المسلحون في سوريا: من قتال الأسد إلي القتال البيني
2014-7-23
رابحة سيف علام
23/07/2014 انطلقت الثورة السورية كثورة شعبية سلمية في مارس 2011 على وقع مظاهرات الربيع العربي، لكن إصرار نظام الأسد على مجابهة التظاهرات السلمية بالعنف المفرط أدى سريعا إلي تحولها من السلمية الى العمل المسلح. عسكرة الثورة بدأت في صيف 2011 عندما شرع جنود وضباط الجيش العربي السوري في الانشقاق رفضا لسياسة النظام العنيفة تجاه المتظاهرين. فهروب المنشقين بسلاحهم ثم استخدامه لاحقا لرد هجوم القوات النظامية على الأحياء والقرى الثائرة أدى سريعا الي الاشتباك بين المنشقين والجيش النظامي. من السلمية إلى العسكرة وفي الوقت الذي كان خيار العسكرة غير محسوم وسط دعوات للحفاظ على سلمية الثورة، كانت القوات النظامية تستخدم المدفعية الثقيلة لدك المناطق الثائرة خاصة بدرعا وحمص القديمة التي احتضنت المنشقين ووفرت لهم الحاضنة الشعبية. ومع تزايد سياسة العنف من جانب النظام وارتكاب المجازر المروعة وانتهاك الأعراض الممنهج، صار خيار العسكرة محسوما. عام 2012 كان عام العسكرة بامتياز، إذ بدأ النظام في الاستخدام المتزايد لكافة الأسلحة بما فيها الثقيلة والطيران الحربي في عقاب جماعي لكافة المناطق التي شهدت مظاهرات مناهضة له، بينما أدى تلاحق عمليات الانشقاق العسكري عن الجيش النظامي الي تكوين الجيش السوري الحر. تكوّن هذا الأخير من مجموعات هجينة من جنود وضباط منشقين، ومن المتطوعين المدنيين، الذي هم بطبيعة الحال إما كانوا جنودا ً سابقين خدموا بالجيش النظامي أو جنودا ً محتملين كانوا سيخدمون بالجيش طبقا لنظام الخدمة العسكرية الإلزامية التي تتبعه سوريا. وبالتالي فمهارات حمل السلاح لم تكن تنقص هذه المجموعات. لكن ما كان ينقصهم بالتأكيد هو السلاح، فالسلاح الخفيف الذي هربوا به من مناطق خدمتهم لم يكن كافيا، ونفاذ الذخيرة أدى بهم الي الانسحاب المتتالي من القرى والأحياء التي تحصنوا بها من قبل. مما أدى إلى دخول القوات النظامية اليها وعقاب الأهالي فيها على إيواء المنشقين. هذه الأزمة الجوهرية أضعفت من قدرات الجيش الحر منذ نشأته، بالإضافة الي هيكليته غير المنضبطة القائمة على مجموعات مسلحة تعتمد التنسيق الأفقي فيما بينها وليس التراتبية الهرمية التي تتبعها الجيوش عادة. وقد أضعف من هذه الهيكلية أيضا أن الذخيرة والسلاح إن توافروا لم يكن توزيعهم مركزيا من أعلى سلم القيادة، بل كان يتم الحصول عليها بشكل لامركزي من خلال عمليات نوعية ضد مخازن السلاح التابعة للنظام. مما أدى الى صعود أسهم بعض الكتائب المسلحة على حساب قيادة الجيش الحر التي بدأت تتكون بداية ًبالمزاوجة بين الأسبق الى الانشقاق بين الضباط وبين الأرفع رتبة ثم لاحقا أصبحت بالانتخاب. وفي ظل تخبط المعارضة السورية، كالمجلس الوطني ومن بعده الائتلاف، في محاولاتها لاستقدام التدخل العسكري من الخارج إما في شكل ضربات جوية تقصي الأسد على الطريقة الليبية أو في شكل منطقة حظر طيران تبسط فيها نفوذها، كانت المعارضة المسلحة تشق طريقها باقتدار. فقد استطاعت المعارضة المسلحة أن تحوز الدعم المالي من التبرعات الدولية والأهلية على وقع تمادي نظام الأسد في ارتكاب المجازر بحق السوريين. من جهة ساهمت تركيا وبعض الدول العربية في احتضان المعارضة السياسية، واستقبال الضباط المنشقين من الجيش النظامي، كما قدمت الدعم الفني للهياكل العسكرية الجديدة التي شكلها الجيش الحر. ومن جهة أخرى تشكلت مجموعة من الكتائب المسلحة من خارج الجيش الحر التي تعاونت معه دون أن تنضوي تحت إمرته والتي فضلت أن تصطبغ بصبغة إسلامية أمنت لها التمويل من جهات أهلية ودينية عربية وخليجية. قوام هذه الكتائب وقيادييها كان سوريا 100 % ولكنها لم تكن بالضرورة مكونة من عسكريين سابقين كما كان الحال مع الجيش الحر، ولذا لم تكن حريصة على الالتزام بإمرة عسكريي الجيش الحر ونشأت بينها وبينه علاقة متوترة في بعض الأحيان. التنافس بين الجيش الحر وهيئة أركانه من جهة والكتائب المسلحة العاملة على الأرض والمجالس العسكرية المحلية من جهة أخرى أدى بشكل متكرر الى تعقيد العلاقة بين الجانبين وبالتالي أوقع العمل العسكري في مأزق عدم التنسيق، فضلا عن مأزق ضعف الإمداد بالسلاح والذخيرة. القاعدة تطل من سوريا تشكلت في مطلع 2012 جبهة النصرة كجناح سوري لتنظيم القاعدة، الذي استمد جنوده وسلاحه وذخيرته بشكل أساسي من تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق آنذاك. لم يكن الحراك السوري السلمي مرحباً في البداية بعمل جبهة النصرة والأرضية الفكرية المتشددة التي ترتكز عليها، ولكن مع زيادة بطش النظام وعجز كتائب الجيش الحر عن حماية الأهالي لنقص الذخيرة، صعد نجم جبهة النصرة نظرا للعمليات القوية التي استهدفت بها النظام طوال عام 2012. تعاونت جبهة النصرة عسكريا مع الكتائب الإسلامية المستقلة دون أن يتم الاتفاق على مرحلة مابعد الأسد، إذ كان الهدف الأساسي هو إزاحة الأسد فحسب. استفادت جبهة النصرة من تلقي السلاح والعتاد من نظيرتها بالعراق، لذا كانت دائما متفوقة عسكريا على الكتائب الإسلامية المعتدلة و كتائب الجيش الحر بل كانت تمدهم بالسلاح والذخيرة أحيانا عند الاتفاق على تنفيذ عمليات مشتركة. كانت النصرة بقيادة سورية "أبو محمد الجولاني" فيما كان جنودها مزيج من غير السوريين الذي تقاطروا للقتال في سوريا أو من السوريين الذي قاتلوا من قبل بالعراق أو السوريين الخارجين للتو من سجون الأسد بموجب عفو رئاسي صدر في صيف 2012. الأمر الذي يعزز من رواية أن الأسد قصد إطلاق سراح بعض الإسلاميين المتشددين لكي يختصم من الثورة السورية صبغتها السلمية والمدنية ويؤكد روايته بأنها محض مجموعات مسلحة وإرهابية. شكلت جبهة النصرة تحديا كبيرا للثورة السورية، فهي من جهة تقاتل بشراسة وتملك السلاح والذخيرة والخبرة القتالية والطاقة الانتحارية لجنودها، وبالتالي تؤدي الغرض منها في استهداف النظام وحماية الأهالي. ولكنها من جهة ثانية تشق الصفوف لكونها طائفية بامتياز وتطرح خطابا إقصائيا يخرج الثورة من إطارها الجامع لكل السوريين الي إطار الفهم المتشدد للشريعة على طريقة القاعدة. كما أنها شقت الاجماع الغربي على دعم القضية السورية، إذ تخوف الغرب من تقديم أي دعم مسلح للمعارضة السورية قد يصل في ظل الفوضى القائمة على الأرض إلى جبهة النصرة المدرجة عالميا على قوائم المنظمات الإرهابية. الأمر الذي دعا قوى المعارضة السياسية وهي التي تتعامل بشكل يومي مع الدوائر الغربية الي التحذير من مخاطر جبهة النصرة على مسار الثورة. بدوره كان للجيش الحر وهيئة أركانه المركزية موقف مشابه، غير أن الكتائب الإسلامية الناشطة على الأرض لم تكن مدركة لهذه المخاطر. فهي من جهة تشترك مع النصرة في الخلفية الإسلامية رغم الخلاف حول التفاصيل، وومن جهة ثانية تنسق معها بنجاح على المستوى العسكري، الأمر الذي أدى إلى السيطرة على مناطق كثيرة بالشمال السوري. ورغم ذلك فالكتائب الإسلامية تتمسك بالحل في الإطار السوري، بعضها قد ينزع للتطرف ولكن معظمها يتسمك بكونه وسيلة لإزاحة الأسد على أن يحدد الشعب السوري مصير دولته فيما بعد. ومع تمكن هذه الكتائب تدريجيا في مناطقها أصبحت تدير المناطق التي حررتها وتقدم المساعدات الانسانية للأهالي بانتظام والخدمات التعليمية الدينية والصحية و تفصل في المنازعات بواسطة ما تسميه القضاء الشرعي الذي يدير سجون ومراكز اعتقال للمتهمين انتظارا المحاكمة. ورغم ذلك فهذه الكتائب لم توصف بالتشدد كحال جبهة النصرة ولكنها كانت أقرب للتدين التقليدي الذي يألفه المجتمع السوري في إطار تعددي. معضلة العلاقة مع جبهة النصرة كانت سببا جديا للخلاف بين المعارضة السياسية والجيش الحر من جهة، والكتائب الإسلامية من جهة أخرى. ولكن الأمر حـُل سريعا بنشوء الخلاف الشهير بين النصرة بقيادة الجولاني والدولة الاسلامية بالعراق بقيادة أبو بكر البغدادي، على إثر إعلان الأخير في ربيع 2013 عن قيام الدولة الإسلامية بالعراق والشام "داعش" تحت إمرته وإلغاء عمل جبهة النصرة كفرع للقاعدة في سوريا. هذا الإعلان الذي رفضه الجولاني ومن ورائه أيمن الظواهري وعدد كبير من منظري السلفية الجهادية حول العالم، اعتبر نقلة نوعية في القتال في سوريا لكونه كشف بما لا يدع مجالا للشك عن مآل النصرة. حيث كشف التنافس المحموم بين النصرة وداعش عن طبيعة الدور الذي تلعبه هذه الحركات في إذكاء الصراع السوري وإبعاده عن هدفه الأساسي في الإطاحة بالأسد. فقد عمدت داعش منذ بداية تمددها الى التوسع في شرق سوريا على الحدود العراقية وفي محيط المناطق الغنية بالنفط. حيث كان هدفها هو الاستفادة من المناطق السورية تحت سيطرتها لدعم موقفها في العراق. فيما كانت الكتائب الأخرى تحاول الانتشار في المناطق التي شهدت تظاهرات وأصبحت واقعة تحت غضب النظام ومهددة بالاقتحامات والحملات الأمنية. وبالتالي ضمنت داعش لنفسها مصادر تمويل مستقرة بالسيطرة على مناطق استراتيجية فيما كانت الكتائب الأخرى أكثر التصاقا بالناس وبالتالي كان رصيدها الاستراتيجي هو الاحتضان الشعبي. هذا الأمر جعل من داعش سلطة فوق الرقاب فباشرت في فرض قواعد صارمة ذات صبغة متشددة على مناطق نفوذها في الرقة ودير الزور وقامت بتصفية المعارضين لها والنشطاء الإعلاميين الذين يوثقون انتهاكاتها. في حين أن الكتائب الإسلامية حافظت على علاقات جيدة إجمالا مع الأهالي في مناطق نفوذها وحاولت تصويب الأخطاء أو معاقبة مسلحيها الذين يتعدون على الأهالي دون وجه حق. الى جانب ذلك واصلت الكتائب الإسلامية بالتعاون في بعض الأحيان مع جبهة النصرة في فتح جبهات جديدة مع نظام الأسد بالتوازي مع خسران مناطق كانت قد سيطرت عليها فيما مضى. حيث كان نظام الأسد قد تلقي ضربة قوية بتفجير اجتماع خلية الأزمة بدمشق في صيف 2012 الذي اغتيل وأصيب فيه عدد من كبار قادته العسكريين. مما أدى الي تدني قدرته على مواجهة ضربات الكتائب المعارضة وتنبأ الكثيرون خلال هذه الفترة بانهياره الوشيك. ولذا شهد مطلع عام 2013 زيادة الدعم العسكري المباشر الذي تقدمه إيران من جهة، وحزب الله اللبناني من جهة ثانية ولواء أبو الفضل العباس المكون من الشيعة العراقيين من جهة ثالثة. فانعكس ذلك على قدرة النظام على تعزيز نفوذه وإعادة اقتحام بعض المناطق التي سبق وخسرها في 2012. فاستطاع النظام معاودة السيطرة على مناطق استراتيجية في حمص بمحاذاة لبنان، فضلا عن إعادة السيطرة على طرق الإمداد بين حلب ودمشق مما عزز من موقف قواته في حلب. وقد ساعد على ذلك تصاعد التنافس المحموم بين الكتائب المعارضة وجبهة النصرة من جهة وداعش من جهة ثانية. إذ عمدت الأخيرة على التمدد على حساب مناطق نفوذ الكتائب الإسلامية والجيش الحر بدلا من قتال قوات الأسد في المناطق الذي يسيطر عليها. بل الأكثر من ذلك أن داعش قد تعاونت مع عناصر نظام الأسد لبيع وتصريف الوقود في المناطق النفطية التي تسيطر عليها. وبالمثل نفذت اغتيالات نوعية بحق النشطاء الإعلاميين والقادة العسكريين في بعض الكتائب الإسلامية والجيش الحر والمجالس العسكرية المحلية ولعل أخر هذه الاغتيالات الهامة كان اغتيال أبو خالد السوري القيادي بأحرار الشام وأبو المقداد المعروف بقناص الدبابات. وهو ما أثار غضب الكتائب الإسلامية فحاولت مرارا خلق وساطات مع داعش لحثها على التوقف عن استهداف قادتها. لكن مع استمرار استهزاء داعش بأحكام الوساطات ومضيها في استهداف الكتائب الإسلامية وجبهة النصرة، بدأت هذه الأخيرة في استهداف عناصر داعش بالمثل. تحالفات عسكرية جديدة ضد الأسد وداعش معا في نهاية عام 2013 كانت الكتائب الإسلامية تدرس خلق تحالفات عسكرية جديدة لخلق تنسيق أعلى في قتال قوات الأسد وللتمايز عسكريا عن عناصر داعش، فضلا عن التمهيد لسحب الثقة من الائتلاف السوري كجهة سياسية ومحاولة تكوين ظهير سياسي يمثل الشعب السوري على نحو أفضل من وجهة نظرها. باكورة هذه التحالفات الجديدة كان الإعلان عن تشكيل جيش الإسلام في سبتمبر 2013 من عشرات الفصائل المقاتلة في محيط دمشق وريفها، ثم دخوله ضمن فصائل أخرى في تحالف أكبر تحت اسم الجبهة الإسلامية في نوفمبر 2013 ثم توالت الاندماجات فيما بعد. تزامن ذلك مع اغتيال أبرز القادة العسكريين بحلب وهو القائد العسكري للواء التوحيد عبد القادر صالح، الذي كان يعارض بشدة فتح جبهة قتال مع داعش لما لذلك من أثار سلبية على الصراع الرئيسي مع جيش الأسد. ولذا بمقتله انهارت كافة جهود الوساطة بين داعش من جهة والكتائب الاسلامية وجبهرة النصرة من جهة أخرى وصار الصراع مرشحا للتصعيد. وبالفعل في مطلع 2014 بدأت الكتائب الإسلامية توسع من تحالفاتها وتندمج فيما بينها تحت مسميات جديدة وعلى أساس واضح من العداء الصريح لكل من نظام الأسد وداعش فشهدنا في يناير 2014 ميلاد جيش المجاهدين باندماج أكثر من 9 فصائل عسكرية، ثم فيلق الشام في مارس 2014 والذي كان ثمرة اندماج 19 فصيلا ناشطا في حلب وإدلب وحمص وحماة وريف دمشق. وبالمثل اندمجت مجموعة من فصائل الجيش الحر لتكوّن حركة حزم في يناير 2014 كمحاولة لتأسيس نواة جيش بديل على مبادئ التراتبية العسكرية والاحترافية واستطاعت هذه الحركة بالفعل أن تنفذ عمليات نوعية مستفيدة من أسلحة وصواريخ أمريكية الصنع من المرجح أنها قد حصلت عليها من خلال علاقاتها الوثيقة بتركيا. شهدت بداية عام 2014 احتدام القتال بين الكتائب الإسلامية بتحالفاتها الجديدة مع عناصر داعش في عدة نقاط أهمها دير الزور وحلب وإدلب حتى بلغت حصيلة المعارك في ستة أشهر نحو 7 آلاف قتيل من الجانبين. وهو رقم كبير إذا ما قورن بالعدد التقريبي لعناصر داعش في سوريا وهو بين 6 و7 آلاف مقاتل نصفهم تقريبا من غير السوريين، وجبهة النصرة التي تقدر بحوالي 5 آلاف مقاتل قسم كبير منهم من الأجانب أيضا، فيما أن قوام الجبهة الإسلامية يتراوح بين 40 و50 ألف مقاتل والمجلس العسكري الأعلى يتراوح بين 7 و8 آلاف مقاتل. ورغم عدم دقة الأرقام المعلنة لقوام الكتائب المقاتلة في سوريا فإن العدد التقريبي لهذه المجموعات مجتمعة قد يصل الي نحو 120 ألف مقاتل من كل الفصائل. ولذا فعندما تفقد هذه المجموعات نحو 5 % من جنودها في 6 أشهر، فهذا يعني أن القتال البيني محتدم وانه مرجح للتصعيد والتوسع ليشمل كافة المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد. من جهة، تقاتل داعش لتفرض سلطة دولتها "الإسلامية" وتقيم الحدود وفق فهمها المتشدد للشريعة، ومن جهة أخرى فهي تقاتل لتنتقم من كل الخارجين على سلطتها وخاصة جبهة النصرة. وبالمثل فجبهة النصرة تقاتل داعش لتستعيد حقها في تمثيل فكر القاعدة في سوريا دون الالتحاق بداعش، بينما الكتائب الإسلامية تقاتل داعش لتستعيد بوصلة القتال في سوريا ليكون ضد الأسد لا لصالح مشاريع خلافة اسلامية أكبر من الرقعة السورية يتم فيها تهميش السوريين لصالح عناصر أجنبية. وهو ما حدا بالكتائب الإسلامية والأخرى التابعة للجيش الحر إلى إصدار ما يسمي بـ "ميثاق الشرف الثوري" في مايو 2014 الذي تتعهد بموجبه باحترام حقوق الانسان والالتزام بإقامة دولة العدل والمساواة والقانون في سوريا وتحقيق الأمن للشعب السوري بكافة طوائفه، فضلا عن تغليب العنصر السوري على غيره. وفيما اعتبر المراقبون هذا الميثاق محاولة لإعادة إحياء الخطاب الوطني الثوري على حساب الخطاب الإسلامي الذي فرضه وجود مقاتلين متشددين في الصراع السوري، رأت جبهة النصرة في هذا الميثاق إقصاءاً لدورها وانتقدت خلوّه من مطلب إقامة الخلافة الإسلامية. الأمر الذي قد يؤذن بفك التحالف العسكري بين النصرة والكتائب الإسلامية الأخرى رغم انخراطهما معا في قتال داعش. من داعش إلى "الخلافة الإسلامية" كان الصعود العسكري الكبير لداعش في المحافظات السنية العراقية ثمرة انخراط مقاتليها في سوريا، حيث استفادت من المساحات الواسعة التي سيطرت عليها للتدريب والتجنيد والتمويل وعادت للعراق بقوة لتوسع مناطق نفوذها. وقد انعكست هذه التطورات على الساحة السورية في صور عدة، فللمرة الأولى نفذ طيران الأسد قصفا ضد مواقع داعش في دير الزور بشرق سوريا في محاولة لاستغلال الاهتمام الإعلامي الغربي بداعش ليبدو وكأنه يحارب الإرهاب مثله مثل الدول الغربية. ومن جهة أخرى حاولت الكتائب الإسلامية وجبهة النصرة على حد سواء أن تستغل انشغال داعش في العراق من أجل طرد عناصرها من عدة مناطق في سوريا، وخاصة في ريف دمشق وحلب، كما حاولت استعادة السيطرة على البوكمال على الحدود العراقية. لكن قيام أبو بكر البغدادي بإعلان الخلافة الإسلامية تحت قيادته عاد وبعثر الأوراق مرة أخرى لصالحه، خاصة عندما دعا الفصائل الأخرى للانضمام اليه ومبايعته. وهنا فقدت جبهة النصرة عدد كبير من مقاتليها الذين التحقوا بالبغدادي، كما فقدت الكتائب الإسلامية لواء داود الذي التحق بدوره بـ"الدولة الإسلامية"، فقد يكون الأول ولكنه ليس الأخير. على صعيد أخر من المرجح أن يؤدي الخطر الوجودي الذي فرضه توسع داعش في العراق على الشيعة ومؤسسات الدولية الموالية لهم إلى تقهقر لواء أبو الفضل العباس الي العراق مخليا الساحة السورية وبالتالي مختصما من رصيد قوات الأسد. مما قد يعطي ميزة نسبية للكتائب السورية الاسلامية في مواجهة الأسد، لكن انشقاق بعض ألوية هذه الأخيرة والتحاقها بداعش بالعراق قد يؤدي أيضا إلى هز صفوفها. ولذا فعلى عكس التوقعات التي رأت أن صعود داعش بالعراق سيؤدي الي انحسار القتال في سوريا، يبدو أن الصراع السوري قد يكون مرشحا لمزيد من التعقيد والتصعيد. وذلك نظرا لأن انسحاب بعض الفصائل من سوريا إلى العراق قد أعاد تشكيل ميزان القوى بين المتصارعين في سوريا. الأمر الذي قد يغري أطراف الصراع للتصعيد أملا في حسم عسكري يعتقد كل طرف أنه سيكون من نصيبه. حتى هذه اللحظة يبدو نظام الأسد مستفيدا من هذه التطورات، وخاصة من القتال الدائر بين الكتائب الإسلامية وداعش. حيث نجح في التوسع على حساب الكتائب المعارضة كافة وبسط سيطرته على مناطق كان قد فقدها منذ أكثر من عامين بحمص وحلب. ويبقى للكتائب الإسلامية فرصة جديدة إذا ما أثمر تمايزها الفكري والعسكري الواضح عن كل من جبهة النصرة وداعش الي إقناع القوى الغربية بأحقيتها بالمساعدات العسكرية الموعودة فتستطيع أن تحقق بذلك خرقا عسكريا ضد نظام الأسد. ولذا فالصراع في سوريا يبدو في هذه اللحظة أبعد ما يكون عن التهدئة بانتظار مزيد من التصعيد.

رابط دائم: