مسار برشلونة ومستقبل الشراكة بين ضفتى المتوسط
2021-2-21

د. عمرو الشوبكي
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

نجحت تجربة الاتحاد الأوروبي منذ انطلاقها في عام 1957، في أن تطور بنائها وتوسع عضويتها، وكذلك تفاعلاتها الخارجية لتتجاوز حدود القارة الأوروبية، لتصل إلى جنوب المتوسط وتحديداً إلى الإثنى عشر دولة المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط ومنها مصر. وقد بدء تفاعل المجموعة الأوروبية مع دول المتوسط منذ الستينيات حين وقّعت عدداً كبيراً من الاتفاقات ذات الطابع التجاري والاقتصادي مع دول المغرب العربي ومصر إضافة إلى لبنان وسوريا. وقد استمر هذا الوضع التعاوني طوال السبعينيات والثمانينيات حتى انتقل من صيغة التعاون  "Cooperation" إلى صيغة الشراكة "Partenariat" في منتصف التسعينيات وتحديداًفي نوفمبر 1995 مع انعقاد مؤتمر برشلونة الذي ضم وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي مع نظرائهم من 12 دولة متوسطية.

وقد خرج عن المؤتمر ما عرف باسم إعلان برشلونة، والذي مثّل بداية التحول الحقيقي في العلاقات الأورومتوسطية، وميلاد تصور جديد للتفاعل بين الجانبين تضمن ثلاث محاور رئيسية: المحور الأول، سمى بالشراكة السياسية والأمنية، والتي تهدف لتأسيس "منطقة متوسطية للسلام والاستقرار قائمة على احترام حقوق الإنسان والديمقراطية". والمحور الثاني، أطلق عليه الشراكة الاقتصادية والمالية ويهدف إلى إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، ويسعى إلى دعم القطاع الخاص في الدول المتوسطية وزيادة حجم الاستثمارات المالية والاقتصادية داخلها. والمحور الثالث، سمى بالشراكة الاجتماعية والثقافية والإنسانية، ويهدف إلى إحداث نوع من التقارب "بين مواطني حوض البحر الأبيض المتوسط"، بجانب تعميق التفاعل بين مؤسسات المجتمع المدني في الجانبين. وقد شدد هذا المحور على ضرورة تدعيم التعاون بين الجانبين في مجالات العدل والقانون والشئون الداخلية.

وقد وضع إعلان برشلونة عام 2010، كنهاية للمرحلة الانتقالية لاكتمال إنشاء منطقة التبادل التجاري الحر بين الجانبين، والتي اعتبرها أحد المشاريع الرئيسية التي على الطرفين ضرورة إتمامها. ومع ذلك لم تتم رغم بعض المميزات التي حصلت عليها المغرب في مجال التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي. وقد وضعت دول الاتحاد برنامجاً لمساعدة الدول المتوسطية أسمته MEDA واستهدف تهيئة دول المتوسط لظهور سوق حرة للتبادل التجاري مع دول الاتحاد.

وقد تضمن هذا البرنامج شقين أساسيين: الأول، برنامج للمساعدات الثنائية بين أوروبا و9 دول متوسطية فقط. 90% من إجمالي البرنامج استثنيت منها إسرائيل ومالطا وقبرص التي اعتبرت أن أوضاعها الاقتصادية لا تحتاج لمثل هذه النوعية من المساعدات. وقد أخذت المساعدات المباشرة لميزانية الدول المتوسطية التسع 20% من قيمة البرنامج، كما حصلت مجالات التعاون الاقتصادي ودعم القطاع الخاص في الدول المتوسطية على 30%، أما المجالات الاجتماعية، وتضمنت الصحة والتعليم والمساعدات الاجتماعية، فأخذت 29% من إجمالي البرنامج، وجاءت مجالات حماية البيئة لتحصل على 7% من هذه المساعدات، وأخيراً حصل مجال تنمية الريف على 4%.

أما الشق الثاني، ويمثل 10% من قيمة البرنامج، فيتوجه إلى إقامة مشروعات للتعاون الإقليمي بين الجانبين وتضمن ما سمى SEMINAIRES DES FORMATION EUROMESCO""، أي مؤتمرات لتكوين وإعداد الدبلوماسيين، وشبكة لمعاهد الدراسات السياسية، وتضمن شراكات فكرية وثقافية وعلمية ودعم المجتمع المدني. كما شمل هذا الشق من البرنامج 6 عناوين رئيسية تتعلق بالتعاون الصناعي، والبيئة، والمياه، والطاقة، والنقل والمواصلات، والمعلوماتية. وأخيراً جاء في هذا الشق ثلاث عناوين أخرى تتعلق بالتعاون الثقافي والمرئي، وما هو متعلق بالشباب. كما طالب إعلان برشلونة أيضاً بضرورة تقوية الروابط بين المجتمع المدني في كلتا الضفتين وقدمت أوروبا مساعدات إلى مؤسسات المجتمع في جنوب المتوسط. وقدأطلق برنامج MEDA عدة مشاريع من أجل دعم المجتمع المدني في دول جنوب المتوسط على رأسها مشروع MEDA DEMOCRATIE، كما قدم دعماً للنقابات والجامعات وشباب رجال الأعمال. 

القطار الأوروبي

بدأت إرهاصات الاتحاد الأوروبي من خلال توقيع ثلاث دول أوروبية على اتفاقية الفحم والقصدير في 18 أبريل 1951 في العاصمة الفرنسية باريس، بهدف تسهيل الاستثمار في هذا المجال، وأيضاً تعزيز حرية حركة رأس المال والعمالة التي تعمل في مجالى الفحم والقصدير، لكى تعتاد الدول الأوروبية الثلاثة على فكرة الاستثمار المتبادل، وعلى الحركة الحرة لرأس المال. ولم تطرق مطلقاً حينذاك لأي اتفاقات اقتصادية مشتركة أو حتى لسوق واحدة تجمع الدول الأوروبية. ثم انتقلت في اجتماع روما 1957 إلي إنشاء سوق تجارية ضمت 6 بلدان أوروبية فقط،ثم انتقلت بعد ذلك إلي تجربة المجموعة الأوروبية وانتهت بالاتحاد الأوروبي الذي يضم حالياً 27 دولة. ولعل أهمية التجربة الأوروبية تكمن في أنها أسست هذه الوحدة عبر صناعة الوعي بأهميتها بالنسبة للمواطنين الأوروبيين أو كما ذكر جان مونيه JEAN  MONNETأحد أبرز من تبنوا مشروع الوحدة الأوروبية،في 1950 مع البدايات المبكرة للحديث عن اتحاد أوروبا فقال: "أوروبا لم توجد أبداً، فليس انضمام دول كاملة السيادة للاجتماع في داخل هيئة هو الذي يصنع هويتها، يجب خلق أوروبا".

ولعل هذا ما جعل مشروع الوحدة الأوروبية منذ انطلاقه في عام 1957 محاولة دائمة لصياغة واقع أوروبي جديد ينحو بشكل متدرج نحو الوحدة، ويعمل على بناء معايير أوروبية شبه موحدة تحاول كل دولة أووربية أن تكيف نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة عليها، حتى يمكنها أن تصبح جزءاً من تجربة الوحدة الأوروبية. وقد تميزت هذه المعايير بأنها تدخل مباشرة في نسيج المجتمع، وتعمل على ضبط أداء مؤسساته وفق معايير بيروقراطية كثيراً ما عطلت أداءه وسرعة تحركه، ومزجت بين معايير سياسية تخص قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخرى اقتصادية لا تتعلق فقط بمستوى معين من النمو الاقتصادي، إنما أيضاً بالالتزام بقوانين أخرى تخص الإعفاءات الجمركية وحرية التجارة، وصيد الأسماك، وأيضاً قوانين تنظم حرية المعلومات والإعلام والأنشطة الثقافية والتعليم.

كما يلاحظ أن مشروع الاتحاد الأوروبي لم يدخل في خصومة صفرية مع الولايات المتحدة، وظلت أوروبا هي الحليف الاستراتيجي الأقرب للولايات المتحدة حتى لوشاب علاقاتهما بعض التوتر بالذات أثناء إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وهنا سنجد أن أحد أبرز التحديات التي تواجه تجربة الاتحاد الأوروبي يتمثل ليس فقط في الخلاف بين أوروبا القديمة والجديدة حول الدور السياسي لأوروبا، إنما أيضاً حول طبيعة علاقاتها بالأقطاب الكبرى في العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، بجانب دول جنوب المتوسط.

وعليه سنجد أن دول الاتحاد الأوروبي السبعة وعشرين منقسمةفيمابينها إزاء الكثير من القضايا وخاصة قضية الهجرة، إذ أن دول أوروبا الشرقية التي أسست علاقاتها بالاتحاد باعتباره منفذاً تجارياً وسوقاً كبيرة ومجالاً حيوياً لتلقي الاستثمارات، تقيس كثيراً من مواقفها تجاه قضايا الهجرة واللاجئين على ضوء مصالحها الاقتصادية الضيقة خاصة أن بعضها واقع تحت تأثير خطاب يميني قومي متشدد وشعبوي يرفض الهجرة ويحمل اللاجئين مسئولية كثير من أزمات أوروبا. والمؤكد أن الاتحاد الأوروبي واجه مشاكل كبيرة في السنوات الأخيرة وخاصة في التعامل مع قضايا الهجرة والشراكة مع دول جنوب المتوسط واتجهت كثير من دول شرق أوروبا نحو اتخاذ سياسات انعزالية تجاه قضية الهجرة واللاجئين وتبني كثير من قادتها خطاباً شعبوياً واضحاً. كما جاءت أزمة كورونا التي اتضح فيها أن كل دولة أعطت الأولوية لمصالحها الوطنية واتخذت سياسات صحية بمعزل عن الدول الأخرى، بما يعني أن صيغة الاتحاد استمرت بتحديات كبيرة دون أن تتكرر في أي بقعة أخري من العالم سواء في العالم العربي أو غيره.

حدود الشراكة المتوسطية ومستقبلها

رغم حرص دول الاتحاد الأوروبي على تقديم دعم اقتصادي لدول جنوب المتوسط، إلا أن ذلك تم في إطار تصور استراتيجي يتجاوز المشكلات الأمنية والسياسية والاجتماعية العارضة، في محاولة لتقديم نموذج تنموي ملهم لنمط من الشراكة بين الشمال والجنوب. لكن هذه الرؤية الشاملة التي حكمت مسار برشلونة تراجعت في الفترة الأخيرة بسبب تصاعد المشاكل الآنية والتي تمثلت في قضيتين رئيسيتين الأولى تتعلق بتصاعد الإرهاب في جنوب وشمال المتوسط والثانية تنصرف إلى زيادة أعداد الهجرة غير النظامية وخاصة السورية، وهو ما جعل قضايا مثل تأمين الحدود ومحاربة الإرهاب والسياسات الأمنية الجديدة تأخذ حيزاً كبيراً في حوارات دول جنوب وشمال المتوسط.

وقد اعتبر البعض أن مشروع الشراكة الأورومتوسطي يمكن أن يكون نواة مشروع سياسي منافس أو بديل للمشروع الأمريكي أو الصيني أو الروسي، ويؤسس لشراكة غير متكررة كثيراً بين دول الشمال والجنوب، وهو ما لم يحدث، وظلت هناك شراكات سياسية واستراتيجية أقوى بين دول عربية وأوروبية مع قوى عظمى أكبر من علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، فظلت بريطانيا طوال عضويتها في الاتحاد الأوروبي أقرب ثقافياً وسياسياً واستراتيجياً للولايات المتحدة من معظم دول الإتحاد. كما احتفظت مصر بعلاقات قوية واستراتيجية بالولايات المتحدة، دون أن تخسر شراكتها الاقتصادية مع أوروبا، وحافظت سوريا على علاقتها القوية بروسيا، وظلت المغرب وتونس هما الأقرب لدول الاتحاد الأوروبي، في حين حافظت الجزائرعلى علاقة قوية مع روسيا والصين دون أن تفقد شراكتها مع فرنسا والاتحاد الأوروبي.

صحيح أن الشراكة الأورومتوسطية لم تصل إلى ما كان يصبو إليه مسار برشلونة سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، إلا أنها نجحت في تقديم نموذج آخر للبلاد العربية حقق نجاحاً في اختيار صيغة مرنة للشراكة بين شمال وجنوب المتوسط. وقد ألهمت صناعة الوحدة الأوروبية الكثيرين في جنوب المتوسط خاصة في ظل تعثر التجارب العربية في الوحدة، فأوروبا لم تتجاهل منذ بداية مشروعها للاتحاد التباينات بل وأحياناً التناقضات الموجودة بين كل دولة أوروبية تحت شعارات "الأخوة الأوروبية" أو "المصير والتاريخ الأووربي المشترك"، إنما اعترفت بها واعتبرت التعامل الواقعي معها هو نقطة الانطلاق لتأسيس مشروع الوحدة الأوروبية، الذي لم يحكمه الشعار الأيديولوجي إنما الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي حكمه إطار وتصور سياسي رحب، وليس نصوص أيديولوجية مغلقة.

ورغم أنه من الصعب القول أن هناك سياسة خارجية أوروبية موحدة، ومع ذلك تبقى الشراكة الأورمتوسطية من أهم الشراكات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة خاصة أنها ركزت على قضايا تنموية واحترمت سيادة كل دولة وخصوصيتها الثقافية بما لايتعارض مع القيم الإنسانية العالمية.

ولاتزال الشراكة بين شمال وجنوب المتوسط التي أسسها مسار برشلونة قادرة على الاستمرار بشرط إيجاد حلول للتحديات الجديدة المتعلقة بالحدود والهجرة غير النظامية وسياسات مكافحة الإرهاب وتضييق الفجوة بين الشمال والجنوب وتأسيس مشاريع تنموية حقيقية في الاقتصاد والزراعة والثقافة والسياسة قائمة على الشراكة بين دول في الشمال وأخرى في الجنوب قد تفتح الباب أمام شراكات مماثلة يحتاجها العالم.

والمؤكد أن مستقبل الشراكة بين شمال وجنوب المتوسط متوقف على إيجاد تفاهمات بين قضايا ثلاثة وهى سياسات مواجهة الإرهاب والهجرة غير النظامية ودعم بناء دولة القانون والانتقال الديمقراطي في جنوب المتوسط. وقد تراجع "الاتهام الجاهز" لدول الجنوب بتصدير الإرهاب خاصة بعد ظهور موجات من العنف قام بها أفراد ولدوا في أوروبا وكثير منهم حملوا جنسياتها، وأصبحت هناك حاجة للتوافق على سياسات أكثر فاعلية في مواجهة الإرهاب بعيداً عن التوظيف السياسي للظاهرة وخاصة من قبل التيارات الشعبوية واليمين المتطرف، كما أنه من المهم بذل مزيد من الجهد لتبني سياسة متوافق عليها بين ضفتى المتوسط تجاه قضية الهجرة واللاجئين، رغم أن المشكلة تعود إلي أن دول الاتحاد الأوروبي نفسها لم تتفق على سياسة موحدة تجاه قضية الهجرة غير النظامية وهو ما يعطل أى توافق بين شمال وجنوب المتوسط.

أما المحور المتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد ظل محل جدل ونقاش بين دول  شمال وجنوب المتوسط، ولكن فرص التفاهم على هذا الملف ستظل مرهونة بعدم إقدام الاتحاد الأوروبي على ربط الشراكة الاقتصادية بالمسار السياسي، ونقل النقاش من كونه قضية حقوقية (تعبر عنها المنظمات الحقوقية) وتثيرها بعض دول شمال المتوسط إلى قضية "تنمية سياسية"، بمعنى مساعدة هذه الدول على خلق بيئة مجتمعية ومؤسسية قادرة على بناء الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المدى الطويل.


رابط دائم: