العدالة الاجتماعية والتمكين المجتمعي - عرض العدد 63 من فصلية أحوال مصرية
2017-1-18

أحمد عسكر
* باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

طُرحت قضية العدالة الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة بشكل عبر عن عمق إشكالية تلك القضية في إطارها المفهومي والقيمي والتطبيقي، وهو ما أفضى إلى أهمية معالجة هذه القضية من منظور أشمل يتسق وعمق تداعياتها وتأثيراتها على الدولة والمجتمع وما تفرضه متطلبات البناء والإصلاح الحالية لا سيما مع التحديات الاقتصادية التي تتطلبها عملية الإصلاح وأهمية توزيع أعباء وتكلفة الإصلاح على الشرائح القادرة.

واتساقاً مع ما تقدم، يتناول العدد الجديد من مجلة " أحوال مصرية  " العدالة الاجتماعية في مصر وأثرها على التمكين المجتمعي، في إطار التطورات الداخلية والمجتمعية التي تشهدها الساحة المصرية خلال السنوات الأخيرة، والتي عبرت في أحد جوانبها على حلم تحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق مبادئ المواطنة منذ ثورة 23 يوليو 1952، والتي لا يزال - وبعد مرور أكثر من نصف قرن - يفتقد المصريون لها، وهي التي قامت من أجلها ثورتين في تاريخ مصر الحديث.

وقد أشار الدكتور أيمن عبد الوهاب، رئيس تحرير مجلة أحوال مصرية، إلى أن العدالة الاجتماعية هي مسئولية الدولة باعتبارها المسئولة عن رسم وتخطيط السياسات وسبل تنفيذها، إلى جانب مسئوليات وأدوار أخرى تتعلق بالوضع الراهن في ظل تحديات الإصلاح الاقتصادي الراهنة التي تواجه البلاد، ومن ثم، تبقى مسئولية القطاع الخاص ورجال الأعمال ودورهم الاجتماعي ومسئوليتهم المدنية والاجتماعية إحدى الركائز الأساسية في تقليل الفجوة والتفاوت الكبير بين شرائح وفئات المجتمع، بالإضافة إلى مسئولية المجتمع والمواطنين في مواجهة اختلالات منظومة العدالة الاجتماعية.

يرتكز مفهوم العدالة الاجتماعية بالأساس على فكرة التوزيع المتساوي بين الأفراد، كما أن هناك عدد من الضوابط التي تشكل في مجملها فلسفة العدالة الاجتماعية تتمثل في أن العدالة الاجتماعية ليست هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق تنمية مجتمعية مستدامة، كما أنه لا حدود لتطبيق العدالة، علاوة على أنها عملية دينامية بطيئة ومستمرة من التعلم والارتقاء، ولها مجموعة قيمية ينبغي على المجتمع تحقيقها حتى يتسنى تحقيق العدالة.

وقد تعرض العدد للتجربة البرازيلية في العدالة الاجتماعية، وتطرق إلى مدى نجاح حزب العمال البرازيلي في برامج تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الفقر والقضاء على الجوع وتطوير العشوائيات وتجفيف منابع خروج الأطفال إلى الشارع. بالإضافة إلى مساهمة الحكومة البرازيلية والمجتمع المدني والإعلام والشركات الخاصة في برنامج محاربة الفقر في البرازيل، وما نتج عنها من نتائج ملموسة في تغيير مصير الملايين من الأسر البرازيلية.

كما طرح العدد رؤيتين مختلفتين حول وضع العدالة الاجتماعية في مصر، فقد أكد الدكتور إبراهيم العيسوي، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي، ومن أنصار الفكر الاشتراكي، أن المشكلة الأساسية لا تنبع من المشاكل التي سعت الحكومة المصرية لحلها من خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والمتمثلة في عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات وغيره، وإنما ترجع إلى عجز الحكومات المتعاقبة في إخراج مصر من التخلف والتبعية ووضعها على طريق التنمية المستقلة والمستدامة.

في الوقت الذي رأى فيه الدكتور فخري الفقي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، إن الإصلاح مرتبط بوجود دور رائد للمبادرة الفردية والقطاع الخاص، وأن تقوم الحكومة بوظائفها كأي حكومة في العالم، وهي الدفاع والأمن والعدالة والتعليم والصحة، وتوفير البنية الاقتصادية التحتية وحماية البيئة وحماية الملكيات ومنها حقوق الملكية الفكرية، كما أشار إلى أن السياسة الاقتصادية كانت صحيحة منذ أيام الرئيس السادات، بينما كانت المشكلة تكمن في الاهتمام بالجانب الاقتصادي دون الجانب الاجتماعي.

وعن وضع العدالة الاجتماعية في الدستور، تبين أن المواد التي تناولت العدالة الاجتماعية في الدستور المصري لا تكفي في ذاتها لتحقيق العدالة الاجتماعية، فهي لا تعدو كونها مبادئ توجيهية عامة يتعين لنجاحها في تحقيق الأهداف المقصودة منها أن يتم ترجمتها في قوانين وبرامج عمل قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، كما ينبغي التزام السلطة التنفيذية بمضمونها في سياساتها العملية وألا تكتفي بمجرد رفعها شعاراً دون تنفيذ. وأضاف أن تلك الالتزامات تمثل عبئاً اقتصادياً وسياسياً على عاتق الدولة، حيث لا يمكنها بمفردها أن تتعاطى مع هذا الدور دون مساهمة ودعم من القطاع الخاص في الدولة بجميع مكوناته وقطاعاته وأحجامه، ومن القطاع الأهلي.

وقد أشار تقرير التنمية البشرية العالمي لعام 2015 فيما يتعلق بالحالة المصرية إلى أن عدم المساواة يؤدي إلى انخفاض دليل التنمية البشرية بنحو 24% وهي قيمة تزيد قليلاً عن المتوسط العالمي، وهو ما يعكس أن العلاقة التي تربط بين العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية في السياق المصري تبين أن إحداث تحسن في مستوى التنمية البشرية لن يتأتى إلا من خلال تحسين مؤشرات التعليم، فإحراز أي تقدم في مستوى العدالة الاجتماعية لن يتحقق إلا بزيادة التعليم الجيد للجميع الذي يمكن أن يحقق حراكاً اجتماعياً لأبناء الأسر الأفقر.

ومع التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر، ينبغي تبلور دور الحكومة المصرية كأحد الأدوار الأساسية في مساندة وحماية الفئات المتأثرة بالصدمات الاقتصادية الراهنة من الحرمان الاقتصادي أو انخفاض الدخول الحقيقية، من أجل احتواء تبعات تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الجاري تنفيذه، في إطار شبكة الحماية الاجتماعية اللازمة لدعم الاستقرار والتماسك الاجتماعي بالنهاية. ومع التدابير التقشفية التي اتخذتها الحكومة مؤخراً وفي ظل شح الموارد المالية، ينبغي المسارعة من جانب الحكومة في التمكين الاقتصادي للمواطنين من خلال إرساء منظومة جديدة من القيم والقوانين تعلي من المشاركة الاقتصادية لهم، وبما يعزز من مسار النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية معاً.

ومع التقدم التكنولوجي واتساع ساحات التعبير عن الرأي في العالم الافتراضي والتنفيس عن الأفكار حتى المشكلات التي تواجه المجتمع، ومع معالجة الدراما والسينما المصرية التي تعكس جزء كبير من الشخصية المصرية لمثل هذه المشكلات، يتضح أهمية وسائل الإعلام في رسم صورة العدالة الاجتماعية لدى المواطنين، وتحديد أنماط الإدراك، ما يطرح بدوره قضية التنظيم والمهنية، وحدود التوافق المجتمعي كمحددات لصياغة الصورة الإعلامية.

وتشير العديد من الأدبيات الدولية والوطنية على عدد من العناصر المهمة لتعزيز العدالة الاجتماعية، تتمثل أبرزها في الحاجة إلى نمط جديد للتنمية، يقوم على أهداف تلبي احتياجات الناس ألا وهو التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية مجتمعة، علاوة على إعادة النظر في الحدين الأدنى والأعلى للأجور، في سياق يعتمد الهيكل النسبي للأجور في كل قطاع، بالإضافة إلى إعادة النظر في السياسة الضريبية، وتوفير ضمان اجتماعي جيد التصميم من أجل ضمان توسيع نطاق مظلة التأمينات الاجتماعية القائمة على الاشتراكات وإعانات البطالة، ناهيك عن تبني سياسات أكثر عدالة إزاء الفئات والأقاليم الأكثر حرماناً في المجتمع.

وهكذا تبدو قضية العدالة الاجتماعية في مصر كإحدى المشكلات المزمنة التي تواجهها الحكومات المتعاقبة، والتي ستستمر لطالما غابت عنها الحلول الناجعة من أجل تحقيقها للسواد الأعظم من المواطنين الذين يعانون على مدار عقود طويلة.


رابط دائم: