تجديد السياسة الخارجية المصرية في 2017
2017-1-9

د. إيمان رجب
* رئيس وحدة الدراسات العسكرية والأمنية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

احتفظت السياسة الخارجية المصرية بنشاط ملحوظ خلال العام 2016، وهو ما انعكس في الزيارات التي قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال هذا العام والتي بلغت 14 زيارة لكل من  أثيوبيا وكازاخستان واليابان وكوريا الجنوبية والسعودية ورواندا والهند والصين والسودان والبرتغال وغينيا الاستوائية والإمارات وأوغندا، إلى جانب الولايات المتحدة بهدف حضور الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2016. وبذلك يرتفع اجمالي الزيارات التي قام بها الرئيس منذ توليه عدد 44 زيارة خارجية. وتهدف هذه الزيارات كما تحدث عن ذلك الرئيس السيسي وكذلك وزير الخارجية سامح شكري في مناسبات متعددة لإقامة علاقات "متوازنة" وبهدف "انفتاح مصر على الجميع".

ويضاف إلى ذلك، وربما هو البعد الأكثر أهمية عضوية مصر في مجلس الأمن الدولي، والتي تعد نظريا فرصة للدولة من أجل التحرك في إطار المجلس من خلال التصويت أو طرح المبادرات أو مشروعات القرارات بما يتفق والمصالح المصرية. ويلاحظ أن الدبلوماسية المصرية اهتمت بصورة رئيسية بما طرح من مشروعات قرارات في المجلس والتي تتعلق بالصراع في سوريا، ومن ذلك مشروع القرار الروسي ومشروع القرار الفرنسي اللذان طرحا للتصويت في 9 أكتوبر 2016، وقد صوتت مصر لصالحهما نظرا لعدم تعارضهما مع رؤيتها لهذا الصراع.

كما تعد مصر رئيس لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن، وتعنى هذه اللجنة بمتابعة تنفيذ القرار 1373 الصادر في عام 2001 عن مجلس الأمن والمتعلق بمكافحة تمويل الجماعات والعناصر الإرهابية، وذلك إلى جانب مشاركة مصر في المناقشات الخاصة بمكافحة الفكر الإرهابي والمتطرف على الانترنت والتي رعاها المجلس في مايو 2016.

هذا النشاط يكشف عن أنه لاتوجد مشكلة من حيث القدرة على الحركة الخارجية، حيث تمتلك مصر جهاز دبلوماسي عريق له خبرته وكفاءته العالية،  ولكن المشكلة تتعلق بالقدرة على استيعاب الحقائق الجديدة في المنطقة والتي تكشفت أبعادها طوال العام المنصرم، على نحو يسمح بتكييفها بما يحقق المصالح الاستراتيجية للدولة في ظل بيئة إقليمية تتسم بحالة من السيولة وعدم الاستقرار. وتتمثل هذه الحقائق الجديدة فيما يلي:

1- الدول الأخرى ليست صديق أو عدو بل أعدقاء  frenemies:

تمر المنطقة العربية منذ فترة بالعديد من التحولات التي كشفت عن أنه من الصعب تصنيف الدول إلى أصدقاء أو أعداء، ففي العلاقات الخارجية للدول هناك مناطق رمادية تكون بموجبها الدول أعدقاء frenemy تجمع بين كونها صديق وعدو في الآن ذاته. وفي حالة مصر، فإن هذا الوصف ينطبق على حالة الدول التي تتشارك معها في تصوراتها الخارجية تجاه قضايا محددة وفي الوقت ذاته تختلف معها في قضايا أخرى، وربما يتطور الاختلاف إلى صدام أو صراع تختلف شدته من حالة لأخرى ويتم التعبير عنه بسياسات متعددة تتراوح بين تعليق المساعدات وانتهاءًا بسحب السفراء.

وتوظيف هذه الفكرة في السياسة الخارجية يولد نتيجتين، الأولى هي تواضع التوقعات الخاصة بما يمكن أن تقدمه دول أخرى لمصر خلال الفترة المقبلة سواء فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي أو فيما يخص العلاقات الأمنية أو التنسيق السياسي في قضايا محددة، بحيث لاتصاغ هذه التوقعات وفق ما تريده مصر وإنما وفق ما تستعد الدول الأخرى لتقديمه. وتتعلق النتيجة الثانية بارتباط أي تنسيق سياسي عالي في أي قضية بمقابل ما، قد يكون مرتفعًا أو قد يكون من الممكن تحمله، ولكن في كل الأحوال لن يكون مجانًا.

وتعد الولايات المتحدة في هذا السياق نموذجًا جيدًا لدولة لاتعد صديق كامل لمصر أو عدو كامل لها. فمن ناحية، هناك تيارات في دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة لديها مواقف معادية للنظام في مصر ولديها تحفظات حول المستقبل السياسي لجماعة الأخوان فيها وتطالب بتمكين الجماعة من المشاركة في الحياة السياسية، فضلًا عن أن لها مواقف محددة من ملف حقوق الإنسان خاصة حقوق المصريين الذين يدينون بالمسيحية، وتضغط من أجل ربط المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر بحدوث تقدم في هذه الملفات، وقد نجحت هذه التيارات في تغيير سياسات الإدارة الأمريكية تجاه مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013.  

ومن ناحية ثانية، تدرك مصر أهمية الاحتفاظ بعلاقات "غير متوترة" مع الولايات المتحدة، وكذلك الاحتفاظ باستمرار المعونة العسكرية والمعونة الاقتصادية فضلًا عن الاستثمارات الأمريكية  والتي تمثل 33.2% من استثمارات الولايات المتحدة فى أفريقيا حتى نهاية العام 2015، وتعد مصر الثانية فى الشرق الأوسط بعد الإمارات فيما يتعلق بحجم الاستثمارات الأمريكية فيها.

 وهذه الطبيعة المختلطة للولايات المتحدة، تتطلب أن تطور مصر سياسات مختلطة تتلاءم وكونها دولة frenemy  ، مع ضرورة تجنب الإفراط في التوقعات حول سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة نحو مصر.

2- التعامل مع الصراعات بمنطق "التجزئة":

أصبح من الواضح أن الصراعات الرئيسية في المنطقة حاليًا شديدة التعقيد، وتتعدد الأطراف المؤثرة فيها سواء كانت إقليمية أو دولية، ويرتبط بوجود دور لهذه الأطراف فيها وجود مصالح تسعى لتحقيقها، وأيضًا عدم قدرتها منفردة على تحقيق التسوية السياسية لهذه الصراعات. ويعد الصراع في سوريا هو الحالة المثالية لذلك، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بدعم العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش أو تلك التي تقوم بها جماعات المعارضة فإن هناك دور واضح لإيران وتركيا والسعودية والإمارات وقطر، وكذلك لروسيا والعراق والولايات المتحدة وفرنسا.

وفيما يتعلق بالقضايا المرتبطة بتسوية الصراع في  سوريا ، فإنها تتخطى دور الأسد في الحكومة الانتقالية، لتشمل قضية تركيبة هذه الحكومة  ومن هي جماعات المعارضة التي لها حق في المشاركة؟، ومستقبل داعش وجبهة النصرة، ومصير المقاتلين الاجانب في التنظيمين، وانتشار السلاح في سوريا، ومستقبل الجيش السوري، وإعادة الاعمار، وشكل الدولة السورية هل فيدرالية أم كونفدرلية، وامكانية عودة اللاجئين السوريين لوطنهم.

وهذا الوضع يجعل التحرك الاكثر فاعلية لمصر هو السعي للعب  أدوارمؤثرةفىقضايامحددة تكتسب أهمية بالنسبة لها في اي من الصراعات المشتعلة حاليا في المنطقة،ومن الممكن أن يكون ذلك بتنسيقمععددمحدودمن الدولالعربيةوالغربية التىتتشاركمعهافىتصوراتها وفي أولوياتها. وفي حالة الصراع في سوريا مثلاً، فإن هذا الدور المؤثر يتخطى مسألة المشاركة في الاجتماعات الخاصة بالتسوية السياسية للصراع وهو ما تحرص عليه الدبلوماسية المصرية، إلى طرح أفكار محددة تتعلق بالقضايا التي تهتم بها الدولة، وهي تتصل تحديدًا بشكل الدولة السورية ومستقبل الجيش السوري وعلاقته بجماعات المعارضة المسلحة،ففي أثناء زيارة الرئيس السيسي للبرتغال في نوفمبر 2016 تحدث عن تأييده للجيوش العربية بما في ذلك الجيش السوري. 

3- انتشار نمط التحالفات المرنة:

أصبحت دول الشرق الأوسط أكثر براجماتية في إدارة علاقاتها الخارجية، بما في ذلك علاقاتها مع الدول التي تمثل مصدر تهديد لها، حيث تخلت عن سياسات "إما معنا أو ضدنا"، لصالح إستراتيجيات تقوم على فكرة التحالف المرن  tactical alliance المرتبط بقضايا محددة هناك حد أدنى من التوافق في التعامل معها.

 ومثل هذا التطور يجعل الحديث عن انقسام المنطقة إلى محاور جامدة كما كان الوضع خلال الخمسينيات من القرن الماضي، مثل محور الثوريين والمحافظين، أو الدول التقدمية والرجعية، أو دول المهادنة والممانعة، غير واقعي، حيث لم تعد هذه الثنائيات تصلح لفهم التفاعلات الحالية في المنطقة، فمن الواضح أن التفاعلات شديدة التعقيد، وأن حالة الاصطفاف ليست جامدة، وترتبط بقضايا محددة، دون أن تنسحب على باقي القضايا الإقليمية،ودون أن يترتب عليها تغير كبير في المواقف الخاصة بالقضايا الخلافية.

ومثال على ذلك تقارب تركيا مع السعودية خلال العام 2015 رغم اختلاف موقفهما من مصر بعد ثورة 30 يونيو، ودون أن يترتب على ذلك تغير حقيقي في موقف أردوغان من مصر. وقد شهد هذا العام إعلان تركيا دعمها عمليات التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن منذ مارس 2015 وكذلك عضويتها في التحالف الإسلامي الذي شكلته السعودية في ديسمبر 2015 ومشاركتها في المناورات العسكرية التي عقدت في إطاره، واهتمامها بالتنسيق مع السعودية فيما يتعلق بمستقبل الصراع في سوريا خاصة في ظل تقارب مواقفهما منه، حتى أن بعض المصادر تحدثت عن وجود مناقشات  بين الدولتين حول تدخل بري مشترك في سوريا.

ورغم هذا التقارب، اتجهت تركيا مؤخرًا للتنسيق مع إيران وروسيا حول سوريا، وفي إطار ذلك عقدت القمة الثلاثية في موسكو في 20 ديسمبر 2016، وهي قمة  نقلت تركيا عمليًا لمحور آخر يتبنى مواقف مختلفة عن الموقف السعودي فيما يتعلق بسوريا. وحتى في ظل هذا التقارب الجديد، والذي تمحور حول وقف اطلاق النار في المدن السورية باستثناء ما يتعلق بمحاربة داعش وجبهة النصرة ، فإنه لايمتد لتغيير الموقف التركي من حزب الله مثلًا، ففي أثناء الاجتماع الثلاثي بين وزراء خارجية الدول الثلاث، أكد وزير الخارجية التركي مولود أوغلو على ضرورة وقف الدعم لحزب الله باعتباره منظمة ارهابية، وهو مارد عليه وزير الخارجية الإيراني بأن الاتفاق الثلاثي خاص بالمنظمات الإرهابية التي حددها مجلس الأمن الدولي وهي داعش وجبهة النصرة فقط.

إن الفاعلية المتزايدة للتحالفات المرنة، فضلا عن طابعها المؤقت من حيث ارتباطها بقضايا محددة، وعدم وجود إطار مؤسسي رسمي لها، يجعلها بديلا جذابا للدول الأكثر تأثيرا في المنطقة، خاصة وأنها لا تمثل عبئا سياسيا، وذلك بدلا من تقديم تنازلات في إطار المؤسسات التقليدية مثل جامعة الدول العربية، للتعامل بصورة جماعية مع قضية محددة.

وهذا التطور يجعل رهان مصر على النمط التقليدي من التحالفات، من حيث شموله كل الدول العربية أو العمل من خلال مؤسسة الجامعة العربية باعتبارها الإطار المؤسسي لأي تحالف يتطلب التوصل لتوافقات قد تكون معبأة بمواقف أيديولوجية وذات تكلفة مرتفعة، خاصة في ظل ضيق مساحات التوافق بين الدول العربية خلال المرحلة الحالية. وتعد القوة العربية المشتركة التي طرحتها مصر مثالًا نموذجيًا يؤكد ضرورة التفكير بطريقة مختلفة، حيث كان حرص مصر على أن تنفذ هذه المبادرة في إطار الجامعة سببًا في تعثر انتقالها من كونها فكرة إلى شيء ملموس.

كما يرتبط بذلك ارتفاع تكلفة الانضمام لأي تحالفات تقليدية فى المنطقة، بما فى ذلك المحاور المذهبية التى قد تتشكل وفق خطوط الصراع السنى –الشيعى فى المنطقة، والذى يتصدره الصراع فى سوريا واليمن والعراق، والذى قد يعززه سياسات بعض الدول العربية،  لاسيما فى ظل تعدد قضايا الخلاف بين مصر وغيرها من الدول فى الإقليم بما فى ذلك تلك التى تدعمها حاليا مثل السعودية.

يمكن القول إن التحرك بما يخدم المصالح الاستراتيجية للدولة المصرية خلال الفترة المقبلة، دون الاضطرار لتحمل أعباء مادية ضخمة أو تقديم تنازلات لا يمكن التراجع عنها، وفي الوقت نفسه تبني سياسة خارجية لا تغضب الآخرين، يمثل تحديًا حقيقيًا. وسيساعد استيعاب هذه الحقائق الجديدة في نمط التفكير الخاص بالسياسة الخارجية المصرية على التعامل مع هذا التحدي، من خلال  التخلص من بعض القيود التي فرضت على مصر خلال الفترة الماضية إما بسبب التعقيدات التي تمر بها داخليًا أو بسبب التحولات التي تشهدها المنطقة ككل، كما سيسمح لها في الوقت ذاته بالاستفادة من الفرص "المحدودة" المتاحة نتيجة ما تمر به المنطقة من تحولات.


رابط دائم: