المعارضة السورية والإفلات من فخ جنيف 3
2016-2-9
محمود حمدي أبو القاسم
09/02/2016 تتفاعل حول الأزمة في سوريا أطراف متعددة تشكل بدورها مستويات مختلفة من الصراع فهناك أطراف الصراع على المستوى المحلي والمتمثلة في النظام السوري وعلى رأسه بشار الأسد، في مواجهة فصائل المعارضة المسلحة (المعتدلة–المتشددة)، ناهيك عن تنظيم داعش المتطرف.. وآخرين. فيما تنخرط في الأزمة على المستوى الإقليمي قوى رئيسية أبرزها إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية وإسرائيل، وجميعها منخرط في الأزمة في حرب بالوكالة، وأخيرا هناك القوى الدولية الرئيسية على المستوى الدولي والمؤثرة في الصراع، وأهم تلك القوى روسيا التي انخرطت عسكريا في الصراع منذ أغسطس 2016 حماية للنظام السوري أو بالأحرى حماية لمصالحها المرتبطة ببقاء النظام خلال المرحلة الراهنة من الصراع، بجانب الولايات المتحدة الأمريكية المنسحبة جزئيا من الانخراط المباشر في أزمات المنطقة والمتخاذلة في دعم من يعتبرونها حلفاءهم في الأزمة. في ضوء ذلك الصراع المحتدم حول الأزمة في سوريا نجد المعارضة السياسية غير حاضرة في المشهد كطرف أصيل ومؤثر اللهم إلا الحضور الإعلامي الكثيف من العواصم المختلفة المناوئة للنظام السوري، لكن الأهم هو حضورها كسلعة سياسية في يد القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، هذه السلعة تتزايد قيمتها كلما اتجه مسار الصراع بين أطرافه الإقليميين والدوليين نحو اختبار فرص التسوية، باعتبارها طرفا جاهزا للدفع به إلى طاولة المفاوضات، لكن في المقابل فإن فشل مبادرات التسوية ومؤتمراتها يعود ليواري المعارضة السياسية خلف المشهد، لتبرز في المشهد مرة أخرى فصائل المعارضة المسلحة على الأرض باعتبارها تمثل البديل القادر على تحسين مواقع ونفوذ القوى الداعمة واقعيا، وذلك لحين العودة في مرحلة لاحقة إلى لحظة تسوية. وتشير تطورات الصراع في سوريا أن المرحلة التي تلت التدخل الروسي عسكريا في صيف 2015 قد أدت إلى تقلص الدور الوظيفي لبشار الأسد باعتباره رئيسا للسوريين ككل ولسوريا بحدودها المعروفة وبمكانتها الإقليمية، لكنه كورقة لا زالت مهمة لمعسكر حلفاء النظام السوري على الرغم من التباين في المدى الذي يمكن أن يظل فيه كل طرف متمسك ببقائه كرئيس لسوريا، وذلك في سياق الترتيبات التي يتم إنضاجها على نار هادئة كمقدمة لشرق أوسط جديد ومختلف قد تتحدد على إثرها خريطة جديدة للمنطقة، وتتحدد معها كذلك مساحات النفوذ والمراكز الجيوسياسية للقوى الموجهة فعليا للصراع. هنا أيضا يمكن القول إن المعارضة العسكرية والسياسية تقف على قدم المساواة مع النظام كونهم أوراق ذات قيمة في يد من يديرون الصراع فعليا على المستوى الاقليمي والدولي، وهما معا -الرئيس السوري(النظام) والفصائل المسلحة ومعهما المعارضة السياسية بكافة أطيافها وهيئاتها- الحلقة الأضعف في التأثير على مسار الصراع في سوريا وهم يتأثرون بالضرورة بحجم الاستثمار الاقليمي والدولي الهائل في الحرب، كون وقف تدفق أو رفع الغطاء السياسي أو الدعم المادي الخارجي عن أى من هذه الأطراف يعرضها لسقوط سريع ومدو؛ وبالتالي فإن أي تغيير جوهري في معادلة التوازن الاقليمي والدولي يؤثر بدرجة كبيرة على موقف المعارضة ومكانتها، سواء كان هذا التأثير سلبيا أم إيجابيا. ومن ثم كان منطقياً أن يتواكب مع المعركة الدائرة في سوريا بين أطراف الصراع على الأرض معارك أخرى سياسية ودبلوماسية في الغرف المغلقة؛ لهذا فإن الاستعداد لجنيف الثالثة التي جرى اختبار فعالياتها نهاية يناير ومطلع فبراير 2016 قد بدأ مبكرا منذ مطلع العام 2015، حيث توازت الجهود العسكرية للقوى الإقليمية والدولية لتحقيق أسبقية على مسرح العمليات العسكرية في سوريا منذ فشل جنيف الثانية في فبراير 2014 مع جهود سياسية لتجميع عناصر قوة إضافية في يد طرفا الصراع لحين نضوج فرصة لمفاوضات مقبلة. فروسيا اجتهدت في استقطاب ممثلين من المعارضة وممثلين من النظام إلى موسكو، وذلك بالتوازى مع جهود بذلتها القاهرة (لديها تحفظات على بعض أطراف المعارضة السورية وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، والقوى المدعومة من تركيا وقطر وهي حليف مهم لموسكو في الأزمة) لتجميع أطراف من المعارضة للتوافق على وثيقة عمل، وكذلك جهود جرت في دمشق للترويج لكيانات معارضة جديدة من الداخل(جبهة التغيير والتحرير، وحزب الشعب، وحزب التضامن، وحزب التنمية، وحزب الشباب الوطني للعدالة والتنمية، والتجمع الأهلي الديمقراطي للكرد السوريين، وتيار سلام ومجد سوريا). اتضح من تلك الجهود وما تمخض عنها من مبادرات أنها تستهدف تحجيم نفوذ تركيا وقطر باستبعاد بعض أطراف المعارضة وفي مقدمتهم ائتلاف المعارضة والإخوان المسلمين، بجانب خلق كيانات معارضة جديدة تقف على أرضية واحدة مع توجهات موسكو ودمشق لمزاحمة أطراف المعارضة المناوئة للنظام وتقليل حضورها السياسي حول الأزمة، فضلا عن إنجاح مخطط تعويم الأسد، وذلك بوجود أطراف معارضة قابلة للتفاوض معه؛ وبالتالي إتاحة الفرصة أمامه ليكون شريكا في المرحلة الانتقالية وفقا للفهم الروسي لبيان جنيف الأول، وقد كانت هيئة التنسيق المعارضة هي الطرف الرئيسي الممثل للمعارضة في تلك المباحثات والتوافقات مع كيانات وشخصيات معارضة أخرى. في مواجهة الجهود الروسية والمصرية والسورية التي عمقت من مأزق المعارضة وتفتتها ومن ثم غياب رؤية موحدة تجمعها جرى العمل على جانب آخر على احتواء الخلاف المتسع بين أطراف المعارضة (هيئة التنسيق وائتلاف قوى الثورة والمعارضة) من جانب القوى الإقليمية والدولية المناوئة للنظام السوري وروسيا، وقد اجتهدت باريس ممثلة لمجموعة أصدقاء سوريا في محاولة تقريب وجهات النظر بين أطراف المعارضة. ومن ثم تم التوصل تدريجيا لصيغة وسط وتنازلات متبادلة عبرت عنها قيادات الطرفين وهي: تنازل الائتلاف عن شرط رحيل الأسد قبل بدء أى عملية تفاوضية منتظرة، وقبول هيئة التنسيق بصلاحيات كاملة لهيئة الحكم الانتقالي. وإلى جانب هذا التنافس على تهيئة كل طرف لظروف تفاوضية تجعله في مكانة أفضل؛ فإن عدة تطورات متسارعة ساهمت في الإسراع في العودة إلى مسار التفاوض، أهمها، التدخل العسكري الروسي وتداعياته في نهاية سبتمبر 2015، واحتمال اتساع نطاق الصراع بين القوى الإقليمية والدولية في سوريا، كما ظهر ذلك مع إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية في 24 نوفمبر 2015، فضلا عن تفاقم أزمة اللاجئين السوريين تجاه أوروبا، ناهيك عن تصاعد معدلات التحديات الأمنية التي أخذت تفرضها الأزمة السورية بالتزامن مع تصاعد العمليات التي تبناها تنظيم داعش خارج حدود سوريا في عدة دول أوربية وعربية. وقد كانت فيينا محطة مهمة في تحديد تصور جديد لتسوية الأزمة على المستوى الدولي تلعب فيها روسيا دور القيادة، وذلك من خلال مباحثات أولية جرت جمعت وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، والمملكة العربية السعودية، وتركيا في 23 أكتوبر 2015، ثم اتسعت في اجتماع ثان لتشمل جميع الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن السوري ومن ضمنها إيران (كانت ممنوعة من حضور جنيف الثانية برغبة سعودية). وفي الأخير تم وضع تصور لحل في سوريا وفق جدول زمني ينتهي في 2017، وذلك تحت رعاية الأمم المتحدة، وقد تم تكليف الأردن، بالتنسيق مع ممثلي استخبارات الدول المشاركة، بوضع قائمة تشمل الفصائل والجماعات العاملة في سوريا التي ستدرج في قوائم الإرهاب، لاستبعادها من وقف إطلاق النار، ومن ثم الإعداد لضربها. وأوكل اجتماع فيينا إلى السعودية مهمة جمعِ أطراف المعارضة السورية وتوحيدها، استعدادا لإطلاق العملية التفاوضية مع النظام. بالفعل دعت السعودية أطراف من المعارضة السياسية والعسكرية للرياض في 8 و9 ديسمبر 2015 في محاولة لجمع وتوحيد القوى الفاعلة القادرة على إحداث تأثير حقيقى في مسار الأزمة، حيث دعت إلى جانب أعضاء الائتلاف شخصيات شاركت في لقاءات القاهرة وموسكو، فضلا عن ممثلين عن الأكراد، هذا فضلا عن ممثلي بعض الفصائل المسلحة في الداخل من غير المصنفين على قوائم الإرهاب، وتم استبعاد الأطراف المحسوبة على النظام وحلفائه وبالأخص روسيا، وهذا عد أهم الجهود التي بذلت لتوحيد أكبر تجمع للمعارضة بشقيها العسكري والسياسي، وقد اتفقت الأطراف المجتمعة في الرياض على وثيقة سياسية للحل من ضمنها شرط رحيل الأسد مع بدء المرحلة الانتقالية. بطبيعة الحال كانت لدى روسيا تحفظات على مخرجات مؤتمر الرياض كونها كانت تعول على تفتت المعارضة وإضعاف موقفها وانقطاع صلتها بالفصائل المسلحة، لكن بفضل جهود الولايات المتحدة تم إصدار قرار مجلس الأمن رقم 2254 ليعكس مستوى التوافقات الروسية الأمريكية حول الأزمة، والتي تمثلت في اعتماد التفسير الروسي لبيان جنيف الأول، وهو الأمر الذى وضع المعارضة السورية وداعميها الإقليميين في موقف لا يحسدون عليه، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار ما تضمنه القرار من سحب لحق المملكة العربية السعودية الحصري في عملية تشكيل وفد المعارضة وإعطاء المبعوث الدولي لسوريا ستيفان دى ميستورا حق المشاركة في تشكيل هذا الوفد، وكذلك عدم تضمين القرار إشارة إلى مستقبل الرئيس السوري، بجانب عدم تحديد طبيعة المرحلة الانتقالية وصلاحيات هيئة الحكم الانتقالي، فضلا عن افتقاد القرار إلى أية قوة إلزامية للتطبيق كونه لا يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كانت أول شروط المعارضة للانخراط في مفاوضات جنيف 3 اعتمادها جهة تفاوض وحيدة في مواجهة ممثلي النظام، وكان الشرط الثاني هو إصرارها على عدم بدأ المفاوضات دون تحقق عدة مطالب في المجال الإنساني، وهي: رفع الحصار عن بعض البلدات والإفراج عن بعض المعتقلين، ووقف الهجمات على المدنيين بواسطة الطيران الروسي وهجمات النظام وذلك باعتبارها بنود ملزمة في قرار مجلس لأمن 2254، فضلا عن اشتراط عدم بدء المفاوضات من الصفر، بل وضع برنامج تنفيذي لترجمة بيان جنيف لعام 2012 وقراري مجلس الأمن رقم 2118 لعام 2013 ورقم 2254 لعام 2015، وهو موقف يهدم التصور الروسي في المرحلة الراهنة. المهم أن المعارضة قبلت الذهاب للمفاوضات وأصرت على موقفها، وفي المقابل رفض ممثلوا النظام أى شروط مسبقة للإنخراط فيما أطلق عليه محادثات، لا سيما أن قوات النظام المدعومة جويا من روسيا تحقق مكاسب عسكرية مؤثرة على أرض المعركة، أمام هذا الانسداد لم يجد دى ميستورا بدا من تعليق المفاوضات حتى 25 فبراير. اختبار جنيف الثالثة إذا رسم حدود الممكن والمتاح خلال تلك المرحلة، ومن ثم كان المتوقع ألا تقود عملية المفاوضات إلى تغييرات جديدة في مسار الأزمة، لا سيما أن المفاوضات بقيت في يد الحلقة الأضعف في الأزمة (المعارضة والنظام) وهما في الأخير مجرد ورقتين في أيدي القوى المنخرطة في الصراع، كما أنهما جد مختلفان ولا يملكان تصور لأى صيغة وسط، وبالتالي فشلت المحادثات في الانطلاق وانتكست كما حدث في مباحثات جنيف الثانية، وهو ما توقعه المبعوث الدولي ستيفان دى ميستورا، وبإيجاز يمكن القول أن ما أفشل جنيف منذ انطلاقها في 2012 وحتى الآن ما أشار إليه المبعوث الدولي السابق لسوريا كوفي عنان في بيان استقالته في 2012 ألا وهو "غياب الإرادة الدولية لإنهاء الصراع". لا شك أن النظام السوري وحلفاء النظام وفي مقدمتهم روسيا وإيران يستشعرون أن الكرة أصبحت في ملعبهم في ضوء تحولات المشهد حول الأزمة، لكن يجب ألا ننسى أنه قبل مفاوضات جنيف الثانية في 2014 كان التدخل العسكرى لحزب الله إلى جوار النظام قد مكنه من تحقيق مكاسب عسكرية مماثلة ومهمة، واتضح فيما بعد أنها لم تكن مؤثرة لدرجة كبيرة في تغيير موازين القوى على الأرض أو تمكين النظام من استعادة نفوذه ودحر معارضيه، وأن الشاهد بعد ذلك أن النظام تعرض لانتكاسات كبيرة أدت لخروج مناطق كبيرة من تحت سيطرته، وذلك لأن فشل جنيف الثانية، وتصعيد إيران لنشاطها ونشاط المليشيات المتحالفة معها على وقع مفاوضاتها الناجحة مع الغرب حول البرنامج النووي، والتغير الذى شهدته السياسة الخارجية السعودية بعد قدوم الملك سلمان إلى سدة الحكم إلى آخر التطورات أدى لبروز تعاون سعودي قطري تركي تجاه التعامل مع الصراع في سوريا انصب على دعم وتوحيد فصائل من المعارضة المسلحة، وهذا أنتج بدوره تغييرا في معادلة الصراع وأدى لخسائر كبيرة للنظام السوري، لم يوقف تتابعها إلا التدخل الروسي العسكري المباشر في أغسطس 2015. لكن من المؤكد إن فشل المفاوضات قد حرم روسيا وحلفائها في الأزمة من التسويق لمسار تفاوض بلا أفق يغطي على عملياتها العسكرية على الأرض وهو الفخ الذى أفلتت منه المعارضة ومن خلفها بالطبع القوى الالإقليمية الداعمة بالإصرار على شروط مهمة لبدء المفاوضات. كما أنه حرم الولايات المتحدة والغرب من غطاء لمدارة مواقفهم المتخاذلة من دعم حلفائهم في الأزمة، فضلا عن أن التعويل على التصعيد العسكري خلال المرحلة المقبلة من جانب النظام السوري وروسيا وتهميش التسوية والمفاوضات لن يسهم سوى في مزيد من الاستثمارات العسكرية المقابلة من جانب القوى الإقليمية والدولية المناوئة لدعم موقف ومكانة فصائل المعارضة المسلحة المحسوبة على تلك الأطراف، وهذا سيجعل المعارضة السياسية تتراجع جزئيا من المشهد خلال المرحلة المقبلة. لكن في الوقت نفسه قد يؤدي التصعيد إلى مزيد من الترابط العضوي بين القوى الإقليمية والمعارضة السياسية وفصائل المعارضة المسلحة في الداخل وذلك تحت تأثير توافقات الرياض في ديسمبر 2015، ناهيك عن الموقف الصلب الذي أبدته هيئة التفاوض في جنيف 3، وهو الأمر الذي قد يعزز مكانة المعارضة بصفة عامة ويغير وجهة نظر البعض تجاهها، حيث كانت أبرز الانتقادات للمعارضة السياسية تتمحور حول حجم حضورها وتأثيرها الفعلي على الأرض ومن ثم أهليتها للتفاوض على قدم المساواة مع النظام في حين لم يبق للروس والنظام في ضوء موقفهم السلبي من التفاوض من الأساس إلا اجتثاث المعارضة المسلحة في الداخل، وهذا بدوره سيتوقف على موقف القوى الإقليمية وبالأخص المملكة العربية السعودية وتركيا من تطور مجريات الصراع على الأرض.

رابط دائم: