الأزمة السورية والعلاقات المصرىة الإيرانية فى ضوء التفاعلات الإقليمية الراهنة
2012-10-2

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تحمل المبادرة المصرية بشأن الأزمة السورية التى طرحها الرئيس محمد مرسى ضمن فعاليات القمة الإسلامية التى عقدت فى مكة المكرمة خلال شهر أغسطس الماضى والداعية إلى تشكيل لجنة اتصال رباعية تضم كل من مصر والسعودية وإيران وتركيا العديد من علامات الاستفهام بعضها يتعلق بمدى "جدوى" المبادرة فى التوقيت الحالى فى ظل حالة التعنت التى يبديها نظام بشار الأسد تجاه أية حلول ممكنة للأزمة لا تتضمن بقائه على رأس السلطة، وفى ظل حالة الاستقطاب الإقليمى والدولى الحاد بين القوى المعنية بالأزمة بصورة جعلت الحل السياسى مرهونا بحسابات الربح والخسارة بين المشروعات الإقليمية والمصالح الدولية لتلك القوى، والبعض الآخر يتعلق "بإشكاليات" تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية بعد ثلاثة وثلاثين عاما من القطيعة السياسية على إثر توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979. وترتبط هذه الإشكاليات بالبعد الايديولوجى والمصالح السياسية لاسيما الإقليمية منها، وبمصالح أطراف وقوى ثالثة تدخل فى معادلة العلاقات المصرية الإيرانية ولها تأثيراتها الواضحة على السياسة الخارجية المصرية. "جدوى " المبادرة فى ظل التفاعلات الإقليمية القائمة ففيما يتعلق بمدى "جدوى" المبادرة المصرية فى الفترة الراهنة يمكن الإشارة إلى أن طرح المبادرة قد لا يعنى الكثير بالنسبة لمسار الأزمة التى دخلت عامها الثانى دون حسم بالنظر إلى العديد من المحاولات العربية والدولية التى قدمت حلولا مختلفة أصطدمت جميعها برفض تام من قبل نظام الأسد كان آخرها فشل مهمة المبعوث الأممى كوفى أنان، ولكن جدوى الطرح هنا يعنى الكثير بالنسبة لمصر لاسيما على مستوى السياسة الخارجية فى ظل رئاسة جديدة تختلف فى مرجعيتها وفى أهدافها السياسية وربما فى توجهاتها عن الرئاسة السابقة؛ فهناك رغبة مصرية فى الحضور على ساحة الحدث السياسى العربى من جديد، والتدشين لرؤية مختلفة لطبيعة الدور العربى والإقليمى لمصر ما بعد ثورة 25 يناير، والتأسيس لمرحلة استعادة زمام الحركة السياسية العربية إقليميا عبر الانخراط فى "أخطر" أزمة تواجه الأمن الإقليمى العربى فى الوقت الراهن وهى الأزمة السورية لما تعنيه سوريا بالنسبة للصراع العربى الإسرائيلى من ناحية، وللاستقرار فى المشرق العربى من ناحية ثانية، ولإنهاء أو "تطويع" المشروع الإقليمى الإيرانى فى المنطقة من ناحية ثالثة. فى هذا السياق يتطلب الحديث عن جدوى المبادرة المصرية بشأن الأزمة السورية بالضرورة تحليل "الأهمية الإقليمية" لتلك المبادرة فى ضوء طبيعة الحسابات الإقليمية للدول الأربعة التى تشملها لجنة الاتصال؛ فكل من مصر وإيران تسعيان إلى زيادة نفوذهما الإقليمى بالمنطقة؛ الأولى تحاول استعادته بعد ثورة غيرت الكثير من ملامح نظامها السياسى الأمر الذى يستتبع تغيرا مماثلا فى سياستها الخارجية يعيد إدخال المتغير الإقليمى إلى دائرة الاهتمام بعد حالة تغييب "قسرى" فرضتها الولايات المتحدة على الدور المصرى فى المنطقة وارتضاها النظام السابق مقابل تأمين مشروعى "التمديد والتوريث". أما الثانية فتعمل على حماية مكتسباتها الإقليمية المتزايدة منذ الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003 وحتى الآن، وهى مكتسبات وفرت لها إقامة مشروع إقليمى له مرتكزات تعاون استراتيجية فى سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، ومن ثم فإن خروج إحدى هذه المرتكزات من دائرة نفوذها يعنى "خلخلة " المشروع وربما سقوطه، وترغب فى الوقت نفسه أن تكون محورا مهما فى صياغة العلاقات الإقليمية - الدولية فى منطقة الشرق الأوسط فى مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربى. يدعو الأمر هنا إلى التساؤل حول أهمية سوريا لإيران والإجابة تفترض الحديث عن حجم ونوعية خسائر إيران من الأزمة السورية؛ فعلى الرغم من القوة التى تبديها ايران فى سوريا إلا أن الأزمة أثرت عليها تأثيرا كبيرا للدرجة التى دفعت العديد من المحللين السياسين الإيرانيين إلى الحديث عن "احتمالية" سقوط نظام الأسد وتأثيراته على إيران لاسيما المشهد السياسى الداخلى والمكتسبات الإقليمية الخارجية؛ فالداخل الإيرانى سيتأثر حتما بسقوط أو رحيل الأسد لكن التأثير لن يرتقى إلى حد فرض "حتمية" التغيير السياسى عليه؛ بمعنى أكثر تفصيلا فإن تغيير النظام العلوى الشيعى فى سوريا سيكون ضربة قوية للنظام الشيعى فى طهران ولكن لن يؤدى إلى الإطاحة بتركيبة النظام أو بنيته، وستقتصر المخاوف على حفز المعارضة الإيرانية التقليدية وحركات الاحتجاج الشبابية على إعادة تنظيم صفوفها فى تحركات معارضة فى محاولة منها لإحداث تغيير فى المشهد السياسى، وهو أمر ستواجهه الحومة الإيرانية بإعمال آلة القمع الأمنية على غرار ما سبق من تداعيات نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2010، ومن ثم لن تكون تداعيات رحيل أو سقوط الأسد على الداخل الإيرانى ذات تأثير قوى. أما على الجانب الخارجى فالخسائر الإيرانية ستكون جمة ومؤثرة: أولها، يشير إلى أن رحيل الأسد يعنى مباشرة "اختلال" ميزان القوى الإقليمى لغير صالح إيران وهو ما يعنى أن طهران ستخرج من معادلة التوازن الإقليمى فى الشرق الأوسط بفعل الربيع العربى لأن خروج نظام الأسد من سوريا يعنى خروج النفوذ الإيرانى من لبنان نهائيا ما سيؤدى إلى اختلال التوازن بين القوى السياسية اللبنانية لصالح التيارات المعارضة لحزب الله، فحينها لن تستمر سوريا الجديدة فى إمداد حزب الله وأنصاره بالسلاح، ولن تكون بالضرورة نظاما حليفا لإيران وسينعكس ذلك على الوضع السياسى للشيعة فى لبنان بصفة عامة. كما أن العراق وحكومته الشيعية الضعيفة ستكون بدورها فى مهب رياح التغيير حال تراجع النفوذ الإيرانى فى منطقة الخليج وستكون إيران حينئذ مضطرة إلى إحلال العراق محل سوريا فى خريطة تحالفاتها الإقليمية وهو ما سيكلفها الكثير إقليميا. ثانيها، يشير إلى صعود السعودية كقوة إقليمية ستقوم بملء الفراغ الذى سيحدثه خروج النفوذ الإيرانى من سوريا عبر مد جسور التعاون مع الأغلبية السنية هناك ما سيقوى بالضرورة من التيارات السنية فى لبنان فى مواجهة حزب الله الذى سيفقد حليفه السورى ومن ثم "ستتقلص" تأثيراته على مجريات الحياة السياسية اللبنانية، ولكن سيستمر بقاؤه لأنه جزء من النسيج السياسى اللبنانى. ثالثها، يشير إلى أن طبيعة النظام السياسى السورى الجديد وما قد تفرزه الخريطة السياسية الداخلية مستقبلا سيخرج سوريا من محور المقاومة الإقليمى؛ لأنه وفى حالة وصول قوى ثورية للسلطة فى ظل ظروف ما بعد الأزمة ستكون تلك القوى محاصرة بالعديد من المشاكل الداخلية وستأخذ وقتا طويلا لعلاج الآثار المجتمعية والسياسية والاقتصادية المترتبة على أحداث الثورة، ومن ثم لن تكون قادرة على الوفاء ولمدة ليست بالقصيرة بتعهدات محور المقاومة الذى كانت سوريا الأسد أحد أضلاعه بالاشتراك مع إيران وحزب الله. رابعها، يشير إلى "تقلص" وليس "انتهاء" قدرة النظام السياسى الإيرانى على المناورة الإقليمية فى حالة رحيل الأسد؛ لأنه لايزال قادرا على اللعب بورقة مهمة من أوراق الأزمة السورية حال تغير الأوضاع بالداخل السورى، وسيكون ذلك عبر التنسيق مع الطائفة العلوية السورية التى تتركز مناطق تواجدها بالقرب من الحدود مع لبنان، ما يعنى أن سوريا ما بعد الأسد بطبيعة المرحلة الانتقالية ستشهد عدم استقرار يتيح أمام طهران - التى تجيد التفاعل مع حالات عدم الاستقرار فى جوارها الإقليمى جيدا - الانخراط فى الداخل السورى عبر ضربات أمنية محددة أو عبر حمل العلويين على المطالبة بنوع من الحكم الذاتى فى المنطقة الحدودية مع لبنان، ما يؤشر على أن إيران ستظل قابضة على الداخل السورى من أجل الحصول على امتيازات محددة مستقبلا. أما بالنسبة للسعودية بقوتها النفطية وتأثيراتها فى السوق العالمية وطبيعة نظامها السياسى المحافظ فقد سعت إلى حماية الأنظمة السياسية الملكية فى الخليج العربى وتـأمينها من مخاطر الثورات العربية ولا تجد غضاضة فى أن تلعب دورا مزدوجا بشأنها بين رفض التغييرات السياسية عبر ثورات جارفة كالحالة المصرية والتونسية، وبين تأييد بعضها كالحالة السورية مثلا؛ لأن الوضع الإقليمى للأخيرة يعنى إغلاق النافذة العربية لإيران فى المنطقة ومن ثم تقويض تهديداتها المستمرة لدول الخليج سواء عبر احتلال إجزاء من أراضيها أو التهديد باحتلال المزيد أو عبر استغلال الولاءات والانتماءات المذهبية فى تلك الدول وتوظيفها فى إثارة الفتن والفوضى وعدم الاستقرار، هذه الازدواجية مكنتها من النجاح فى لعبة "التوازن" الإقليمى فى ضوء تغييرات ثورات الربيع العربى بين استنكارها للتغيرات السياسية والاجتماعية التى ستفرزها تلك الثورات وستكون مصحوبة بحالة من عدم الاستقرار وبين لعبها بورقة أهمية الخليج العربى من الناحية الاستراتيجية والأمنية للدول الكبرى، وما سيحدثه الاختراق الإيرانى الشيعى للدول الخليجية السنية من تداعيات على المصالح الغربية فى الخليج. الأمر الذى مكنها ودول الخليج من التمتع بحماية غربية أمريكية خاصة انعكست بوضوح فى الموقف الغامض لتلك الدول من حركة الاحتجاجات التى شهدتها البحرين خلال العام الماضى والتى تشتعل من وقت لآخر، وبالتالى فإن رغبة سعودية جامحة فى إنهاء حكم الأسد فى سوريا يعنى نجاحها فى "إضعاف" المخطط الإقليمى لإيران فى الخليج ولكن دون إنهائه؛ لأن إيران وقتها لن يكون أمامها سوى الساحة العراقية كبديل استراتيجى للحليف السورى، وهنا ستسعى السعودية إلى استعادة النفوذ الخليجى فى العراق لإخراجه من دائرة النفوذ الإيرانى، خاصة وأن مواجهتها مع المشروع الإيرانى ستكون أقل حدة وخطورة وتكلفة عما هو قائم حاليا لأن العراق "غير المستقر" حتى هذه اللحظات يمثل بالنسبة لإيران عبئا إقليميا كبيرا. كما يعنى أيضا إنهاء النفوذ الإيرانى فى سوريا بالنسبة للسعودية انتصار لحلفائها فى لبنان لاسيما تيار 14 آذار وتقويته فى مواجهة تيار 8 آذار بزعامة حزب الله، ويعنى هذا فى المجمل الأعم نجاح المذهب السنى فى مواجهة تمدد المذهب الشيعى فى المنطقة. تركيا أيضا كقوة إقليمية لعبت دور "الموازن الإقليمى" لإيران فى المنطقة وكانت فى قضايا وملفات إقليمية عديدة محورا للتعاون الاستراتيجى مع سوريا وأحيانا مع ايران، وتدخل فى خريطة التوازنات الإقليمية الحالية والمستقبلية التى ستفرضها طبيعة الحل المأمول للأزمة السورية نتيجة لطبيعة الجوار الجغرافى من ناحية، وطبيعة التركيبة المجتمعية العرقية والطائفية لتركيا من ناحية ثانية، والتى تتشابه إلى حد كبير مع التركيبة المجتمعية فى سوريا لاسيما العلويين والأكراد وما يرتبط بذلك من تأثيرات سلبية محتملة على الداخل التركى من جراء الأزمة السورية خاصة فى ظل الموقف التركى الداعم للمعارضة السورية، جدير بالذكر أن تلك الأزمة أنهت حالة التحالف الاستراتيجى التركى السورى على إثر موقف تركيا المؤيد للثورة، وارتبط بهذا الواقع سياسات متبادلة عبرت عن عمق الخلاف بين الجانبين كانت أكثر حضورا على الحدود سواء على مستوى هجرة اللاجئين السوريين لتركيا وما يرتبط بذلك من تداعيات أمنية واقتصادية خطيرة، أو على مستوى احتضان تركيا لقوى المعارضة السياسية وعناصر وقادة الجيش السورى الحر وتوفير الدعم الكامل لهم، أو على مستوى التوتر الحدودى عبر قيام الجيش السورى النظامى بالانسحاب من المدن الكردية السورية على الحدود وترك أمر حماية تلك المناطق لعناصر من حزب الاتحاد الديموقراطى الكردى السورى الذى يعد حليف حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، ما يعنى أن دمشق تضغط على أنقرة عبر استخدام الورقة الكردية التى تمثل هاجسا أمنيا مؤثرا. لذا باتت تركيا تتخوف من أى فراغ متوقع فى السلطة السورية وترغب فى وجود حكومة يتم تشكيلها من المعارضة السياسية التى تحتضنها كأحد الحلول لمواجهة العديد من السيناريوهات التى تراها تركيا "مقلقة" لأمنها واستقرارها، منها اتجاه أكراد سوريا إلى تبنى خيار الفيدرالية أو الانفصال التام عن سوريا، أو اتجاه العلويين فى حالة تقسيم سوريا إلى إقامة دولتهم ما قد يحرك علويو تركيا للمطالبة بالاستقلال على غرار نظرائهم السوريين، أو على أقل تقدير خشية تركيا من أن يعاود حزب العمال الكردستانى ضرباته الإرهابية للداخل التركى الأمر الذى سينال من استقراراها فى المرحلة الحالية. إشكاليات تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية أما فيما يتعلق بمصر وتطلعاتها لاستعادة دور إقليمى جديد عبر بوابة الأزمة السورية وعلاقة ذلك الدور بالقوى الإقليمية ومصالحها، فيأتى الحديث عن "إشكاليات" تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية ودخول الأزمة السورية كرقم مهم على معادلة تلك العلاقات عبر "الاغراءات" التى تحاول القيادة المصرية التلويح بها لإيران لحملها على إبداء مرونة أكبر تجاه حل واقعى وممكن للأزمة، ومنها إقامة مصر علاقات سياسية واقتصادية كاملة معها مقابل تخليها عن دعم نظام بشار الأسد وضمان خروج آمن له ولأسرته. إلا أن مثل هذه الخطوة لابد وأن تكون "محسوبة" بحسابات الربح والخسارة بالنسبة لمصر حال عودة العلاقات مع إيران؛ فما هى الضمانات التى يمكن أن تقدمها إيران لمصر بشأن القضايا التى تمثل للأخيرة أولوية فى سياستها العربية كأمن دول الخليج أو تلك المتعلقة بالموقف من العراق، وكذلك ما هى ضمانات منع التمدد الشيعى فى المنطقة، أو استغلال العلاقات المستقبلية بين البلدين فى أى مواجهة بينها وبين إسرائيل. وعلى الجانب المقابل ماذا ستقدم مصر لطهران لحملها على التخلى عن حليفها الاستراتيجى بشار الأسد ولماذا تصر طهران على التقارب مع مصر خلال الفترة الراهنة؟! فى معرض الإجابة على تلك التساؤلات يمكن القول أنه وفى إطار حسابات المصلحة الاستراتيجية بين الطرفين ورغبة إيران فى عودة العلاقات سريعا مع مصر جاء التمسك الشديد من ناحيتها بالمبادرة المصرية، لا من باب اعتبارها الحل الأمثل لتسوية الأزمة السورية ولكن من باب كونها توفر حلقة اتصال مباشرة مع القيادة المصرية الجديدة لأول مرة فى تاريخ العلاقات بين البلدين منذ حوالى ثلاثة وثلاثين عاما، وهو أمر على الرغم من محدوديته إلا أنه يمثل بالنسبة لإيران نقلة نوعية مهمة فى مسار تفاعلاتها الإقليمية خلال المرحلة الراهنة، ما قد يفتح المجال لخلق حد أدنى من التفاهم الثنائى حول القضايا الإقليمية المهمة لاسيما الأزمة السورية. فى ضوء ذلك فإذا كانت مصر ترغب فى تقديم طرح عودة العلاقات مع إيران كحافز لها لإبداء مرونة فى الأزمة السورية تصل إلى حد التخلى عن حليفها بشار الأسد، سواء كان عبر تطبيع كامل أو عبر علاقات باردة على غرار العلاقات مع إسرائيل، فسيتحتم عليها دراسة مدى ونوعية التأثير الذى ستتعرض له علاقاتها بدول الخليج العربية من ناحية، ورد الفعل الأمريكى من ناحية ثانية، ومخاطر نشر المذهب الشيعى وموقف القوى السياسية منه لاسيما السلفيين من ناحية ثالثة|. فعلى مستوى العلاقات مع دول الخليج ومستقبلها حال عودة العلاقات المصرية الإيرانية تجدر الإشارة هنا إلى تخوفات خليجية عديدة من إيران على خلفية السياسة العدائية التى تمارسها عبر التأثير على أمن دول الخليج السنية برمتها ومحاولاتها نشر الفوضى وتصدير الثورة لتلك الدول بتأليب امتداداتها المذهبية الشيعية فيها، إلا أن المفارقة الغريبة فى الأمر هى طبيعة العلاقات الاقتصادية القوية التى تربط بين إيران ومعظم دول الخليج لاسيما الإمارات حيث تعد إمارة دبى بمثابة الرئة الاقتصادية التى تتنفس عبرها إيران اقتصاديا وتعد البوابة التى تجتاز إيران عبرها الآثار الاقتصادية السلبية للعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها، وكذلك دولة الكويت، وسلطنة عمان، فى الوقت الذى تُحرِم فيه تلك الدول على مصر أى نوع من التقارب حتى ولو كان مجرد تقارب اقتصادى، بل وصل الأمر إلى حد إعلان مجلس الأعمال المصرى السعودى فى الأسبوع الثانى من شهر سبتمبر المنصرم أن اتجاه طهران لضخ مزيد من استثماراتها فى مصر خلال الشهور القادمة يقلل بالضرورة من فرص الاستثمارات الخليجية فى العديد من المجالات، هذا التصريح فى واقع الأمر يحمل تحذيرا ضمنيا للحكومة المصرية من أن التفاعل الإيجابى مع طهران سيقلل بالضرورة من فرص تعاون دول الخليج مع مصر على الأقل من الناحية الاقتصادية. أما على الجانب السياسى فلا تزال دول الخليج وفى مقدمتها السعودية قلقة من تقارب ممكن بين مصر وإيران على الرغم من إعلان القيادة المصرية بوضوح عن موقفها من نظام بشار الأسد عبر العديد من المحافل الدولية. وربما يكون لرغبة مصر فى تفعيل الحوار مع إيران وضمان استمراريته خلال الفترة القادمة ما يبرره باعتبار أن إيران هى المتحكم الرئيسى فى الأزمة السورية وأنها جزء أصيل من الحل، بينما الأمر نفسه تراه السعودية غير ذا جدوى وترجمت ذلك بالفعل فى مقاطعتها لأعمال اللجنة الرباعية التى عقدت على مستوى وزراء الخارجية فى القاهرة فى السابع عشر من سبتمبر المنصرم لأن الرياض لا تريد لإيران أى دور فى الأزمة حيث تراها سببا لها ومعوقا رئيسيا لأية حلول ممكنة، وربما يكون بروز الدور المصرى عبر هذه المبادرة مثيرا لمخاوف الزعامة الإسلامية والعربية التى احتكرتها السعودية خلال السنوات الماضية فى ظل انتكاس الدور العربى والإسلامى لمصر. وعلى مستوى الحسابات المصرية لرد الفعل الأمريكى على التقارب المصرى الإيرانى من المتوقع أن تشهد العلاقات المصرية الأمريكية توترا ملحوظا بشأن التقارب المصرى مع إيران حتى ولو كان بدافع إيجاد حل لأزمة مستعصية كالأزمة السورية، لاسيما وأن ذلك التقارب تزامن مع توتر ملموس فى العلاقات المصرية الإسرائيلية مؤخرا، فواشنطن ترى أن تقاربا ما بين مصر وإيران يمكن الأخيرة من كسر عزلتها الدولية، وهو ما يخفف بالتالى من حدة العقوبات المفروضة عليها لذلك فهى تعى مدى خطورة عودة العلاقات بين الطرفين وتأثيراتها على إسرائيل، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك التأثير وجود تركيا التى تعانى علاقتها بإسرائيل أيضا من توترات على خلفية أزمة سفينة مافى مرمرة التركية - مايو 2010- فى سياق محاولات كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، وبالتالى فواشنطن ترى أن التقارب الثلاثى المصرى الإيرانى التركى لن يقتصر تأثيره عند حد البحث عن حلول ممكنة للأزمة السورية، بل يتعدى ذلك - على الأقل بالنسبة للعلاقات المصرية التركية الحالية- إلى مرحلة التعاون الاستراتيجى خاصة بعد أن أعلنت تركيا رغبتها فى رفع درجة التعاون مع مصر إلى درجة التحالف عبر تشكيل مجلس للتعاون الاستراتيجى بين البلدين، وهو ما تتخوف منه إسرائيل وتراه تقاربا ثلاثيا إن لم يكن يستهدفها بالدرجة الأولى فإنه على الأقل سيوفر لمصر الجديدة حرية حركة إقليمية تمكنها من تحييد علاقتها بالولايات المتحدة ومن ثم بإسرائيل. لذلك بدا أن البديل بالنسبة لإسرائيل هو الاستماتة فى الضغط على مصر عبر واشنطن وتهديدها لإبقاء العلاقات المصرية الإيرانية فى أضيق الحدود، إما بقطع المساعدات العسكرية وتحجيم الاستثمارات الاقتصادية تارة، أو بتهديدات متكررة من جانب إسرائيل بشأن سيناء تارة أخرى وهو ما حدث خلال الفترة القليلة الماضية. من ناحية أخرى فإن مخاطر نشر المذهب الشيعى فى مصر حال تطبيع العلاقات مع ايران يمثل هاجسا رئيسيا بالنسبة للمجتمع المصرى، وتخشى بشدة منه كل من مؤسسة الأزهر الشريف والتيارات السلفية، بل وكثيرا ما استخدم كفزاعة ردا على أية محاولات للتقارب بين البلدين، بل رأى البعض فى تحليلاته أن توسع التواجد الشيعى فى مصر سيؤدى حتما إلى التصادم بين الأزهر الشريف كمؤسسة سنية وبين المد الشيعى المتوقع فى حالة عودة العلاقات المصرية الإيرانية، ناهيك عن الرفض التام الذى تبديه التيارات السلفية للتواجد الشيعى المتزايد خلال السنوات القليلة الماضية على خلفية أن عودة العلاقات تعنى فتح البلاد أمام قدر لا بأس به من السائحين الإيرانيين الراغبين فى زيارة أضرحة آل البيت وإقامة شعائرهم الدينية دون أن تتوافر الآلية التى يمكن بها منعهم من نشر مذهبهم خلال تلك الزيارات. تبدو التخوفات السابقة إذن كابحة لمسار تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية، لكن فى الوقت نفسه هناك من يرى أن فتح المجال أمام عودة العلاقات من شأنه أن يحقق مكاسب "استراتيجية" للطرفين والتى يمكن رصد بعضها فيما يلى : • المكاسب المصرية: فى سياق ما تم عرضه يمكن القول أن المكاسب المصرية من التقارب مع إيران تنحصر فى أمرين: الأول مكاسب اقتصادية "محتملة"، والثانى مكسب سياسى يتعلق بالقدرة على المناورة الإقليمية. بالنسبة للمكاسب الاقتصادية يمكن معرفة أهميتها إذا ما علمنا أن إيران دولة تمتلك العديد من الموارد الاقتصادية لاسيما النفط والغاز وتعتبر منتجة لمعظم احتياجتها الاقتصادية لدرجة أن البعض رأى فى تعاون اقتصادى مصرى إيرانى محتمل "خروجا" من عباءة التبعية للاقتصاد الأمريكى الأوروبى وما يفرضه من التزامات سياسية على المستويين الداخلى والخارجى، ووسيلة لتنويع مصادر التعاون الاقتصادى وجذب مزيد من الفرص الاستثمارية التى تراجعت بشدة طوال عامى الثورة بما يخدم مصلحة مصر، وفى الوقت نفسه لا يضر بمصالحها المشتركة مع غيرها من الفاعليين الدوليين؛ لأن عملية جذب الاستثمارات الأجنبية لا ترتبط بقرارات سياسية وإنما ترتبط بحجم المكاسب التى ستعود على طرفى التعاون الاقتصادى؛ فحجم الاستثمارات الإيرانية فى مصر ضئيل ولا يتجاوز 331 مليون دولار يعمل عبر 12 شركة فى خمسة قطاعات اقتصادية مختلفة. إلا أن هذا الطموح المستهدف بشأن جذب مزيد من الاستثمارات الإيرانية كمكسب اقتصادى "محتمل" يصطدم على أرض الواقع بوجود مشاكل اقتصادية كبيرة يعانى منها الاقتصاد الإيرانى حاليا جراء العقوبات الاقتصادية التى أدت إلى تراجع معدلات النمو وارتفاع البطالة وزيادة معدلات التضخم، ناهيك عن خضوع رأس المال الإيرانى للرصد والتتبع الدوليين، ما يجعل المكاسب المصرية المتوقعة بالنسبة للجانب الاقتصادى مرهونة بحالة الاقتصاد الإيرانى الذى بات حبيسا لعقوبات دولية فرضت قيودا شديدة على إمكانيات نموه. أما المكاسب السياسية وفى ظل التخوفات السابق ذكرها فإن التقارب المتوقع عبر سياسة الحوار الدائم على خلفية لجنة الاتصال الرباعية قد يساهم فى إخراج مصر من دور التابع الذى تنحصر فعاليته فى رد الفعل إلى دور الفاعل الرئيسى فى مسرح الأحداث وفى حالات متقدمة من اكتساب الثقة الإقليمية تصبح قادرة على المناورة الإقليمية وما يرتبط بها من مساومات وتبادل مصالح، ما يعنى أن مصر سيمكنها إقامة تحالفات خارجية جديدة مستقبلا مع دول منافسة للولايات المتحدة فى سابقة لم تحدث منذ أكثر من أربعين عاما. • المكاسب الإيرانية: المكاسب الإيرانية من عودة العلاقات مع مصر كثيرة وتفوق المكاسب المصرية ومنها : - قد تكون مصر خلال المرحلة القادمة وفى حالة تفعيل العلاقات بين البلدين مرشحة لأن تكون رئة اقتصادية جديدة تتنفس عبرها إيران، إلا أن ذلك سيكون محكوما بأن تفى مصر بالتزاماتها فى تطبيق العقوبات الدولية المفروضة على إيران. - تعزيز التعاون الإيرانى مع إفريقيا عبر البوابة المصرية خاصة وأن إيران تتمتع بنشاط دبلوماسى واقتصادى كبير فى شرق وغرب القارة على حد سواء، وأن هذا الانتشار فى افريقيا كان يحقق لإيران القدرة على مواجهة التوغل الإسرائيلى فى بلدان القارة عبر تقديم المساعدات التكنولوجية والاقتصادية، وهو الدور الذى كانت تقوم به مصر خلال ستينيات القرن الماضى. - احتمالية أن تستبدل إيران سوريا بمصر كنافذة عربية لها، لكن هذا احتمال ضعيف ولا يتناسب مع مكانة ومحورية الدور المصرى فى المنطقة، حتى وإن تم تغييبه من قبل ولكنها حتما ستستثمر التقارب مع مصر فى تغيير صورتها لدى الدول العربية من دولة عدائية إلى دولة صديقة لاسيما دول الخليج العربى. - الاستفادة من التقارب مع مصر فى التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية فى المنطقة، وهو ما تتحسب له واشنطن جيدا لأن أى تقارب مصرى مع إيران يعد بالضرورة خصما من العلاقات الأمريكية المصرية والعلاقات المصرية الإسرائيلية على حد سواء،لأنه سيسمح لمصر بأن تعيد تحديد أولويات أمنها القومى الذى سيبتعد بالضرورة عن ارتباطه بالسياسة الأمريكية فى المنطقة. إلا أن ذلك سيظل بالطبع محكوما بضوابط محددة لكون واشنطن حتى الآن هى مصدر التسليح الأول لمصر والمانح الاقتصادى الأكبر، مما قد يمثل كابحا فى آحيان كثيرة لتوجهات أكثر حدة على مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة حاليا. - الاستفادة من وجود لجنة الاتصال الرباعية الخاصة بالأزمة السورية فى فك العزلة التى تحاول الولايات المتحدة وإسرائيل إحكامها على إيران على خلفية أزمة البرنامج النووى الإيرانى، وذلك عبر حرصها على استمرار التواصل مع دول الرباعية لاسيما مصر وتركيا. - عمل إيران على إضعاف العلاقات المصرية الإسرائيلية بالاستفادة من حالة الرفض الشعبى المصرى لإسرائيل والتى ازدادت حدتها بعد ثورة 25 يناير، عبر طرح نفسها كبديل إسلامى قوى قادر على إقامة تحالف سياسى واقتصادى مع مصر الجديدة بإمكان طرفيه أن يوفرا دعما قويا للقضية الفلسطينية. مما سبق يتضح وجود "مكاسب" مصرية إيرانية فى التقارب ولكنها مكاسب تصب إجمالا فى مصلحة الطرف الإيرانى أكثر من الطرف المصرى، لأن مكاسب طهران ستكون سياسية بالأساس وستزيد من إمكانيات الدور الإقليمى الإيرانى، أما مكاسب مصر فستقتصر إلى حد كبير على مكاسب اقتصادية "محتملة" لأنها ستكون محكومة أيضا بقدرات إيران الاقتصادية الخاضعة لحزمة من العقوبات الدولية. وعليه يكون مكسب عودة "الفاعلية الإقليمية" للدور المصرى مرة أخرى بعد طول غياب قسرى فرضته علاقة التبعية المتناهية التى ربطت بين نظام مبارك السابق وبين الولايات المتحدة هو المكسب الوحيد الذى ستحصل عليه مصر عبر الأزمة السورية، لكنه سيظل مرهونا بمدى قبول إيران التضحية ببشار الأسد خلال الفترة القادمة.


رابط دائم: