ملاحظات حول عودة الحراك السياسي في مصر
2016-5-7

د. زياد عقل
* خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 شهدت الساحة السياسية في مصر خلال الأشهر الثلاث الأخيرة عودة للحراك السياسي والاجتماعي بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام من الركود النسبي، وقد تجلى هذا الحراك في حلقات متواصلة من الحشد الجماهيري لرفع مطالب سياسية واجتماعية بدءاً من التحرك الجمعي لحركتي أولتراس أهلاوي وأولتراس وايت نايتس في فبراير الماضي لإحياء ذكرى مذبحة بورسعيد ومذبحة الدفاع الجوي والمطالبة بمحاكمة المسئولين عنهم، ثم الجمعية العمومية لنقابة الأطباء في فبراير الماضي أيضاً بعد ما وقع في مستشفي المطرية من تجاوز في حق الأطباء من قبل أحد أفراد الشرطة، ثم مظاهرات جمعة الأرض و25 أبريل اعتراضاً علي اتفاقية ترسيم الحدود الأخيرة بين مصر والسعودية، وانتهاءاً بالجمعية العمومية غير العادية التي عقدت بنقابة الصحفيين يوم الأربعاء الماضي للاحتجاج علي اقتحام قوات الأمن للنقابة وقرارات حظر النشر واعتقال الصحفيين. وبالرغم من أن هذه الأحداث قد تبدو بمعزل عن بعضها البعض ولا يجمعها سياق واحد نظراً لاختلاف الكيانات المنظمة لها وتنوع الأفراد المشاركون فيها، إلا أن هناك أكثر من عامل مشترك يربط هذه الأحداث المتفرقة في إطار واحد. من منطلق سياسي، تعبر هذه الأحداث المختلفة عن ظهور تيار معارض لبعض توجهات النظام الحالي، وهو تيار متنوع في العناصر المشكلة له وفي القضايا أو المطالب التي ترفعها هذه العناصر. ومن منطلق أو منظور اجتماعي، نرى أن هناك إعادة إحياء لفكرة التعبئة من خلال استخدام المساحة العامة، وإضفاء بعض التنوع والتجديد في هذا الاستخدام من خلال التظاهر السلمي في أماكن مختلفة كما حدث في مظاهرات 25 أبريل، وهو أحد أساليب التكيف مع البيئة السياسية والأمنية غير المرحبة بالتظاهر كأداة للتعبير أو للضغط، أو ما فعلته حركة أولتراس وايت نايتس عندما قررت التوجه لحديقة الفسطاط لإحياء ذكرى مذبحة استاد الدفاع الجوي، وهو ما يعد أيضاً أحد آليات التأقلم مع البيئة السياسية الراهنة. كما أن الفترة الماضية شهدت تحركاً جمعياً لقطاعات من النخب المهنية كالأطباء والصحفيين، وتضامن من المهندسين والمحامين مع هذه التحركات من خلال الكيانات النقابية. وبالرغم من وجود خلافات داخل كل هذه النقابات حول المواقف المتخذة من الدولة، إلا أن هذه الخلافات لا تنفي عودة التحرك الجمعي للنخب المهنية داخل المجتمع المصري، وهو تطور لم تشهده الساحة السياسية والمجال العام في مصر منذ عام 2013. كما أنه من المهم ملاحظة عودة ظاهرة "مظاهرات التأييد" بصورة تطرح من التساؤلات اكتر مما تقدمه من دلائل. فمظاهرات التأييد ظاهرة عرفها المجتمع المصري منذ ستينيات القرن الماضي، وطالما ارتبطت بمحاولات إلقاء الضوء علي وجود رأي عام مساند لتوجهات النظام، وبالرغم من استمرار هذه الظاهرة مع اختلاف القيادة السياسية في مصر، إلا أنها تظل أحد علامات الاستفهام غير المفهومة في سياق العمل السياسي في مصر. التوجه إلى العمل الجمعي من خلال الحشد والتعبئة يكون أحد الآليات التي تستخدمها القوى السياسية والاجتماعية لرفع المطالب وممارسة الضغوط لتحقيق هذه المطالب في ظل عدم تمكن هذه القوى من التعبير عن مواقفها أو المطالبة بحقوقها من خلال القنوات الشرعية والمؤسسية، وبالتالي تلجأ للتنظيم الاجتماعي المستقل والعمل الجمعي، علماً أن المنطق التقليدي يقول أن دعم النظام يتم التعبير عنه من خلال الالتزام بالعملية المؤسسية التي يرعاها هذا النظام سواء من خلال المشاركة في الفعاليات المختلفة لهذة العملية كالانتخابات والاستفتاءات أو عدم تقديم أية أنواع من الدعم للحركات والتيارات المعارضة لتوجهات النظام. ولكن مظاهرات التأييد في مصر لا تهتم بدعم توجهات النظام بقدر ما تهتم بتشويه التيارات المعارضة والهجوم عليها بوسائل مختلفة عادة ما تتسم بالعنف اللفظي والجسماني. كما أن مظاهرات التأييد في مصر لا ترفع مطالب محددة أو تعبر عن موقف واضح إزاء قضية سياسية أو اجتماعية، ولكنها تنخرط في دعم مطلق لرئيس الجمهورية ولبعض مؤسسات الدولة كالقوات المسلحة والشرطة، وعادة لا يرتبط هذا الدعم بقضية أو بموقف سياسي محدد. والجدير بالذكر أن العمل الجمعي كالتظاهر علي سبيل المثال عمل يحتاج لقدر من التنظيم وجهود للتعبئة وموارد مادية وبشرية ومعنوية قادرة علي تحريك الجماهير ودوافع ومصالح تبرر مشاركة الأفراد في فعاليات مجمعة لتحقيق أهداف أو مطالب، ولهذه الأسباب عادة ما نجد كيان منظم بشكل أو بآخر يكون مسئولاً عن تنسيق التظاهر كالحركات الاجتماعية أو الأحزاب السياسية أو النقابات المهنية. ولكن الجهة المنظمة لمظاهرات التأييد في مصر تظل جهة مجهولة حتي الآن، خاصة إذا لاحظنا عدد من الدلائل التي تشير لوجود دعم مادي لهذة التظاهرات كحافلات مخصصة لنقل المتظاهرين، ومكبرات صوت لبث الأغاني، وهي دلائل تشير لوجود تنظيم لهذه التظاهرات دون معرفة الجهة المسئولة عن الحشد. في فترات سابقة كانت التنظيمات السياسية التابعة للدولة هي التي تتكفل بهذا التنظيم، كالاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والحزب الوطني، ولكن في ظل غياب كيان سياسي رسمي يعبر عن الدولة في الوقت الحالي، تظل الجهة المنظمة لهذة التظاهرات أحد علامات الاستفهام العالقة في سياق تحليل هذه الظاهرة. ومما لا شك فيه يعد رد فعل الدولة نمط تعاملها مع الحراك السياسي خلال الأشهر الثلاث الأخيرة أحد الأبعاد الهامة في سياق تحليل ما طرأ علي المجال العام في مصر من تحول خلال الفترة الماضية. وفيما يتعلق برد فعل الدولة، يمكننا التفرقة بين رد الفعل تجاه التظاهرات السياسية التي تدعو لها قوى ثورية كمظاهرات جمعة الأرض و25 أبريل، وبين تحرك النخب المهنية من خلال الكيانات النقابية التي تجسدت في الجمعيات العمومية غير العادية لنقابتي الأطباء والصحفيين. فبالرغم من رفض النظام السياسي في مصر لفكرة المعارضة غير المؤسسية، خاصة تلك التي تتخذ من الشارع والعمل الجمعي مجالاً للتعبير والضغط، وهو الرفض الذي يتجلى في حزمة من التشريعات الصادرة منذ 2013 والفاعلة حتي الآن أو في عدد من تصريحات رئيس الجمهورية التي تدعو للثبات علي رؤية واحدة ورفض الاختلاف في وجهات النظر أو التوجهات السياسية، إلا أن تعامل الدولة كان مختلفاً مع التحرك الجمعي الذي دعت له النقابات. ولعل خير دليل علي هذا الاختلاف هو التباين في رد فعل الدولة وأداء أجهزتها الأمنية خلال مظاهرات 25 أبريل وأحداث الجمعية العمومية غير العادية لنقابة الصحفيين في الرابع من مايو. ففي 25 أبريل لم تسمح الشرطة بوصول المتظاهرين للأماكن التي تم الإعلان عن أنها سوف تكون موقعاً للتظاهر، فتم تطويق كل من نقابة الصحفيين ونقابة الأطباء بكم هائل من ضباط الشرطة وأفراد الأمن الذين قاموا بمنع اي مواطن من الاقتراب من هذه الأماكن كإجراء احترازي لتحجيم الحشد الذي كان من المنتظر نزوله للتظاهر, كما قامت قوات الأمن بفض التجمعات التي ذهبت لميدان المساحة في الدقي. وقد سبقت مظاهرات 25 أبريل حملة من الاعتقالات العشوائية التي أنكرت وزارة الداخلية في تصريحات رسمية أية علاقة بها. لم تتعامل الدولة بنفس الطريقة مع أحداث الجمعيات العمومية غير العادية لنقابتي الأطباء والصحفيين، فكان الأمن متواجداً بكثافة في محيط النقابتان، ولكنه لم يمنع الأطباء أو الصحفيين من الوصول لمقر النقابة أو من التظاهر في محيطها، وهو ما يوضح تباين في تعامل الأمن مع العمل الجمعي الذي يضم بين طياته نخب مجتمعية أو مهنية خاصة إذا ما تم هذا العمل في إطار مؤسسي وقانوني كالنقابات المهنية. يظل السؤال الأكثر أهمية في سياق تحليل عودة الحراك السياسي للمجال العام في مصر هو حجم الاختلاف في البيئة الحاكمة للعمل الجمعي وفي هيكل الفرصة السياسية ككل، أو بمعنى آخر، هل هناك ما يمكن أن يفسر لماذا تشهد مصر حراكاً سياسياً في الأشهر الثلاث الأخيرة لم تشهده منذ يونيو 2013؟ وفي واقع الأمر، لم تشهد البيئة السياسية تحولات محورية خلال الفترة الأخيرة، فلازالت الدولة مستمرة في قمع التحرك الجمعي والتضييق علي الحريات ومحاربة التوجهات المعارضة للنظام من خلال أدوات مختلفة أمنية وسياسية وتشريعية. ولازالت هناك قطاعات من النخب الاجتماعية والسياسية والمهنية التي تؤيد النظام وتبذل مجهود مضني في دعم توجهاته وتشويه معارضيه باتهامات الخيانة والعمالة. ولكن التحولات الهامة تتمثل في ظهور تحالفات بين بعض النخب المهنية مثلما حدث بين الأطباء والصحفيون الأسبوع الماضي، وأيضاً هناك تراجع لدور المؤسسات السياسية وعلي رأسها الأحزاب والبرلمان، وهو ما يقلل من شأن هذه المؤسسات في فتح المجال العام أو في أداء مهامها الرقابية. ومن ثم، فما شهدته مصر في الأشهر الثلاث الأخيرة هو في الواقع ارهاص لإعادة تشكيل قوى المعارضة المدنية في مصر، وهي عملية صعبة خاصة في ظل توجه الدولة الرافض لعودة تيار مدني قوي أو لاستخدام المساحة العامة للتعبير. ويظل السؤال العالق بحثاً عن إجابة هو هل ستلجأ الدولة للمزيد من القمع لمنع هذا التيار من التبلور بصورة فاعلة، وهل سيكون هذا القمع كافياً لإقصاء هذا التيار من الساحة أم أنه سيكون بمثابة عامل محفز لاستمرار محاولات تنظيم صفوف المعارضة، ام هل يدرك النظام أن المعارضة السياسية والخلاف في الرأي ليسا بالضرورة أفعال تآمريه تهدف لزعزة الاستقرار وهدم الدولة، بل هم جزء لا يتجزأ من اي نظام ديمقراطي يسعى لتطبيق أبسط قواعد الحكم الرشيد؟


رابط دائم: