هل يتآكل النفوذ الإقليمي لتركيا؟ !
2013-9-9

كرم سعيد
* باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

 لم يتوقع أحد من صانعى السياسة فى تركيا أن يتراجع زخم نفوذها الإقليمى بهذا الشكل غير المسبوق والمفاجئ، فقد تعرضت أنقرة لهزة عميقة بعد عزل الرئيس مرسى فى مصر وتصدر المؤسسة العسكرية ومعها القوى المدنية للمشهد ناهيك عما يشهده النظام الوليد فى ليبيا من مشاكل والضغوط التى يواجهها نظام الحكم الإسلامى فى تونس. فى المقابل قُطعت العلاقة مع دمشق فضلا عن فتورها مع بغداد وسخونتها مع الأكراد، إضافة إلى تراخى أواصر التعاون وغياب التنسيق مع طهران التى تنحاز لنظام الأسد. محدد الداخل التركى وانعكاسه على التراجع الإقليمي شهدت أنقرة طوال الأعوام الثلاثة الماضية سلسلة من التطورات الداخلية ألقت بظلالها السلبية على نفوذها الإقليمى، أولها توتر العلاقة مع الأكراد، إذ أصرت تركيا على استخدام العصا الغليظة دون الاستجابة لمطالبهم. وكان مطلع العام الجارى 2013 قد شهد نقلة نوعية فى تسوية الأزمة الكردية، وأسفرت الجهود عن توقيع ما عرف باسم "عملية الحل"، والتى ارتكزت على عدة عناصر أولها إطلاق سراح السجناء تدريجيا، وإعادة محاكمة عبدالله أوجلان مؤسس حزب العمال الكردستانى، وثانيهما انسحاب مقاتلى حزب العمال الكردستانى من تركيا باتجاه شمال العراق، وثالثهما الإقرار بالهوية الكردية الوطنية إضافة إلى خفض الحد الأدنى الانتخابى لدخول البرلمان الذى تبلغ نسبته 10 فى المائة. أما البند الرابع فيرتبط بإقرار حزمة من القوانين تسمح باستخدام اللغة الكردية فى المؤسسات التعليمية والأماكن العامة. غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل، بعد أن ماطلت أنقرة فى تنفيذ تعهداتها، ورفض الخطط الإصلاحية التى طرحتها الجماعة الكردية، وهو الأمر الذى نال من الصورة الذهنية لأنقرة فى دول التجمع الكردى (سوريا- إيران- العراق). وراء الأزمة الكردية تقف أزمة التيار المدنى التركى، الذى يقف حجر عثرة أمام طموحات أردوغان الذى يسعى منذ وقت إلى تفصيل المشهد السياسى على مقاس طموحاته السياسية، وإقصائه قطاع معتبر من النخب السياسية التركية المناهضة له، ودللت على ذلك ما شهدته البلاد من تظاهرات غير مسبوقة في الشهور الأخيرة ضد سياسات أردوغان. صحيح أن يد أردوغان لا تزال هى الأقوى، ونجح حتى الآن فى كبح جماح خصومه فى الداخل، إلا أن المماطلة فى حل القضية الكردية والعصا الأمنية فى قمع المحتجين نالت من صورة تركيا إقليميا ودولياً. ليس هذا كل ما يؤرق الداخل التركى، فقد اتسع الرتق بين رئيس الوزراء طيب أردوغان الذى يسعى إلى الهيمنة المطلقة على كل مفاصل الدولة وعدد كبير من أقرانه فى الحزب، وبدا ذلك فى استقالة ما يقرب من ألفى عضو بالحزب فى فبراير الماضى احتجاجا على إصرار رئيس الحكومة بدء عملية التفاوض مع الأكراد. مؤشرات تراجع النفوذ التركى يخطئ من يظن أن تراجع أنقرة إقليميا وليد اللحظة الراهنة، فقد سبق ذلك سلسلة من الفتور فى العلاقات مع قطاع معتبر من فضائها الإقليمى، أولها التوتر الذى لا تخطئه عين ولا حتى عين أنقرة نفسها مع مصر قبل إقصاء الرئيس مبارك. صحيح أن العلاقة مع القاهرة وصلت إلى تحالف مع مجئ الرئيس محمد مرسى، إلا أنها عادت للتوتر ثانية بعد موجة 30 يونية التى تسببت فى عزل الرئيس مرسى وتضييق الخناق على جماعة "الإخوان المسلمين" التى كانت تعتبرها أنقرة أمتداد إيديولوجى وعقائدى لها. وكانت أنقرة قد لجأت إلى خطوات تصعيدية غير مسبوقة عقب الإطاحة بالرئيس مرسى فسحبت سفيرها، وتم إلغاء عدد من الاتفاقيات التجارية ، بل ذهبت بعيداً حين دعت مجلس الأمن إلى الانعقاد الفورى لبحث الوضع فى مصر بعد فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة منتصف أغسطس الماضى. وراء ذلك تقف تركيا خلف محاولات تجميد عضوية مصر في منظمة التعاون الإسلامي رغم أن مصر ساعدتها في الدخول للمنظمة بعد معارضة سوريا. كما حاولت تركيا التأثير على قطاع معتبر من القوى اللاتينية لاتخاذ مواقف ضد القاهرة، ووصف المشهد المصري بالانقلاب، بل ومارست ضغوطا علنية على البرازيل وعدد من دول القارة اللاتينية لإدانة الأحداث في مصر وقطع العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة. على الضفة الأخرى من النهر تقف العلاقة بين أنقرة من جهة وإيران وحزب الله على المحك منذ انحازت تركيا للجيش الحر ناهيك عن المسار المتعرج للعلاقة مع لبنان، خصوصا بعد خطف طيار تركى ومساعده من على طريق مطار رفيق الحريرى الدولى فى التاسع من أغسطس الماضى. تراجع الزخم الإقليمى لتركيا كشفت عنه أيضا مناخات التوتر مع حكومة بغداد التى أبدت امتعاضها مما أسمته تدخلا تركيا فى شأنها الداخلى جنباً إلى جنب قطع العلاقة مع النظام السورى الذى يتهم أنقرة بتمويل ودعم الإرهاب على أرضه. لاشك أن أزمة العلاقة التركية مع جوارها الإقليمى كشفت عن الفشل الذريع للنظرية التى روج لها أحمد داود أوغلو، والتى اعتمدت على ما يسمى "تصفير المشاكل" مع دول الجوار. من الخليج إلى المغرب العربى. أنقرة تفقد بريقها بالإضافة لما سبق وصلت العلاقات التركية الخليجية إلى ذروة التأزم بسبب موقفها من الأحداث فى مصر، وإصرار أردوغان على ربط مصير بلاده بمصير جماعة الإخوان المسلمين فى مصر ، وكان بارزاً هنا، وصف أردوغان لوزير الدفاع المصرى عبد الفتاح السيسى بالفرعون الجديد، ووصف ما حدث فى مصر بالانقلاب. فى المقابل لم تكن العلاقة أحسن حالا مع دول المغرب العربى، ولذلك لم تحقق زيارة اردوغان لشمال أفريقيا فى يونيو الماضى المرجو منها، فبعض النخب السياسية فى المغرب العربى لاتزال تعارض التقارب مع تركيا، ففى الجزائر رفض نواب حزب العمال اليسارى بقيادة "لويزة حنون" والذى يضم 24 نائباً حضور خطاب ألقاه رئيس الوزراء التركى أردوغان أمام أعضاء البرلمان. وقال رئيس كتلة حزب العمال جلول جودى: "لقد قاطعنا (الخطاب) تضامنا مع الشعب التركى، وتنديدا بموقف الأتراك حيال ما يسمى الربيع العربى"، في إشارة إلى دعم أنقرة للمعارضة السورية المسلحة. وتكرر موقف مشابه فى الرباط حين قاطع اتحاد المقاولات المغربى زيارة أردوغان، وهو الأمر الذى كان مردوده سلبيا على الحوار بين الفاعليات الاقتصادية والتجارية فى البلدين. كما نظم أعضاء حركة «20 فبراير» المغربية، التي تأسست عقب احتجاجات الربيع العربي ، تظاهرة في وسط العاصمة، الرباط، ورفعوا شعارات مثل «لا لزيارة المجرم (أردوغان)» ورددوا شعار "تركيا الفاشية.. لا عدالة لا تنمية" تضامنًا مع المحتجين الأتراك، ورفضا لتوجهات أردوغان السياسية. من الإقليمى إلى الدولى: التراجع مستمر من المفارقات المثيرة للدهشة أن التراجع الإقليمى لتركيا صاحبه بالتوازى انحساراً دوليا لموقعها وموضعها، وبدا ذلك فى توبيخ الاتحاد الأوروبى لأنقرة عقب فض تظاهرات ميدان تقسيم بالقوة واستخدام العصا الغليظة مع المحتجين دون الاستجابة لمطالبهم، و مؤجلاً جولة جديدة من محادثات انضمامها إلى الاتحاد أربعة أشهر. واتهمت التصريحات الخشنة التى أطلقها قادة الاتحاد الأوروبى بشأن أحداث تقسيم، نخب الحكم فى تركيا بالبعد عن المسار الديمقراطى، وهو الأمر الذى اعتبرته أنقرة على لسان رئيس وزرائها طيب اردوغان تدخلاً فى شئونها الداخلية.ودخل المناخ مرحلة الشحن بين الطرفين حين أعلنت تركيا أنها لا تعترف بالبرلمان الأوروبى، وتمادى المندوب التركى لدى الاتحاد فى تصريحات له قال فيها " لا تحتاج تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، بل هو الذى يحتاج إليها، وإذا دعت الحاجة، يمكننا أن نقول لتلك البلدان أغربى عن وجهنا". وبرز التراجع الدولى لأنقرة مجدداً، حين ألغى أردوغان زيارته للأرجنتين التى كانت مقررة ضمن جولة لاتينية بدأت فى السادس من سبتمبر الجارى، بعدما ألغت مدينة بيونس ايرس ترخيصاً بتدشين تمثال لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك رضوخاً لضغوط من الجالية الأرمنية في البلاد، والتى تتهم الدولة العثمانية بإبادة أكثر من مليون أرمنى وقت الحرب العالمية الأولى، ولا تزال أنقرة تماطل فى الاعتراف بها. على صعيد ذى شأن فشلت أنقرة فى تأمين حشد دولى يمكنها من تنظيم أولمبياد 2020، وقد أسدلت اللجنة الأولمبية قبل أيام الستار على الصراع المثير على حق استضافة الأولمبياد، ومنحت التنظيم لطوكيو للمرة الثانية، لتبدد حلم اسطنبول المأزومة إقليميا ودوليا فى استضافة الأولمبياد للمرة الأولى فى التاريخ. الخلاصة تكشف طريقة أردوغان وحزبه العدالة والتنمية فى التعاطى مع ملفات السياسية الخارجية عن تراجع واضح فى الدور الإقليمى وكذلك الدولى لأنقرة التى فقدت القدرة على الفعل والتأثير فى الشرق الأوسط ناهيك عن القضايا والملفات الدولية التى شاركت فيها قبل ثلاثة أعوام بفاعلية وفى مقدمتها الملف النووى الإيرانى. والأرجح أن سياسة أردوغان الخارجية فى العامين الأخيرين ترتب عليها عزلة إقليمية قاسية لتركيا، حتى أن الإعلام التركى المعارض يصفها اليوم بـ "تركيا رجل المنطقة المعزول". لذلك إذا لم يفطن أردوغان إلى سياساته الإقليمية، ويسرع بمراجعتها، فإنها ستنعكس على الاقتصاد التركى، مع الوضع في الاعتبار أهمية المعاملات الاقتصادية مع دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط والمغرب العربى، وهى المناطق التى يتعرض فيها الرصيد التركى لتآكل ملحوظ. لكن أردوغان على الرغم من ذلك لا يزال يتجاوز حدود البراجماتية السياسية فى علاقاته الإقليمية، وربما هذا ما دفع بالرئيس عبدالله جول إلى معالجة قصور رئيس وزرائه فبعث ببرقية تهنئة إلى الرئيس المصرى المؤقت إضافة إلى سعى حزب الشعب الجمهورى المعارض إلى مد جسور التواصل مع واشنطن وبغداد ودمشق جنباً إلى جنب إرسال إشارات ايجابية من وراء ستار للقاهرة. وتشير بعض الشواهد إلى أن المعارضة التركية قد قطعت اليوم شوطاً معقولاً على طريق استعادة بعض زخمها السياسى، وأن كان رصيد حزب العدالة والتنمية لا يزال كبيراً ومن الصعب القفز عليه. إضافة إلى بعض الدلائل على التحول في شعبية قادة العدالة والتنمية نحو الرئيس جول وعلى حساب أردوغان. فقد كشف استطلاع للرأى أجرته شركة البحوث الإستراتيجية والاجتماعية فى شهر أغسطس الماضى أن 65% من الشعب التركى سيصوتون لصالح جول ليتولى فترة رئاسية ثانية، بينما بالمقابل عبر 50% فقط عن نيتهم دعم أردوغان.


رابط دائم: