كتاب "ديمقراطية القرن الحادي والعشرين"
2021-1-21

أمل مختار
* خبيرة في شئون التطرف والعنف - رئيس تحرير مجلة المشهد العالمي للتطرف والإرهاب - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

في المشهد السياسي تختلف قوة العوامل المؤثرة في استقرار واستمرار وحيوية النظام السياسي. فهناك عوامل قد تمثل تهديداً كبيراً، لكنها تظل كامنة أو ليست شديدة الوضوح. ودائماً ما تكون هناك أصوات إنذار مبكر لتلك التهديدات والأزمات، لكن قليلون هم من يستمعون إلى تلك الأصوات، حتى في الدول ذات الديمقراطيات الراسخة.

ومن دون شك، فإن المجتمعات لا تتمرد فجأة، بل ينمو التمرد تدريجياً عندما تتزايد مشاعر الغضب من فقدان الثقة بين المجتمع والسلطة أو فقدان القدرة على تأثير الناخبين في مستقبلهم وفي قرارات من انتخبوهم. وتزيد مشاعر الغضب تدريجياً عندما يفقد النظام أو المؤسسات أو الأحزاب السياسية حيويتها وديناميتها وقدرتها على تصحيح أخطاءها. ففي فرنسا، على سبيل المثال، كانت انتفاضات 1968 إنذاراً مبكراً لنمو حركة تمرد ضد الأبوية البيروقراطية التي آلت إليها الديمقراطية التمثيلية، ليس فقط في فرنسا ولكن ربما في دول غربية أخرى. خلال تلك الانتفاضات ظهرت كتابات لمفكرين أمثال سارتر ودو بوفوار وريكور وميشيل فوكو وغيرهم، تحذر من أنه يجب الالتفات إلى أن هناك غضباً بدأ ينمو وإدراكاً بدأ يتشكل حول تركيب السلطة في النظام الديمقراطي التمثيلي.

لكن هذه الأفكار وغيرها بل وصور التمرد والغضب وأجراس الإنذار المبكر لم تجد صدى حقيقياً لدى الأحزاب والمؤسسات التقليدية في الديمقراطيات الغربية. وفي القرن الحادي والعشرين، بدأت تلوح في أفق الدول الديمقراطية ظواهر تعد بمثابة أجراس إنذار جديدة، مثل صعود الأحزاب والتيارات الشعبوية، وموجة التظاهرات التي بلغت ذروتها في عام 2019. وقد طالبت معظم هذه الاحتجاجات بانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهو الأمر الذي يعد بمثابة احتجاجاً على نتائج الديمقراطية التمثيلية ورغبة في عدم انتظار موعد الانتخابات القادمة. وأيضاً توجه الناخبين في بعض الدول الغربية لانتخاب قادة من خارج الأحزاب التقليدية، ومنها على سبيل المثال، انتخاب الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب في الولايات المتحدة في نهاية 2016، وجايير بولسونارو في البرازيل في نهاية 2018.

في هذا السياق، يأتي كتاب "ديمقراطية القرن الحادي والعشرين" للمفكر العربي الكبير دكتور وحيد عبد المجيد مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والصادر في ديسمبر 2020، في إطار الكتب التي تناقش أزمة الديمقراطية التمثيلية، وتفند أسباب الجمود الذي طالها، وتدق جرس إنذار آخر إلى جانب الكتابات الغربية القديمة والجديدة حول هذه القضية. كما أن الكتاب الذي نحن بصدد عرضه يقدم في نهاية نقاشه الفكري الثري عرضاً لعلاج العطب الذي أصاب أداة "التمثيل" التي تعتبر جوهر النظام الديمقراطي الحالي.

الفرضية الأساسية للكتاب تقوم على أن التمثيل السياسي قد أدى الغرض منه منذ فترة طويلة، وأنه بتغير العالم يبدو أن النمط الديمقراطي التمثيلي لم يعد مرضياً لقطاعات متزايدة من الناخبين، ومن ثم أصبح التطوير أمراً لا مفر منه لاستمرار الديمقراطية.

رأى المؤلف أن يقوم بفك الاشتباك بين الديمقراطية وعدد من المفاهيم الأخرى قبل انطلاقه في عرض رؤيته في تحليل أزمة الديمقراطية التمثيلية وطرح تصوره عن معالجة تلك الازمة. فقام في الفصل الأول بضبط عدد من المصطلحات، حيث بدأ بمفهوم الديمقراطية، والتي عرّفها بأنها عملية تنظيمية إجرائية تهدف إلى تمكين الناس من اختيار طريق يعتقد أغلبيتهم أنها تؤدى إلى وضع أفضل، مع الأخذ في الاعتبار القدرة على تغيير هذا الطريق – من قبل الأغلبية أيضاً – عندما يتبين أنها لم تحقق أهدافها. هذه العملية الإجرائية تحدث عندما يوجد نظام سياسي يوفر فرصاً متساوية للجميع للتنافس، تحت مفهوم أن أحداً لا يملك أفضلية مطلقة ثابتة.

أما مفهوم الليبرالية، الذي يعد من أكثر المفاهيم خلطاً بالديمقراطية، رغم أن التاريخ يؤكد أن الليبرالية أقدم بكثير من الديمقراطية التمثيلية، فهو منهج في التفكير ينطلق من افتراض قدرة البشر على تحسين شروط حياتهم عندما يمتلكون حريتهم، ويحررون عقولهم من مختلف أنواع المؤثرات الدينية والاجتماعية والسياسية، ويستخدمونها في الإبداع والابتكار والاختراع، ويتوفر لهم مجال عام يتفاعلون فيه ويتحاورون ويطلقون طاقاتهم. هذه القيم والتي تشكل ما يعرف بالثقافة الليبرالية، يمكن أن تكون مناخاً مناسباً لنجاح عملية الديمقراطية التنظيمية، لكنها ليست شرطاً لوجودها، أو مانعاً لممارسة الديمقراطية في حالة غيابها. فالواقع يشير إلى وجود أنظمة ديمقراطية في مجتمعات غير ليبرالية مثل اليابان وبعض دول شرق آسيا، حيث أن تلك الديمقراطيات قامت لأسباب براجماتية مثل التوافق بين النخب المنقسمة أو التوافق إثنياً بين المجتمعات، كما كان الحال في أوروبا.

وفي معرض مناقشة التوسع في أزمة الديمقراطية التمثيلية، انتبه المؤلف، في الفصل الثالث، إلى أهمية معالجة الخلط بين مفهومى الشعبوية والقومية المتشددة (العنصرية). ولخص الفرق في أن الأخيرة موقف كلي موجه ضد من ينحدرون من عرق أو دين محدد وينطوي على تمييز مستمر وقد يصل الى استخدام العنف ضدهم. أما الشعبوية، فهى حالة وغالباً تدافع عن الهوية الثقافية، وتأتي مسألة العرق في مرتبة تالية فيها. ومن ثم فالقوميون المتشددون يرفضون أي آخر، أما الشعبويون فغالباً يرفضون الآخر الذي يمثل تهديداً لهويتهم.

في فصله الثاني من الكتاب يقدم المؤلف عرضاً تفصيلياً عن أبعاد مسألة التمثيل في النظام الديمقراطي. ويشرح لماذا ولدت الديمقراطية التمثيلية، والتي كانت في صورتها الأولى تقوم على أساس أن يكون نواب البرلمان (المنتخبون) ممثلين للشعب (هيئة الناخبين)، ويكون الشعب – دافع الضرائب – له الحق في محاسبة السلطة التنفيذية التي تجمع أموال الضرائب.

وقد تطورت الديمقراطية التمثيلية عبر صراعات اجتماعية كبيرة في أوروبا بهدف السعى لـ"دمقرطة" الأنظمة الأوروبية المستبدة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهو ما يمكن تلخيصه في مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر "أنا الدولة .... والدولة أنا". ذلك الصراع كان يدور وسط زخم فكري كبير في مقدمته كتابات هوبز ولوك ودو مونتسكيو.

اليوم ونحن في مستهل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ولأسباب عديدة يصبح التساؤل حول مكمن الخلل في أداة "التمثيل"؟.

يمكن تلخيص ذلك الخلل في: وجود أقلية تستحوذ على عملية صنع القرار (النخبة الحاكمة) فيما تضعف قدرة من صنعوا هذه الأقلية (جمهور الناخبين) في التأثير عليها رغم أنهم، أي جمهور الناخبين، هم من صنعوها، وهو ما يجعل الديمقراطية التمثيلية أقرب الى "الأوليجاركية".

ومن هنا، يكمن الخلل في اختزال الديمقراطية في عملية "الاقتراع"، الذي ينتج قادة يتمتعون بسلطة كبيرة ربما أكبر من زعماء ارستقراطيين في مراحل تاريخية سابقة، ذلك لأن الانتخاب قد أعطاهم شرعية الوصول الى الحكم عن طريق تأييد أغلبية الشعب.

ويطرح الفصل تساؤلات وتحليلات عديدة حول الهدف الحقيقي من الديمقراطية: فهل هي حق الشعب في اختيار من يحكمه فقط بدون امتلاكه القدرة على التأثير في السياسة. كما يركز أيضاً على حدوث الانفصال بين النخبة والجمهور أو بين السلطة والمجتمع.

ووسط كل هذا الطرح يذكرنا المؤلف بأن هذه التساؤلات والمخاوف حول أوجه القصور في التمثيل السياسي ليست جديدة وأُفردت لها كتابات عديدة خلال القرن العشرين. بينما الجديد هو انتقال هذا الإدراك من دائرة النخبة المثقفة إلى مستوى قطاعات أخرى من الشعب، تلك القطاعات الغاضبة آخذة في التزايد منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

وعلى هذا الأساس، يناقش الكتاب في فصله الثالث التوسع في أزمة الديمقراطية التمثيلية، ذلك النظام السياسي، الذي ظل على مدار قرن ونصف يحظى برضاء واسع وظل أفضل نظام سياسي يمكن التطلع إليه.

فيقوم المؤلف برسم صورة عن لحظة التحول من الرضاء المعلن إلى التذمر الواضح، وخاصة في ظل التطور التكنولوجي الذي عجّل بمعدلات التذمر، وسهّل عملية التعبير عن ذلك الغضب، وكان حاضراً بقوة في حركات الاحتجاج التي بدأت منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

ويعتبر المؤلف أن الكلمة المفتاحية في تحديد تلك اللحظة هى "الجمود". فعندما أصيبت الأحزاب السياسية ونظم الحكم في الديمقراطيات الغربية بالجمود وأصبحت توصف الأحزاب السياسية فيها بالتقليدية، هنا أصبح التذمر أمراً لا يمكن إخفاءه والإنذار بانتهاء صلاحية الديمقراطية التمثيلية أمراً لا يمكن تجاهله. فالجمود هو الخطر الحقيقي الذي يعني إضعاف ديناميكية النظام – أي نظام -وتقليص فرص تصحيح أخطاءه. ومن ثم تصبح نقطة التحول هي الوقت الذي يحدث فيه التوسع في فجوة الثقة بين قطاعات متزايدة من المجتمع وبين المؤسسات والأحزاب السياسية. ويمكن تلخيص السبب الرئيسي في حدوث فجوة الثقة في عجز الأحزاب السياسية عن تصعيد نخب جديدة، وأصبحت مجرد أداة لإعادة تدوير نفس النخب التي استنفدت كل رصيد الثقة لدى جمهور الناخبين وفقدت مصداقيتها، ومن ثم فقدت حيويتها وقدرتها على الحصول على ثقة الناخبين.

فمع الوقت أصيبت الأحزاب التقليدية بالجمود، ومن ثم انعكس هذا على انخفاض معدلات الالتحاق بالأحزاب في الديمقراطيات الغربية، وهو الأمر الذي أدى إلى مزيد من الجمود.

ثم ينطلق المؤلف الى مساحة أخرى ليناقش في فصله الرابع الإجابة على تساؤل: هل الحركات الشعبوية الجديدة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين تمثل تهديداً للنظام الديمقراطي التمثيلي، أم رصيداً للتطوير في المستقبل؟

ووفقاً لتعريف برتران بادي في كتابه الأخير "عودة الشعبويات"، فإن الشعبوية الجديدة حالة سياسية وليست نظاماً سياسياً أو أيديولوجياً، فهي بالأساس ضد الأدلجة وتقوم على عدم الثقة في النظريات. وهي تولد في الأجواء السياسية غير الصحية وتتغذى على مشاعر التهميش، وفي ظلها يتم استحضار مفاهيم القومية والسيادة وزيادة الفوبيا من الأجانب وتثمين الهوية ورفض العولمة والحذر منها والميل الى الانكفاء النسبي، وهو ما يفسر صعود الحركات الشعبوية وزيادة شعبيتها في فترات تدفق أعداد كبيرة من لاجئي الشرق الأوسط إلى أوروبا في أعقاب تمدد تنظيم "داعش" في 2015.

ولم يفت المؤلف الإشارة باستفاضة إلى طرفي الشعبوية في أوروبا وهما اليمين الشعبوي واليسار الشعبوي، اللذين يتبنى كلاهما مواقف جذرية من بعض القضايا الأوروبية، ولكن كلاهما لا يسعى إلى هدم المؤسسات التقليدية بل إلى إجراء إصلاحات جذرية كما أن كلاهما يختلف عن شعبويات وفاشية القرن العشرين التي كانت رافضة للديمقراطية، وتقدس القائد وتدعو إلى غلق المجال العام وتأميم المجتمع ومنظماته.

ومن هذا المنطلق، اعتبر أن هناك اتجاهاً لاستخدام شعبويات القرن الحادي والعشرين كفزَّاعة من قبل أصحاب المصالح في الحفاظ على أوضاع النظام الديمقراطي التمثيلي كما هو دون إصلاح أو تطوير. ومن ثم أصبح من الشائع استخدام وصف الفاشية في الحديث عن التيارات والأحزاب الشعبوية الجديدة.

وأخيرا يصل المؤلف بعد هذا العرض التفصيلي لأزمة الديمقراطية التمثيلية، إلى مرحلة عرض ومناقشة الأفكار التي طُرحت لمواجهة تلك الأزمة، من خلال تعميق الديمقراطية وإنهاء حالة الجمود التي وصلت إليها، ومنها الديمقراطية التشاركية Participatory Democracy، والديمقراطية الترابطية Associative Democracy، والديمقراطية المتداولة Deliberative Democracy، والديمقراطية التعاونية Collaborative Democracy.

وبصورة عامة يمكن تلخيص الطرح الذي يقدمه المؤلف لمواجهة أزمة الديمقراطية في القرن الحالي فيما أسماه "تطعيم الديمقراطية التمثيلية بأشكال من الديمقراطية المباشرة"، وذلك من خلال آليات مثل:

1-  الاستفتاء العام المتكرر على القرارات والقوانين التي تمس قطاعات واسعة من المواطنين.

2-  سحب الثقة من أي مسئول تنفيذي أو عضو تشريعي من خلال إعادة الاقتراع Recall Vote على أداءه وعدم الانتظار إلى موعد الانتخابات القادم.

3-  فتح مجالات جديدة ومتجددة باستمرار للحوار السياسي والاجتماعي على المستوى الشعبي، وإكمال عملية تحرير المجال العام.

4-  الشفافية الكاملة بشأن الإنفاق العام، ووضع حد للفساد في استخدامه.

هذه آليات يعد الهدف منها ألا يظل المواطنون (جمهور الناخبين) مجرد متفرجين ما بين دورتين انتخابيتين، وغير قادرين على المشاركة في صنع القرار السياسي، وأن تتحول الممارسة الديمقراطية من الطابع الشكلي إلى الانخراط الفعلي للمواطنين في الشأن العام، مع الأخذ في الاعتبار أن استخدام آليات الديمقراطية المباشرة قد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار ولكن المؤلف يرى أنها ستكون فقط في فترة بداية استخدامها، وسرعان ما ستتحول إلى أداة لتحفيز النخب والأحزاب والمؤسسات التقليدية على القيام بدورها بصورة أكثر حيوية واتساقاً مع مطالب المواطنين ومن ثم سيقل مرة أخرى اللجوء إلى استخدام هذه الآليات بين الدورتين الانتخابيتين.

ختاماً، يقدم هذا الكتاب عرضاً مفصلاً لتاريخ الديمقراطية التمثيلية الذي امتد لنحو قرنين، ومناقشة عميقة لزوايا أزمتها، فضلاً عن تشريح مبكر للتيارات الشعبوية الجديدة التي ظهرت داخل الديمقراطيات الغربية الراسخة. وأخيراً يقدم طرحاً لحل تلك الأزمة التي تواجه بالأساس الديمقراطية التمثيلية، ويختم كتابه بكلمات ربما تثير تساؤلات لدى القارئ حول نجاح طرح تطعيم الديمقراطية التمثيلية بأشكال من الديمقراطية المباشرة في الدول الديمقراطية بالفعل، وتساؤلات أخرى عديدة حول حجم الفجوة التي قد تزداد أو تتقلص بين الديمقراطيات الراسخة وبين الدول التي ما زالت تخطو خطوات حذرة ومتعثرة نحو الديمقراطية.


رابط دائم: