المعارضة في مصر رؤية غائبة وحركة بلا جماهير
2016-5-16

سعيد عكاشة
* خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تتشكل المعارضة الحالية للرئيس السيسي من أحزاب وتيارات سياسية متنوعة تمتد من أقصى اليمين (الإخوان وجزء من التيار السلفي والجماعات الجهادية) إلى أقصى اليسار (الأناركيين والإشتراكيين الثوريين). ويجتمع الجانبان على هدف إسقاط النظام، ولكنهما يفتقران للقوة الحقيقية لتحقيق هذا الهدف لجملة من الأسباب تتعلق بالتفاعلات البينية، وأيضا بسبب عدم قدرتهما على جذب مؤيدين أو أنصار لهما من خارج معسكرهما. وقد مثلت مظاهرات 15 و25 أبريل الماضيين دليلا على تباعد المسافة بين الطرفين من جهة وبينهما وبين غالبية الشارع المصري من الجهة الأخرى، سواء على مستوى عدم قدرتهما على التنسيق معا أثناء هذه المظاهرات أو قبل الإعداد لها، أو على مستوى العجز عن تبني شعارات بإمكانها جذب اهتمام رجل الشارع العادي.

وإذا كان هذا الوضع يشكل تحديا ضعيفا أمام الرئيس السيسي من جهة استقرار نظام حكمه، فأنه يدفع المجتمع المصري أكثر نحو الغرق في الشعور بالقلق وعدم اليقين تجاه المستقبل والذي يمثل -في حالة استمراره- مشكلة قد تنعكس سلبا على قدرة الرئيس السيسي على الحفاظ على حالة التوازن الحرج التي يحافظ عليها حتى الآن في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية شديدة التعقيد والخطورة.

المعارضة وأزمتها الممتدة

كان انطلاق حركة كفاية في عام 2005 بمثابة إعلان إفلاس للحياة الحزبية في مصر والتي كان من المأمول منذ انطلاقها في عام 1976 أن تكون الحامل للتيارات السياسية، ولكنها فشلت لأسباب عديدة أهمها استمرار هيمنة فكرة الحزب الواحد (الحزب الحاكم) على النظام السياسي برمته، والصراعات داخل أحزاب المعارضة، وعجز القوى الحزبية عن مواجهة عمليات تحجيمها وتهميش دورها من قبل الدولة وحزبها الحاكم.

ومع تحول العديد من النشطاء السياسيين للانخراط في مؤسسات المجتمع المدني مثل جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، والجمعيات التي تهتم بالتنمية البشرية، ازداد ضعف الأحزاب السياسية أكثر من أي وقت مضى، بل أن حركة كفاية التي تمكنت من إعادة تجميع نشطاء سياسيين من أجيال مختلفة لم تستطع الاستمرار لفترة طويلة وبدأت في الأفول التدريجي مع نهاية عام 2008 لتخلي موقعها لجماعات وائتلافات شبابية راهنت على خطاب الدكتور محمد البردعي الذي بدأ نجمه في الظهور بعد انتهاء رئاسته للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وعبر هذا الرهان تمكنت الثورة الشعبية في 25 يناير 2011 من الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، ولكن بدلا من توحد القوى الثورية الجديدة لحماية مطالب الثورة وقع الشقاق بين أطرافها جميعا مما مكن جماعة الإخوان بالتحالف مع السلفيين من السيطرة على الشارع والفوز بانتخابات مجلسي الشعب والشورى والتي جرت أواخر عام 2011 وبدايات عام 2012، ثم الفوز بمنصب الرئاسة في يونيو من نفس العام. وكما هو معروف حاولت جماعة الإخوان الاستئثار بالسلطة وقمع وتهميش القوى الثورية والحزبية المخالفة مما أدى إلى تعقيد الأوضاع ووقوع ثورة 30 يونيو التي تمكنت بتأييد من المؤسسة العسكرية من الإطاحة بحكم الإخوان، الأمر الذي قاد لصراع ممتد على مدى نحو عامين حتى تم انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في يونيو 2014، لتبدأ بعدها حرب جديدة بين القوى السياسية والحزبية وجماعات المصالح المرتبطة بنظامي مبارك والإخوان من جهة، وبين نظام الرئيس السيسي من جهة أخرى.

وكما ادعت القوى المعارضة بأن الرئيس السيسي يعيد إنتاج نظام مبارك، عادت نفس هذه القوى لنفس الخطاب الذي اعتادت ترويجه في عهد مبارك بالقول بأن النظام يفتقر إلى الرؤية المستقبلية كما يفتقر للحس السياسي، ومن ثم اختزلت العمل السياسي في مجرد استغلال بعض الاختلالات في وظائف مؤسسات الدولة وممارساتها للدعوة للتظاهر والاحتجاج ورفع شعارات عامة تفتقر بدورها إلى العمق والقدرة على جذب المؤيديين والأنصار. وتراهن الجماعات المعارضة- سواء تلك التي تهدف لإسقاط النظام أو التي تهدف لمجرد الضغط عليه فقط للقيام ببعض الإصلاحات السياسية وتوسيع هامش المشاركة -على تكرار ما حدث عشية اندلاع ثورة 25 يناير 2011 دون الانتباه للفروق الجوهرية بين البيئة التي مهدت للإطاحة بمبارك وبين البيئة الحالية المحيطة بالرئيس السيسي.

بمعني أكثر وضوحا يمكن القول إن النقد الذي وجه لتيارات الإسلام السياسي الداعية لعودة الخلافة باعتبار أن مثل هذه التوجهات تعبر عن عقلية تبسيطية تنزع الحدث التاريخي من سياقه الزمني مسقطة إياه على الحاضر دون دراسة الأبعاد الحضارية التي خلقت هذا الحدث، مثل هذا النقد يمكن أن يوجه للمعارضة المصرية بشتى توجهاتها عامة والجماعات الثورية خاصة في الوقت الراهن، إذ أنها مارست نفس التفكير فيما يتعلق بالحراك الذي أطاح بمبارك قي الحادي عشر من فبراير 2011، ومازالت تصر على إمكانية تكراره بغض النظر عن تغير البيئة التي احتضنته والتي لاتشبه البيئة المحيطة بنظام الحكم الحالي.

الرؤية القاصرة لمعنى المعارضة

تكمن أهم الأسباب التي قادت المعارضة المصرية بكل فصائلها للسقوط المتكرر في كل الاختبارات التي وضعت نفسها فيها، في عدم إدراكها لمعنى المعارضة سواء في نظام سياسي منفتح ويسمح بالنشاط السياسي ويؤمن بمبدأ تداول السلطة، أو في نظام تسلطي مغلق لا يسمح بأي تحرك سياسي مباشر للمعارضين له داخل المجال العام. ولأن السيطرة على المجال العام بشكل كامل من جانب الدولة ونظامها الحاكم منذ عام 1976 لم تكن متحققة من الناحية النظرية والعملية، لذا تعد المعارضة السياسية مسئولة عن فشلها سواء في توسيع قاعدة مؤيديها أو في الحوار مع النظام من أجل تقليل مساحات الصدام.

ففي واقع الأمر بدت المعارضة سواء الحزبية أو تلك التي تكونت حول شخصيات ورموز ثقافية وسياسية وكأنها تطلب من الدولة وحزبها الحاكم تهيئة الظروف التي تساعدها على أن تكون بديلا للحزب الحاكم انطلاقا من تصور مثالي لمعني النظام الديمقراطي، فيما كانت أجنحة أخرى للمعارضة ومن خارج الحياة الحزبية مثل جماعة الإخوان تدرك مدى عدم واقعية مثل هذا التصور، أو بمعنى آخر ففي حين اشترطت الأحزاب والقوى السياسية المعارضة على الدولة أن يكون المجال السياسي مفتوحا أمامها بالكامل لكي تقوم بعملها الذي يتمحور عمليا حول هدف الإطاحة بحكم الحزب الحاكم والحلول محله!!! فأن الجماعة الأكثر واقعية (الإخوان المسلمين) كانت قد وعت أن المجال السياسي ليس مغلقا تماماً، وأنه من الضروري عدم استفزاز النظام الحاكم وإشعاره بخطورة فتح المجال العام أمام معارضيه أو منافسيه على السلطة، ومن ثم اتجهت هذه الجماعة لتقديم نفسها كعون للسلطة وليس كمنافس لها، وكما قبلت أن تكون في حقبة السبعينات من القرن الماضي الأداة التي ضرب بها النظام معاقل منافسيه من اليسار والناصريين، فقد قنعت أيضا بالمساحة التي تركها لها النظام لكي تُمارس أنشطتها من خلالها أي العمل الأهلي خاصة في النقابات والأندية والانشطة الخدمية والتجارية، وهو ما مكنها من تقليل الصدام مع النظام، والأهم أنه أتاح لها الفرصة لتوسيع قاعدة مؤيديها في المجتمع وأيضا تجنيد المزيد من كبار وصغار موظفي الجهاز البيروقراطي للدولة لصالح أفكارها وأهدافها.

المعارضة وضرورة العمل على المسار الموازي

عندما تدرك المعارضة التي تتشكل من الأحزاب والجماعات الثورية أن المجال العام في جانبه السياسي ما يزال مغلقا بسبب قوة إرث الحقبة الناصرية وامتداداتها المختلفة شكلا والمتطابقة موضوعيا (عهد السادات ومبارك)، فأن مجال حركتها ينبغي أن يتمحور بشكل أكبر حول العمل الأهلي بتوسيع النشاط في مجال التنمية البشرية والذي من شأنه ليس فقط خفض المواجهه مع الدولة في المجال السياسي المباشر، بل أيضا خلق علاقة عضوية مع الفئات الاجتماعية التي تضررت بشكل كبير من جراء سياسة انسحاب الدولة من مجالات عديدة مثل التعليم والصحة.

وتزيد الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد سواء على صعيد المواجهه مع الجماعات الإرهابية، أو على مستوى غموض الأوضاع الأقليمية والدولية، من مشاعر القلق والخوف لدى أغلب فئات المجتمع من احتمال الوقوع في الفوضى أو الحرب الأهلية كما حدث في بلدان أخرى مثل ليبيا وسوريا، وبالتالي تصبح مهمة طمأنة المجتمع أهم من الدخول مع النظام الحاكم في معارك حول تحسين أداءه، أو مواجهة الفساد المستشري في أجهزة الحكم، خاصة في ظل غياب بديل حقيقي له حتي الآن، وفي ظل الربط من جانب أغلب فئات المجتمع بين نقد النظام بعنف والدعوة للتظاهر ضد قراراته وبين احتمالات أن يقود ذلك كله إلى سقوطه وسقوط البلاد في أتون الفوضى وعدم الاستقرار. على جانب آخر وفي المدى المنظور والمتوسط، ما يزال ضمن مسؤلية المعارضة السعي لابتكار لغة مختلفة وسبل جديدة للحوار مع النظام الحاكم من أجل تقليل فجوة الثقة فيما بينهما، دون التخلي عن أهدافها البعيدة والخاصة بتوسيع مجال العمل والنشاط السياسي وصولا إلى تحقيق الديمقراطية وتداول السلطة في نهاية المطاف.


رابط دائم: