاتهم مع الغرب الليبي. والأكثر صعوبة من كل ذلك، التكلفة الأمنية الباهظة التي تتطلبها عملية الاستيعاب الكلي لحفتر. إذ تتطلب حربا واسعة في الجنوب والغرب ربما تتجاوز قدرات الجيش الليبي ذاته، خاصة في ظل فرض حظر دولي على تسليحه.

  قد يكون استيعاب حفتر جزئيا في المعادلة الأمنية الليبية ضمن عملية تعديل اتفاق الصخيرات بما يعكس نفوذه في الشرق الليبي هو الأكثر احتمالا بالنظر إلى أمرين، الأول: أن التصريحات الأممية والغربية باستيعاب حفتر تشي بنوع من الإقرار بوضع موازين القوى في ليبيا والتي تميل نحو الشرق، لكن لا ينبغي إغفال أن ذلك قد يكون نوع من "الاستيعاب الاستباقي" لتحجيم اتساع دور حفتر ذاته نحو المجال السياسي. فالقوى الغربية تدرك أن مراكمة قيادة عسكرية لنفوذ متسع في بلد تعج بالفوضى يعني مباشرة بناء رصيد سياسي قد يتم الاختلاف حوله دوليا وإقليميا وداخليا في الغرب الليبي.

أما الأمر الثاني: فإن التوجه الدولي لاستيعاب حفتر أمنيا في اتفاق الصخيرات، يتزامن مع اتجاه متصاعد في بعض الرؤى الغربية حول الحالة الليبية، يتعلق ببناء "مركزين متوازنين للقوة العسكرية" أحدهما في الشرق ممثلا في الجيش الوطني الليبي، والآخر في الغرب ممثلا في الحرس الرئاسي وفي قلبه مصراته. وتنطلق هذه الصيغة الأمنية البراجماتية من أن إعادة بناء ليبيا بطريقة أمنية مركزية تجاوزته الوقائع أصلا على الأرض مع توزع القوة وانتشارها بين فاعلين كثر بعد سقوط نظام القذافي، وبالتالي قد تكون اللامركزية العسكرية التي يجمعها في الأخير قيادة عامة تنسيقية نوعا من التكيف مع الواقع الأمني في هذا البلد.

وحتى ذلك الاحتمال يظل مرهونا هو الأخر بمدى القدرة على بناء هيكل أمني ليبي يتم التوافق عليه بين داخليا وإقليميا ودوليا، بخلاف صعوبة دمج المليشيات المسلحة في غرب ليبيا، خاصة في ضوء صراعها الحالي على العاصمة طرابلس. والأهم هو مدى القدرة على استيعاب الفواعل المسلحة في الجنوب الليبي والتي تتوزع ولاءاتها وتحالفاتها السياسية بين الشرق والغرب، خاصة أن هذه المنطقة قد يكون لها الكلمة الفصل في موازين القوى الليبية خلال المرحلة القليلة المقبلة.


رابط دائم: