ما بعد 30 يونيو ... أبعاد السياسات الاقتصادية "الجديدة"
2014-10-11
حسين سليمان

 بدأت بالتدريج تتضح بعض معالم التوجهات الاقتصادية للإدارة المصرية الجديدة في أعقاب 30 يونيو، والتي اتخذت خطاً واحداً إلى حد بعيد سواء في العام الانتقالي تحت رئاسة المستشار عدلى منصور، أو منذ انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي منتصف العام الحالي 2014. وبالرغم من القصر النسبى للفترة المذكورة وما يترتب على ذلك من عدم اتضاح نتائج السياسات الاقتصادية أو حتى اكتمال اجراءاتها، إلا أن المؤشرات الحالية قد تتيح إمكانية استشراف سيناريوهات ورؤى للاقتصاد المصري في الفترة المقبلة في ظل الإدارة الحالية وتوجهاتها. السياسات المالية وعجز الموازنة وكانت أولى معالم السياسات الاقتصادية للإدارة المصرية الجديدة في المرحلة الراهنة هي الاتجاه التدريجى صوب سياسات مالية أقرب إلى التقشف، وإعلان السعى إلى تقليص عجز الموازنة والدين العام كهدف رئيسي في المرحلة المقبلة. وقد انعكس ذلك إلى حد ما في الموازنة الجديدة وإجراءات تحريك أسعار بعض السلع والخدمات، والتي تهدف إلى تقليص عجز الموازنة إلى 10% فقط من الناتج المحلى في العام المالي 2014\2015 في مقابل 12% في العام السابق، وتخفيض الدين العام ليصل إلى 90% من الناتج المحلى الإجمالي كخطوة أولى في مساعي ستمتد لأعوام مقبلة وتهدف للوصول به إلى حدود الـ 80%-85% بحلول عام 2016\2017. تجسد ذلك جزئياً في الموازنة العامة الجديدة من خلال اقتطاع بعض مخصصات الإنفاق والحد من نمو مخصصات أخرى. فمخصصات الدعم على سبيل المثال تم تثبيتها في مشروع الموازنة الحالي عند 233.8 مليار جنيه مقارنة بـ 233.3 مليار مخصصات فعلية للعام المالي الماضي، وذلك بنمو 0.2% فقط، في حين كان نمو مخصصات الدعم الفعلية المتوقعة للعام الماضي عن نظيرتها المتحققة في العام المالي 2012\2013 تبلغ نحو 18.4%. وبشكل إجمالى فقد تزايدت المصروفات العامة في مشروع الموازنة الحالي بمقدار 7.1% فقط مقارنة بزيادة للمصروفات الفعلية المتوقعة للعام الماضي عن سابقه 2012\2013 بـ 25.3%، وزيادة الأخير عن 2011\2012 بـ 24.9%. كما تم زيادة الايرادات من 506.6 مليار جنيه وفقاً للأرقام الفعلية المتوقعة للعام الماضي إلى 548.6 مليار في الموازنة الحالية، وهى زيادة قد تبدو طبيعية إلى حد ما ولا تشير إلى ارتفاعات كبيرة في الضرائب كمصدر أساسي للإيرادات، لكن الأرقام توضح أن الزيادة في الضرائب في الموازنة الحالية هى الأكبر مقارنة بسابقاتها لكن ذلك لا ينعكس بوضوح في الايرادات نظراً لانخفاض المنح التي دخلت إلى الإيرادات من 117.2 مليار جنيه في العام المالي السابق إلى 23.5 مليار فقط في العام الحالي، فنمو حصيلة الضرائب في الموازنة الحالية عن العام الماضي يبلغ 26.7% مقارنة بـ 14.5% في العام الماضي و21% في العام السابق له. يعنى هذا باختصار أن الموازنة الحالية تشهد الحد من نمو الإنفاق من خلال استهداف الدعم بالأساس، خاصة دعم السلع التموينية الذي تم خفضه من 34.6 مليار إلى 31.5 مليار، ودعم المواد البترولية الذي تم خفضه من 130.4 مليار جنيه إلى 100.2 مليار في العام الحالي ، مع السعي لزيادة الإيرادات من جانب آخر من خلال الضرائب. وبالرغم من حتمية تقليص عجز الموازنة والدين العام لكسر حلقة التغذية الذاتية التي تربطهما، حيث تمثل فوائد الدين 25% تقريباً من الموازنة العامة بما يسهم في زيادة العجز والذي يتم سداده بالاقتراض، بما يحمل الموازنات التالية عبء فوائد ومدفوعات إضافية يفاقم من العجز بها ويدفع نحو المزيد من الاقتراض لسداده وهكذا، بالرغم من ذلك، فإن آلية وتوقيت اتباع سياسات تقشفية (أو تميل تدريجياً نحو التقشف لمزيد من الدقة)، يمثل عنصراً حاسماً في آثارها الكلية على الاقتصاد المصرى، بالإضافة إلى مدى فاعليتها في تحقيق هدفها الرئيسي بتقليص عجز الموازنة والدين العام. فبجوار الآثار الاجتماعية الفورية لتحريك أسعار بعض السلع والخدمات وتقليص الدعم عن أخرى بما يزيد من الأعباء المعيشية على المواطنين خاصة الفئات الأكثر فقراً، فإن الآثار الكلية لسياسات التقشف تحمل أبعاداً أكثر عمقاً وخطورة. فمن خلال تخفيض الانفاق العام (أو البدء بتحجيم نموه) وزيادة الايرادات العامة عبر توسع في حصيلة الضرائب هو الأكبر منذ أعوام، قد يبدأ نمو الاقتصاد في التباطؤ كنتيجة لتراجع الانفاق الحكومى بجوار انخفاض الاستهلاك الشخصى بعد زيادة الضرائب وارتفاع أسعار السلع. ومع تباطؤ نمو الاقتصاد كنتيجة لسياسات التقشف، ستتزايد معدلات البطالة وبالتالى معدلات الفقر بما يخلق الحاجة لزيادة التحويلات الاجتماعية مرة أخرى لمواجهة الضغوط والاحتياجات الاجتماعية، وفي الوقت ذاته فإن تراجع النمو سيؤدى لتراجع الإيرادات العامة نظراً لانخفاض حصيلة الضرائب مع تباطؤ نمو الأنشطة الاقتصادية وضعف الاستهلاك. وهو ما يعنى ببساطة زيادة الإنفاق وتقليص الإيرادات وبالتالى زيادة العجز والديون مرة أخرى، أي أن محاولة تخفيض عجز الموازنة قد تُؤدى ليس فقط إلى تباطؤ النمو لكن إلى ارتفاع العجز ذاته مرة أخرى. وربما كان الوضع الراهن في منطقة اليورو خير مثال على آثار إجراءات التقشف على الاقتصاد في فترات الأداء المتراجع (مع الفارق في حدة التقشف بين مصر وبلدان اليورو، والنمو الاقتصادي فيهما). فالبيانات الاحصائية الرسمية عن أداء اقتصادات منطقة اليورو في الربع الثاني من العام الحالي 2014 في النشرة الصادرة في شهر أغسطس الماضي ، أشارت إلى تحقيق اقتصاد منطقة اليورو في الربع الثاني المنتهى في شهر يونيو الماضي تراجعاً عن نمو الربع السابق له، حيث بلغ النمو عن الربع الأول 0% مقارنة بنمو الربع الأول عن ذلك السابق له (الربع الأخير من عام 2013) بنسبة 0.2% فقط. ويأتى ذلك بالأساس نظراً للأداء المتواضع للاقتصادات الثلاثة الكبرى في اليورو، المانيا، فرنسا، وايطاليا في الربع الثاني، حيث كان نمو الاقتصاد الالمانى - وفقاً للنشرة ذاتها - عن الربع الأول سلبياً بنسبة 0.2% أى أن الاقتصاد الألماني قد انكمش في الربع الثاني عن الأول، وهو الوضع ذاته بالنسبة للاقتصاد الإيطالي الذي انكمش بالنسبة ذاتها في الربع الثاني، وهو ما يأتى بعد انكماش الربع الأول عن سابقه بـ 0.1%، وفي فرنسا كان نمو الناتج في الربع الثاني عن الأول 0%، وهى النسبة ذاتها لنمو الربع الأول عن الربع الأخير من عام 2013. ويرجع السبب الرئيسى وراء تراجع أداء منطقة اليورو الاقتصادي إلى سياسات التقشف المُتبعة في المنطقة في الفترة الأخيرة. ففي أعقاب التعافي المحدود بعد أزمة الديون السيادية، خاصة في 2013، كان انطباع منطقة اليورو تجاه الأزمة هو كونها في طريقها للتراجع، وأن النمو سيبدأ أخيراً في التزايد المستمر حتى الخروج منها تماماً، لذا بدأت الحكومات في التركيز أكثر على تخفيض عجز الموازنة والديون للوصول للمعدلات المنصوص عليها في معاهدات اليورو، وذلك من خلال التوسع في إجراءات التقشف. لكن ما أنتجته تلك السياسات في نهاية المطاف كان تباطؤ النمو والفشل في تخفيض العجز في حد ذاته، ففي فرنسا، وفي ظل الإعلان عن نتائج الربع الثانى، خفض وزير المالية التوقعات بنمو اقتصاد بلده في 2014 من 1% إلى 0.5% فقط، كما خفض التوقعات بخصوص عام 2015 أيضاً من 1.7% إلى 1%، مرجعاً التباطؤ إلى سياسات التقشف، لكن الجانب الهام هنا هو أن فرنسا التي كان من المفترض أن تُقلص العجز إلى 3% مع نهاية عام 2014، والتي تفاوضت حتى أوصلت الهدف إلى 3.8%، قد يتجاوز العجز فيها مع نهاية العام وفقاً لوزير ماليتها حاجز الـ 4%، والذي اعتبر ذلك الفشل "نتيجة مباشرة" للتباطؤ في النمو، أي أن مساعى تخفيض العجز كانت سبباً في تباطؤ النشاط الاقتصادي الذي كان بدوره سبباً في زيادة العجز مرة أخرى، وهو ما دفع بالوزير الفرنسى إلى التصريح بتراجع بلاده عن الأهداف المتعلقة بالعجز حالياً والتركيز في الفترة القادمة على تحفيز النمو مرة أخرى من خلال التوسع في الإنفاق. وبصورة عامة، فإن جدلية التقشف، العجز، والنمو تقع في قلب السياسات الاقتصادية وأهدافها. وما يمكن أن نعيه من الوضع المتأزم في منطقة اليورو وفشل سياسات التقشف في تحقيق أهدافها في بلدانها هو المنطق الذي يمثل أحد أركان الأفكار الكينيزية الاقتصادية، والذي يرجح أن فترات الأزمات والتباطؤ هى التوقيت الأمثل للتوسع في الإنفاق والعجز، بينما يجب تأجيل إجراءات التقشف إلى فترات الانتعاش الاقتصادي، وليس العكس. الاستثمار والتدفق الاجنبى ولتجنب الآثار السلبية لتخفيض عجز الموازنة على النمو الاقتصادي، كان ينبغي أن يصاحب مساعي التقشف توسع في الاستثمارات لإنعاش الاقتصاد المحلي. لذا كان مُتوقعاً أن تشهد الموازنة الجديدة إحالة جزء مما تم توفيره من عجز الموازنة إلى بند الاستثمارات الحكومية لتقديم دفعة للإقتصاد المحلى، لكن مخصصات الاستثمار جاءت مخيبة للآمال، حيث بلغت في الإجمالي 67.2 مليار جنيهاً. تمثل بذلك 2.8% من الناتج المحلى الإجمالى، وهو ما يُعد إنخفاضاً بالمقارنة بـ 3.1% في الموازنتين السابقتين سواء في الفترة الانتقالية أو في موازنة الرئيس المخلوع د. محمد مرسى. وكذلك فإن الاستثمارات الحكومية قد انخفضت كنسبة إلى إجمالي الإنفاق في مشروع الموازنة الجديد إلى 8.5% فقط، في حين بلغت 9.2% في موازنة عام 2013\2014، و10.4% في عام 2012\2013، وذلك في توقيت يعد الاقتصاد المحلى في أمس الحاجة إلى زيادة الاستثمارات لتجنب آثار التغيرات في الموازنة الجديدة. ويضاف إلى الحجم المتواضع للاستثمارات العامة أن قنوات إنفاقها قد لا تكون الخيار الأمثل في الظرف الراهن، فالاستثمارات تركزت في الموازنة الجديدة في البنية التحتية والخدمات وأهملت المشروعات الإنتاجية بصورة واضحة، حيث خُصص للاستثمارات في الري 2.7 مليار جنيهاً، وتطوير الطرق والكبارى 2.7 مليار أخرى، ومياه الشرب والصرف الصحى 7.9 مليار، والبرنامج القومى للإسكان الاجتماعى 9.5 مليار، ولبنود أخرى مثل الاستثمار في دواوين عموم المحافظات 3.6 مليار جنيهاً، خطة تنشيط العاملين 5 مليارات، و"استثمارات أخرى" 8.6 مليار جنيهاً. وبذلك تشكل تلك البنود مجتمعة 40 مليار جنيهاً، ويتوزع القسم المتبقي على الاستثمارات في الصحة بـ 3.6 مليار، والتعليم بـ 10.2 مليار جنيهاً وبعض البنود الصغيرة الأخرى . واللجوء للإنفاق على البنية التحتية والخدمات هو إجراء تقليدي للتحفيز لاستغلال اعتمادها الكثيف على العمالة لتحقيق مستويات تشغيل مرتفعة بالاضافة لاستغلال انخفاض تكلفة مشروعات البنية التحتية في تلك الفترات لتطويرها، لكن تكمن المشكلة في هذا النوع من المشروعات في كونها غير مربحة أو منتجة على المدى القصير، وبالتالى يُعد الانفاق الاستثماري فيها زيادة في عجز الموازنة على المدى القصير، وفي حين لا يمثل ذلك مشكلة ويعد أمراً مبرراً في فترات التباطؤ الاقتصادي وفقاً للمنهج الكينزى كما أشرنا، إلا أنه يعد تناقضاً في أهداف الحكومة المصرية التي تضع تقليص العجز على رأس أولوياتها، فمن غير المنطقى أن تسعى لتجنب انكماش الاقتصاد بسبب جهود تقليص العجز من خلال التوسع في العجز ذاته. وكان أجدر بها بدلاً من ذلك (تماشياً مع أهدافها) أن تتوسع في حجم استثماراتها وأن تتركز تلك الاستثمارات في مشروعات انتاجية تحقق تشغيلاً وربحاً يظهر أثره سريعاً على المدى القصير والمتوسط كي تخدم هدفي الإنعاش الاقتصادي وزيادة الإيرادات العامة لتقليص العجز في الوقت ذاته. لكن تواضع الاستثمارات الحكومية ربما يبرره النية الواضحة للإدارة الجديدة في أعقاب 30 يونيو بالاعتماد على الاستثمارات الأجنبية – خاصة الخليجية – بشكل رئيسى لتحقيق النمو الاقتصادي في المرحلة المقبلة، وهو ما ينعكس في التصريحات المتعددة حول توقع عشرات البلايين من الدولارات في السنوات القليلة القادمة في صورة استثمارات مباشرة يُنتظر منها أن تضطلع بدور محرك الاقتصاد المحلى مستقبلاً. لكن الاعتماد على التدفقات الأجنبية يحمل عدداً من المخاطر التي قد تجعل من الاستناد إليه في مخطط تنموي أمراً غير مضمون العواقب إلى حد بعيد، وربما كان الجانب الأكثر وضوحاً هو سرعة تقلب تدفقات الاستثمار الأجنبى وتأثرها الشديد بأقل التغيرات في اقتصاد البلد المصدر لها والآخر المتلقى، إلى جوار أوضاع الاقتصاد العالمى برمته، وهو ما يثير الشكوك بالتالي في امكانية تحقق كم الاستثمار الأجنبي المتوقع في ظل الاضطرابات السياسية الحادة والعنف المسلح في مصر، إلى جانب الأداء المتواضع للاقتصاد العالمى خاصة مع استمرار أزمة منطقة اليورو وعدم وضوح مخرج قريب لها في الأفق. لكن الجانب الأكثر خطورة للاعتماد على الاستثمار الأجنبى هو ما يفترض بالفعل تحقق التدفقات الضخمة التي يدور الحديث عنها الآن، ويتعلق بالتالى بأثرها على هيكل الاقتصاد المحلى على المدى الطويل بالأساس. وهو الجانب المرتبط باتجاهات وتفضيلات التدفقات الأجنبية السابقة إلى مصر والبلدان المصدرة لها، بما يقدم مؤشراً لتوقع قنوات تركز التدفقات المستقبلية – حال تحققها – وبالتالى تأثيراتها الكلية على الاقتصاد. ففيما يتعلق بهيكل الاستثمارات الأجنبية في مصر، تُعد المملكة المتحدة المصدر الأول للاستثمارات الأجنبية في مصر، ثم تأتى الولايات المتحدة بعد ذلك في المركز الثاني، تليها الامارات، ثم فرنسا وألمانيا والسعودية، وهو الترتيب الثابت منذ سنوات بالرغم من تذبذب حجم الاستثمارات والتي بلغت في عام 2008\2009 نحو 8.1 مليار دولار أمريكي، ووصلت في العام المالي 2012\2013 إلى 3 مليارات دولار فقط . وقد صاحب ثبات ترتيب البلدان المُصدرة للاستثمارات الأجنبية في مصر، ثبات هيكلها بصورة كبيرة بما يعكس تفضيلات ومجالات محددة للتدفقات من كل بلد. فالاستثمارات في قطاع البترول تستمر في السيطرة على النصيب الأكبر من إجمالى التدفقات الأجنبية، حيث حققت في عام 2008\2009 66.7% من إجمالى الاستثمار الأجنبى، وتراوحت حتى عام 2012\2013 بين 52.9% إلى 73.3% من عام لآخر، وهي التدفقات الصادرة بالأساس من المملكة المتحدة عبر استثمارات شركة "BP" في مصر. ويأتي القطاع البنكي في عام 2012\2013 كثاني أكبر القطاعات جذباً للاستثمارات الأجنبية (الخليجية بالأساس)، وقد تراوح نصيبه عبر الفترة من 2008\2009 وحتى 2012\2013 بين 1.2% وحتى 7.9%، وهو يتبادل موقعه مع قطاعى التصنيع والاتصالات، ويتبعهما قطاع الإنشاء والعقارات الذي يجتذب التدفقات الخليجية أيضاً في أغلبه. ويقدم إدراك تفضيلات رأس المال المتدفق في السابق من البلدان المختلفة مؤشراً هاماً حول أوجه الاستثمارات المقبلة، فالاستثمارات من المملكة المتحدة على سبيل المثال من المُتوقع أن تتزايد في الأعوام القليلة المقبلة، وأن يكون ذلك أيضاً في مجال البترول وعبر شركة "BP" ذاتها والتي تتحدث عن خطط لاستثمار ما يقرب من 10 مليارات دولار في مصر قريباً، وكذلك فإن الاستثمارات الخليجية المُتوقع أن تبلغ في الأعوام المقبلة عشرات البلايين من الدولارات ستتركز أيضاً في القطاعات المفضلة لدى المستثمرين الخليجيين، والتي يأتي على رأسها الإنشاء والعقارات، القطاع البنكى، الاتصالات، والسلاسل والمراكز التجارية، وهو ما بدأت بوادره في الظهور مع الإعلان عن استثمارات اماراتية تصل لبضعة عشرات البلايين من الدولارات لإنشاء مشروعات عقارية عملاقة بين عامى 2014 و2017، بجوار البدء الفعلي في إنشاء عدد من المراكز التجارية الضخمة في عدد من المناطق بمصر. يعنى هذا باختصار أن الاستثمارات الأجنبية المُتوقعة ستتركز في الأساس في قطاعات بعينها تعكس توجهات أصحاب رأس المال الأجنبي، وهي الصناعات الاستخراجية من خلال الاستثمارات الغربية في حقول النفط والموارد الهيدروكربونية، بجوار قطاع الخدمات عبر الاستثمارات الخليجية في الخدمات المالية، قطاع الاتصالات، تجارة التجزئة، وأخيراً في مشروع محور تنمية قناة السويس. والنقطة الهامة هنا هي في كون القطاعات الانتاجية بالغة الحيوية كالتصنيع والزراعة لا تشكل مقصداً للاستثمارات الأجنبية باختلاف مصادرها، وهو ما يعنى حال الاعتماد عليها بصورة أساسية في الفترة المقبلة ألا تنمو تلك القطاعات بموازاة الأخرى محل الاستثمار الأجنبى بما يخلقه ذلك من تشوهات في درجة تطور قطاعات الهيكل الاقتصادي المحلى وأوضاع العاملين بها، وذلك إلى جوار إغفال وجود طاقة استيعابية للقطاعات الجاذبة للاستثمار الأجنبى، وهو ما قد يخلق بها فقاعات حال زيادة التدفقات عن قدرتها على تشغيلها بكفاءة. كما يضاف إلى حقيقة كون قطاعى التصنيع والزراعة لن يستفيدا على الأرجح من تدفقات الاستثمار الأجنبى إلى مصر احتمالية أن يتضررا في واقع الأمر منه، فإذا تحققت التدفقات الهائلة للنقد الأجنبى سواء من خلال الاستثمارات الأجنبية أو من عائدات محور قناة السويس، والتي قد تتخطى في مجملها 100 مليار دولار في سنوات قليلة وفقاً لتصريحات المسئولين - نظراً لغياب دراسات جدوى واضحة ومعلنة – فإن النتيجة ستكون الارتفاع الحتمى لقيمة العملة المصرية في مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سينتج عنه ارتفاع أسعار الصادرات المصرية في الأسواق الخارجية في مقابل انخفاض أسعار الواردات من السلع الأجنبية في السوق الداخلي بالمقارنة مع السلع المحلية، أو بكلمات أخرى، سيؤدى ذلك لتدهور تنافسية السلع المصرية سواء الصناعية أو الزراعية في مواجهة نظيراتها الأقل سعراً في الداخل والخارج، وهو ما سيخفض من الطلب على انتاج قطاعى التصنيع والزراعة ويؤدى بالتالى إلى انكماشهما بالتدريج وزيادة وزن قطاع الخدمات بالأساس في الاقتصاد المصري، وبالتالي وفي حال تراجع إيرادات قطاع الخدمات في المستقبل – بسبب صدمات كتباطؤ الاقتصاد العالمى على سبيل المثال – فسيتعرض الاقتصاد لأزمة قاسية نتيجة لتضرر القطاع الوحيد الفعال به، وسينتج عن ذلك تراجع العملة المحلية مرة أخرى وزيادة أسعار الواردات، لكن مع غياب بديل محلى هذه المرة نظراً لعجز قطاعى التصنيع والزراعة عن استعادة نشاطهما وتقليص فجوة التنافسية في فترة ملائمة. خاتمة بمقدرونا أن نضع الآن أيدينا على بعض ملامح السياسات الاقتصادية للإدارة المصرية الجديدة في مرحلة ما بعد 30 يونيو، وهي ما يمكن تلخيصها في سعى الحكومة إلى تقليص إنفاقها وزيادة الإيرادات للحد من عجز الموازنة ونمو الدين العام، بالإضافة إلى تحجيم دورها كمستثمر ومحفز للاقتصاد، وهو الدور المتراجع بالفعل منذ سنوات عديدة. لكن مع مخاطر تأثير ذلك على نمو الاقتصاد المحلى فإن الدولة لا يبدو أنها تنوى اتباع اجراءات واضحة حيال ذلك، بل على الأرجح ستسعى إلى ترك الاستثمارات الأجنبية تتولى هذا الدور وتدفع بالاقتصاد المحلى صوب النمو بالرغم من مخاطر عدم تدفقها بالكم المأمول، بالإضافة إلى التغيرات والتشوهات البنيوية التي قد تنتجها – حال تحقيق التدفقات الهائلة المنتظرة - في هيكل الاقتصاد المصري على المدى الطويل إن لم تتدخل الدولة بوضوح لإرشادها وتعبئتها إلى القطاعات الأكثر احتياجاً إلى رأس المال من منظور الاقتصاد المحلى والأهداف الاجتماعية والتنموية. باختصار، فإن المؤشرات والاجراءات التي تكشفت إلى الآن، بالرغم من قصر المساحة الزمنية من 30 يونيو سواء في فترة المستشار عدلي منصور أو الرئيس السيسى، تشير إلى جنوح التوجهات الاقتصادية للإدارة المصرية الجديدة نحو سياسات الليبرالية الجديدة، أو لنكون أكثر دقة، نحو المزيد من سياسات الليبرالية الجديدة، حيث تسعى الدولة للحد من الدعم والتحويلات الاجتماعية تدريجياً وتحرير الأسعار وتقليص دورها كمستثمر ولاعب اقتصادى – باستثناء التوسع الاقتصادي للقوات المسلحة الذي يخرج عن الإطار المؤسسى التقليدى لدور الدولة – بالتزامن مع الرغبة في الاعتماد على الاستثمار الأجنبى ليقود النمو والتنمية. ومع إيضاح أبعاد – ومخاطر-هذه السياسات الاقتصادية، فإننا بحاجة في واقع الأمر إلى العودة مرة أخرى لمراجعة وطرح التساؤلات الأولية حول طبيعة النظام الاقتصادي المصري وحدود دور الدولة ورأس المال المحلى والأجنبى فيه، وبحاجة إلى تأسيس مخطط تنموى شامل طويل المدى يحل محل البرامج المتتابعة ومقاربات التجربة والخطأ، ويضع بالتالى الأطر الواضحة المرشدة للسياسات الاقتصادية المصرية لإطلاق تجربة تنموية بعيدة المدى.


رابط دائم: