دروس أزمة السفينة الجانحة.. ومستقبل قناة السويس
2021-4-5

د. معتز سلامة
* خبير - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

ولّدت أزمة السفينة الجانحة فى قناة السويس حالة وطنية لم تشهدها مصر منذ عقود؛ حيث أصبحت قناة السويس مجددا موضوعا للحوار الوطني، على نحو جدد ذكريات المصريين بخصوصها، وأعاد اكتشافهم أحد أرصدتهم الاستراتيجية ذات المكانة العالمية.

النسبة الأكبر من المصريين، خاصة الشباب والأطفال، لا تعرف الكثير عن القناة، وبالنسبة للمواطن الأكبر سنا، فمنذ فترة لم تعد القناة تمثل له سوى رقم 5 أو 6 مليارات دولار، يمثل محصلة عائداتها السنوية.

صحيح أن تبرعات المصريين عام 2015 لقناة السويس الجديدة ، أظهرت مخزون قناة السويس فى الذاكرة الشعبية للمصريين، لكن فى تلك اللحظة ، تداخلت المعانى الوطنية الخاصة بالقناة، مع المعانى الخاصة بتأييد المصريين للرئيس عبد الفتاح السيسى فى المواجهة التى خاضتها الدولة مع قوى الشر، ومن ثم لا يمكن عزو إقدام المصريين الكثيف على التبرع لأجل القناة الجديدة أنه تم بالدافع الوطنى نحو القناة وحده، حتى جاء حادث السفينة «إيفر جيفن»، ليقذف بالكثير من ذكريات المصريين بخصوص قناة السويس إلى الصدارة.

وقفات أساسية

هناك خمس وقفات أساسية مع ذكريات المصريين بشأن قناة السويس. الوقفة الأولى، هى المتعلقة بما درسه كل طالب مصرى فى سنواته الدراسية المختلفة بشأن القناة التى استغرق بناؤها عشر سنوات من عام 1859 إلى 1869، وأسهم فى حفرها نحو مليون عامل مصري، مات منهم أكثر من 120 ألفا فى أثناء الحفر، نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة. ويرتبط بهذه الوقفة أيضا الحفل الافتتاحى للقناة فى 17 نوفمبر 1869، الذى تكلف ميزانية ضخمة تجاوزت المليون ونصف المليون جنيه استرلينى حينئذ، فى حفل أسطورى حضره ستة آلاف مدعو فى مقدمتهم الإمبراطورة أوجينى زوجة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث، وإمبراطور النمسا، وملك المجر، وولى عهد بروسيا.. وغيرهم.

وكانت الوقفة الثانية، مع قرار الرئيس جمال عبدالناصر فى 26 يوليو عام 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، وكيف جرى التفكير فى القرار وصناعته واتخاذه، وكيف تمكن المصريون من إدارة القناة على نحو طبيعي، مع غياب الخبراء والموظفين الأجانب. هذه الوقفة أظهرت إدراك المصريين القيمة الاستراتيجية للقناة وارتباط تأميمها بثورة 23 يوليو والاستقلال الوطني، وما تبع ذلك من عدوان ثلاثى على مصر.

الوقفة الثالثة، تتعلق بالفترة بين نكسة 1967 وحرب 1973، وهى الفترة التى توقفت فيها القناة، ثم أُعيد افتتاحها بعد عامين على نصر أكتوبر، على يدى الرئيس الراحل أنور السادات، الذى أكد فى كلمته بافتتاح القناة فى 5 يونيو 1975 أهمية الرسالة العالمية لشريان قناة السويس «فى الربط بين أطراف العالم كله وتعميق التبادل والتفاعل بين الأمم والشعوب»، وكـ«همزة للوصل بين القارات والحضارات».

هذه الفترة سلطت الضوء على أهمية القناة كشريان دولى للتجارة والسلام وكممر استراتيجى للتنمية، وأظهرت أيضا حجم الخسائر التى لحقت بمصر وبالتجارة الدولية من جراء وقف تدفق القناة ثمانى سنوات.

وجاءت الوقفة الرابعة، مع «قناة السويس الجديدة» التى كانت المشروع الأول للرئيس عبدالفتاح السيسى بعد توليه الحكم مباشرة، والتى بلغ خلالها إجمال تبرعات المصريين 64 مليار جنيه. وقد شارك فى حفر القناة الجديدة 44 ألف مصري، و4500 معدة، و84 شركة، وانتهى الحفر الجاف خلال 9 أشهر، عن طريق استخراج حوالى 250 مليون متر مكعب من الرمال. وقد افتتح الرئيس السيسى قناة السويس الجديدة فى أغسطس 2015، بعد 12 شهراً فقط من بدء الحفر. وكان لافتا فى كلمة الرئيس فى افتتاحها، بحضور قيادات أجنبية وعربية، قوله، إن «القناة الجديدة خطوة واحدة من ألف خطوة إحنا مطالبين يا مصريين أن نمشيها»، مؤكداً «أن مصر ليست بلد المشروع الواحد».

وأخيراً، كانت الوقفة الخامسة للمصريين مع قناة السويس، هى التى وقعت مع أزمة جنوح السفينة «إيفر جيفين» فى 23 مارس 2021، والتى أبرزت المكانة العالمية لقناة السويس. هذه الأزمة الأخيرة كانت مختلفة عن الوقفة السابقة الخاصة بقناة السويس الجديدة؛ فإذا كانت الوقفة السابقة قد أظهرت المشروع الاستراتيجى للدولة المصرية لقناة السويس، ورؤيتها المسبقة لتطويرها وتعظيم الاستفادة منها، فإن الأزمة الأخيرة لم تخص مشروعاً للتطوير الوطني، وإنما أبرزت أهمية القناة كشريان ملاحة بالغ الأهمية لحركة التجارة العالمية وهمزة وصل بين الشرق والغرب. وبينما عكست «الوقفة السابقة» إرادة المصريين وفكرهم الخاص بتطوير مرفق استراتيجى يخص بلادهم، فإن الوقفة الثانية أبرزت رؤية العالم إلى القناة وإلى موقع مصر الاستراتيجي.

دروس الأزمة

أبرزت أزمة السفينة الأخيرة مجموعة من الدروس: أولها، يتعلق بإعادة المصريين اكتشاف أهمية الموقع الاستراتيجى لبلادهم ومكانتها العالمية؛ فالدرس الأول المضمن فى المناهج الدراسية حول الجغرافيا المصرية ، هو الموقع الاستراتيجى لمصر، كونها تمثل مفترق طرق بين قارات العالم.

وهناك دول كثيرة تتضمن مناهجها الدراسية التأكيد على أنها أيضا تشكل همزة وصل بين القارات، هنا تختلط الحقائق بقدرٍ من الفخر الوطني. وبالنسبة لمصر، فقد أظهرت أزمة السفينة هذا الدرس متجسدا بشأن أهمية موقع مصر الاستراتيجي، وأصبح ذلك ماثلاً فى أذهان الأطفال والشباب، وأمام الأجيال الأكبر، التى تراجعت ذكرياتها بشأن القناة، التى يعبر من خلالها (وفق رئيس الهيئة الفريق أسامة ربيع) 8.3% من إجمالى حركة التجارة العالمية، وما يقرُب من 25% من إجمالى حركة البضائع المُحواة عالمياً، و100% من إجمالى تجارة الحاويات المنقولة بحرا بين آسيا وأوروبــا. كما تستطيع القناة استيعاب 100% من الأسطول العالمى لسفن الحاويات، و92.8% من أسطول سفن الصب الجاف، ونحو 61٫9% من ناقلات البترول ومنتجاته و100% من باقى أنواع الأسطول الأخرى (بحمولة كاملة) و100% من كل سفن الأسطول العالمى فارغ أو بحمولة جزئية.

ثانيها، ينصرف إلى اكتشاف أهمية إنشاء قناة السويس الجديدة؛ فقد كشفت الأزمة أن مشروع القناة الجديدة، الذى تم تدشينه فى أغسطس 2014 انطلق من تفكير استراتجى عميق، ولم يكن فقط مشروعاً لرفع الروح المعنوية للمصريين، على نحو ما انتزعت منصات الدعاية المعادية تصريح الرئيس فى يوليو 2017، حين قال إن «من ضمن أهداف مشروع قناة السويس الجديدة ، هو بناء ممانعة معنوية للشعب المصرى بعد فترة صعبة استمرت 4 سنوات».

ورغم أن رفع الروح المعنوية أحد أهداف الفكر السياسى للدولة والرئيس بعد عقود من الخمول الوطني، إلا أن مشروع القناة الجديدة كان هدفاً وطنياً مستقلاً عن حسابات التخطيط ودراسات الجدوى الخاصة بالمشروع، حيث تضمنت أهداف المشروع (وفق الموقع الإلكترونى لقناة السويس): زيادة الدخل القومى من العملة الصعبة، وزيادة النسبة الازدواجية فى قناة السويس بمقدار 50% من طول المجرى الملاحي، وتقليل زمن العبور ليكون 11 ساعة بدلاً من 18 ساعة لقافلة الشمال، وتقليل زمن الانتظار للسفن ليكون 3 ساعات بدلاً من (8 إلى 11 ساعة)، والإسهام فى زيادة الطلب على استخدام القناة، وزيادة القدرة الاستيعابية لمرور السفن فى القناة لمجابهة النمو المتوقع لحجم التجارة العالمية، وخطوة على الطريق لإنجاح مشروع محور التنمية بمنطقة قناة السويس وتحويل مصر إلى مركز تجارى ولوجيستى عالمي.

لقد أكدت الأرقام صحة التوجه الاستراتيجى للدولة ، بشأن مشروع قناة السويس الجديدة؛ ووفق الموقع الإلكترونى للقناة، ورئيس الهيئة، رصدت التقارير الخاصة بالقناة زيادة عدد السفن والحمولات خلال أعوام 2017 و2018 و2019 (على نحو ما تكشف النشرة السنوية لإحصائيات حركة الملاحة فى قناة السويس 2019).

ولقد شهد العام المالى 2019/2020 زيادة فى أعداد السفن العابرة للقناة بنسبة قدرها 4٫5%، حيث عبرت خلال تلك الفترة 19311 سفينة مقابل 18482 سفينة خلال ذات الفترة من العام 2019، فيما بلغ إجمالى الحمولات الصافية العابرة للقناة خلال العام المالى 2019/2020 ما يقرب من 1٫21 مليار طن، مقابل 1٫17 مليار طن خلال العام المالى السابق عليه. وقد سجلت عائدات الهيئة خلال العام المالى 2019/ 2020، مبلغ  5٫72 مليار دولار، مقابل  5٫75 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام المالى السابق عليه، وكان هذا الانخفاض الطفيف بسبب تراجع حركة التجارة العالمية لعام 2020، فضلاً عن تأثير تداعيات أزمة فيروس كورونا على سوق النقل البحري.

ثالثها، يرتبط بضرورة الاستعداد لإنشاء ممرات تجارية منافسة للقناة من جانب دول أخرى، على نحو ما يبرز فى الأفكار الصينية بشأن طريق الحرير الجديد، أو طريق الشمال الروسي، أو حتى بشأن مقترح الممر الإيراني، أو استئناف حركة طريق رأس الرجاء الصالح.

ورغم تشكيك كثير من الخبراء فى جدارة الأفكار بشأن الممرات البديلة لقناة السويس ومحدودية القدرة التنافسية لتلك البدائل إن نشأت، فضلاً عن صعوبات وتكاليف تنفيذها، إلا أنه ينبغى التعامل مع مثل هذه المشروعات بأقصى قدر من الجدية، وذلك هو أقصر الطرق لاستمرار التنافسية العالية لقناة السويس، وهو أمر يدركه الرئيس وضمن تفكيره، على نحو ما برز فى إجابته على السؤال بشـأن ذلك خلال المؤتمر الصحفى بقناة السويس، والذى تعامل فيه مع إنشاء ممرات بديلة على أنه أمر غير مستبعد، داعياً إلى زيادة القدرة التنافسية لقناة السويس.

وهنا ينبغى استثمار رصيد الخبرة المصرية الطويل الذى يمتد لما يزيد على 150 سنة فى إدارة قناة السويس وزيادة تنافسيتها العالمية، وتعميق النظرة إليها كجسر للتنمية ومركز للخدمات اللوجستية يربط المنطقة ويشكل مفصلاً للاقتصاد العالمى وليس فقط التجارة، ومعبراً بين الثقافات والحضارات، من خلال مزيج من صناعة الجذب التى لا تكتفى بمكانة مصر الجغرافية كملتقى بين قارات العالم، وإنما كملتقى اقتصادى وحضارى وثقافي.

وفى الحقيقة، فإن عائدات مصر المادية من القناة لا تناسب ما لهذا الشريان الملاحى العالمى من أهمية أكدتها الأزمة الأخيرة. ولا يعنى ذلك رفع رسوم المرور عبر القناة، وإنما تعزيز القيمة والأصل القيمى العالمى لقناة السويس، وهذا أمر يحتاج إلى قدر كبير من الخيال والإبداع المصري. وذلك ليس بعيدا عن فكر الدولة أو هيئة القناة، وهو الذى برز من توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى وتصريحات رئيس الهيئة، والتى أكدت توافر الإمكانات والأفكار لكل ما يعظم مكانة هذا الشريان العالمي، بما فى ذلك توسيع وتعميق القناة.

رابعها، يتمثل فى أهمية الإدارة العلمية للأزمات، فمنذ اليوم الأول لأزمة السفينة الجائحة، كانت تصريحات المسئولين فى هيئة قناة السويس على أقصى قدر من التركيز والانضباط؛ فلم تنشغل الهيئة بالرد على الأخبار أو التقارير الإعلامية، وإنما بالتركيز على العمل الداخلى الدؤوب مدفوعة بالإحساس الوطنى والمسئولية. ولم تعلن الهيئة أى نتائج استباقية قاطعة بخصوص أسباب الحادث ودور العامل البشري، وإنما ركزت على السيناريوهات الثلاثة التى قدمتها لتعويم السفينة ارتكاناً إلى رصيد الخبرات الوطنية واعتماداً على الذات. ولم يجر استبعاد أى سيناريو حتى وقت انتهاء الأزمة، ولقد مكن رصيد الخبرات مسئولى الهيئة من تحقيق الهدف وتعويم السفينة فى الوقت الذى حددته تقديراتهم المسبقة، خلال ستة أيام.

ويبرز التعامل المسئول أيضاً مع الأزمة فى الحوافز التى قدمتها الهيئة للسفن المتأخرة، وقبل ذلك انشغلت بتلبية احتياجات السفن المتوقفة. وبدأت المرحلة الثالثة من إدارة الأزمة بعيد تعويم السفينة، بانتظام حركة الملاحة بالقناة فى التوقيت نفسه الذى جرى فيه سحبها إلى منطقة البحيرات، مما مكّن من التجاوز الكلى للأزمة مع عبور آخر سفينة فى اليوم الذى حدده رئيس الهيئة مسبقاً (السبت 3 أبريل). ويعنى كل ذلك أن ما تم هو إدارة شديدة الدقة لعامل الوقت بالشكل الذى ضمن تلافى المزيد من الأضرار. وكانت الأزمة فرصة للهيئة لكى تعيد تقديم ذاتها للرأى العام المصرى والعالمى لتبرز تطور كفاءاتها من العنصر البشري، على نحو ما برز خلال زيارة الرئيس للهيئة وما تضمنته من استعراض لمركز التدريب والخبرات والكوادر.

وفى الأخير، سلطت الأزمة الضوء على الجانب المنسى فى الحياة المصرية، والخاص بأهمية توظيف الأصول والأرصدة الوطنية الكبرى، وإبرازها عبر القوة الناعمة لمصر، وهو أمر يمكن أن يختصر الكثير من أنماط المواجهات التقليدية مع قوى التطرف والإرهاب أو قوى الشر (بتعبير الرئيس)، وذلك من شأنه أن يؤهل مؤسسات مصرية كثيرة لدخول موسوعة جينيس ونيل جائزة نوبل، على نحو ما جرى خلال أزمة السفينة، وما رافقها من استعادة الروح الوطنية والأغانى الخاصة بالقناة، وهو أيضاً ما سلط الأضواء عليه الاحتفال الوطنى بمتحف الحضارة وموكب المومياوات الملكية منذ أيام.

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 5 أبريل 2021.

رابط دائم: