أبعاد الجدل حول مشروع قانون "تعزيز مبادئ الجمهورية" في فرنسا
2020-12-27

أمل مختار
* خبيرة في شئون التطرف والعنف - رئيس تحرير مجلة المشهد العالمي للتطرف والإرهاب - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في2 أكتوبر الماضي (2020)، مشروع قانون تحت عنوان "مكافحة النزعات الانفصالية"، وتحديداً ما أطلقت عليه الحكومة الفرنسية "الانفصالية الإسلامية". ووفقاً لتصريحات ماكرون ووزير الداخلية جيرار دارمانان، فإن الغاية من التشريع الجديد هى "حماية قيم الجمهورية" و"محاربة الذين يريدون الانفصال عن قيم البلاد وفرض قيمهم". وقد عُرِض هذا المشروع، في 9 ديسمبر الجاري (2020)، على مجلس الوزراء، الذي أقره بالإجماع، ويتوقع أن يُعرَض أمام البرلمان الفرنسي للتصويت والصدور في فبراير 2021.

وقد أكد الرئيس ماكرون عدة مرات على أن حربه ليست ضد "الإسلام" كدين ولكن ضد "الانعزالية الاسلامية"، التي تعني تأسيس مجتمعات موازية داخل فرنسا لا تتقبل قيم الجمهورية والعلمانية الفرنسية التي تم التوافق عليها منذ عام 1905.

مراحل متعددة

في واقع الأمر، لا تعبر الحرب الفرنسية ضد التطرف العنيف عن اتجاه جديد، فقد مرت بعدة مراحل، ومنذ عام 2012 تتعامل فرنسا مع ذلك التهديد الأمني باعتباره "أزمة ناشئة من الداخل"، وخاصة بعد أن انتقل نحو ألفى مواطن فرنسي- حسب بعض التقديرات- إلى سوريا وانضموا الى التنظيمات الإرهابية هناك وشاركوا في الحرب الدائرة منذ عام 2011. وقد أظهرت الأرقام أن أغلب منفذي الهجمات الإرهابية في فرنسا وبقية الدول الأوروبية كانوا مواطنين أوروبيين من أصول مهاجرة وهم في أغلبهم ولدوا وتعلموا داخل الدول الأوروبية.

وقد تطورت استراتيجيات المواجهة تدريجياً حتى ظهر تحول ملموس بعد هجوم تنظيم "داعش" في مدينة نيس في 14 يوليو 2016 والذي نتج عنه مقتل 84 شخصاً، حيث تحدث الرئيس ماكرون، للمرة الأولى، عن "الإسلام الفرنسي"، الذي قصد به تشكيل نموذج إسلامي يتماشى مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، وهو ما توازى مع الدعوة إلى استبدال الأئمة القادمين من الخارج، وخاصة من تركيا، بأئمة فرنسيين حاصلين على شهاداتهم من جامعات فرنسية.

ثم جاءت حادثة قتل مدرس التاريخ على يد طالب مسلم، في 16 أكتوبر الماضي (2020) بسبب عرضه للرسومات المسيئة للرسول، في درس تحت عنوان "حرية التعبير"، لتكون بداية الانطلاق لتنفيذ هذا التوجه بقوة أكبر مما كان مقدراً له. وحملت المرحلة الجديدة من الحرب الفرنسية على ما أسمته "الإرهاب الاسلامي"، والتي أعلنت تحت مظلة "حماية قيم الجمهورية"، في طياتها مفردات مثل "الحرب على الانفصالية" و"المجتمعات الموازية"، مع شن حملات منظمة لحل وحظر عدد من المنظمات والجمعيات الإسلامية في فرنسا، فضلاً عن غلق بعض المساجد ومنع عمل عدد من الأئمة الأتراك.

ففي هذا السياق، قامت السلطات الفرنسية بحل جمعية "الشيخ ياسين" في 21 أكتوبر الماضي (2020)، و"بركة سيتي"، في 28 من الشهر نفسه، و"التجمع ضد الإسلاموفوبيا"، في ديسمبر الجاري (2020). ولا ينفصل ذلك عن قرار مجلس الوزراء الفرنسي، في 4 نوفمبر الفائت (2020)، بحظر منظمة "الذئاب الرمادية"، وهى جمعية قومية متطرفة، نشأت منذ الستينيات وتقوم على أساس فكرة مزعومة حول "تميز" العرق التركي، وتدعو لتوحيده واستعادة أمجاد "العثمانية". وتنشط الحركة، التي تضم قوميين أتراكاً، بين الجاليات التركية في العديد من الدول الأوروبية. ووفقاً لتقارير أمنية فرنسية، فإن المنظمة تمثل أداة يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استغلالها لاستنهاض الشعور القومي للأتراك في الخارج ومن ثم تكوين مجتمعات انفصالية داخل الدول الأوروبية.

وبالتوازي مع ذلك، كتب وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان تغريدة على موقع "تويتر"، في 2 ديسمبر الجاري (2020)، قال فيها: "بناءاً على تعليماتي، ستطلق أجهزة الدولة إجراءات ضخمة وغير مسبوقة ضد الانفصالية الإسلامية"، مشيراً إلى أنه "سيتم تفتيش 76 مسجداً يشتبه في كونها تبث خطابات متطرفة خلال الأيام المقبلة، وسيتم إغلاق هذه المساجد".

قراءة أوَّلية

 في عام 1905 صدر قانون اللائكية (العلمانية الفرنسية)، بهدف فصل الدين عن الدولة، لكن في دستور عام 1958 تم منح حق المعتقد وحرية ممارسة الشعائر للمواطنين الفرنسيين. وبعد 60 عاماً، بدأ الحديث يتصاعد حول ممارسة الدين الإسلامي، وأصبح الرئيس ماكرون، على مدار ثلاث سنوات، مهتماً بتقديم مشروع قانون عنوانه الكبير هو حماية العلمانية الفرنسية والدفاع عن قيم الجمهورية، لكن مضمونه بالأساس معني بمواجهة عنف جماعات الإسلام السياسي، والتي أطلق عليها ماكرون من قبل "الهيدرا الإسلامية" في إشارة إلى الحية هيدرا متعددة الرؤوس كما في الأساطير اليونانية، وذلك من خلال التعامل مع الانعزالية الفكرية التي تعيشها بعض المجتمعات المسلمة في فرنسا، ومن ثم عُدِّل عنوان المشروع عدة مرات، والتي كان منها "قانون ضد الانفصالية الاسلامية" ثم "قانون ضد الانفصالية" ليستقر أخيراً على "قانون تعزيز مبادئ الجمهورية".

ويضم مشروع القانون خمسين بنداً تقريباً، وتزامن طرحه على مجلس الوزراء مع الذكرى الـ115 لقانون عام 1905. وفي قراءة أوَّلية لمشروع القانون قبل مناقشته المفصلة في البرلمان الفرنسي في فبراير القادم، يمكن إلقاء الضوء على حزمة من التوجهات الرئيسية في خطة ماكرون الجديدة والتي يسعى لتقنينها قبيل انتهاء ولايته الأولى:

1-  تعقب مسببات الإرهاب: منذ عدة سنوات تقوم الأجهزة الفرنسية المنوطة بمواجهة الإرهاب بتتبع العناصر العنيفة المتهمة بارتكاب أعمال إرهابية وأيضاً المشتبه بهم ممن تسميهم "الإرهابيين المحتملين". لكن يبدو أن القانون الجديد رأى أن يذهب إلى أبعد من ذلك بتعقب مسببات الفعل الإرهابي نفسه، حيث نصت المادة 25 على "اعتبار تعريض حياة الآخرين للخطر من خلال نشر معلومات تتعلق بهم أو مهنهم على الإنترنت جريمة وتحدد عقوبتها لاحقاً"، وهو ما يرتبط بظاهرة نشر بيانات حول أفراد الشرطة على الإنترنت على نحو قد يُعرِّض حياتهم وأمنهم للخطر.

كما ستعاقب المادة 4 بالسجن لمدة خمس سنوات كل من يقوم بتوجيه تهديدات أو ارتكاب أعمال عنف أو ترهيب ضد موظف عام، لأسباب دينية. ويبرر وزير العدل الفرنسي اريك دوبون موريتي وضع هذه المواد بضرورة التعامل مع منبع الجريمة الإرهابية، وعدم الاقتصار على مواجهة الفعل الإجرامي كما هو الحال في قانون العقوبات.

لكن ثمة أطرافاً عديدة في فرنسا ترى أن هذا التوجه في القانون يمس بصورة ما هامش الحرية والتعبير، لاسيما أنها تبيح استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في شن حملات لمواجهة عنف الشرطة أو أى من أجهزة الدولة في بعض المواقف.

2-  فرض رقابة أكبر على المؤسسات الدينية:عقب اغتيال مدرس التاريخ صموئيل باتي، قامت الداخلية الفرنسية بحل جمعيات إسلامية وإغلاق مساجد والقبض على أشخاص بتهمة التحريض على قتل المدرس. لكن القانون الجديد يتجه نحو تقنين فكرة مسئولية بعض المؤسسات الدينية أو الأشخاص عن الأعمال الإرهابية، حتى وإن لم يكونوا حاملين للسلاح، وذلك تحت بند التحريض على العنف، وتوفير البيئة الحاضنة للأفكار المتشددة.

وستزيد عقوبة التحريض على الكراهية أو العنف التي ترتكب في مكان عبادة إلى سبع سنوات سجن. كما تنص المادة 47 على نظام جديد للإغلاق الإداري المؤقت لدور العبادة التي تقوم بنشر أفكار متشددة.

3-  تجريم "معاداة العلمانية": أدى تعرض فرنسا لهجمات إرهابية عنيفة من جانب مواطنين فرنسيين مسلمين إلى ظهور تيار يدافع عن العلمانية الفرنسية باستماتة، وأصبح ما يمكن تسميته بـ"معاداة العلمانية" أو "عدم احترام قيم الجمهورية" سبباً في العقاب القانوني أو الحرمان من الوظيفة العامة، أو رفض الحصول على ترخيص للعمل الأهلي. وفي هذا السياق، تنص المادة 2 من مشروع القانون على ضرورة احترام موظفي القطاع العام قواعد وقوانين العلمانية، في حين تقضي المادة 6 بأن على الجمعيات التي تتقدم بطلب للحصول على منحة أو مساعدة مالية الالتزام أيضاً باحترام مبادئ وقيم الجمهورية، واعتبار أى مخالفة سبباً لمنع المساعدة المالية أو إعادة المبالغ المدفوعة.

وتتضمن المادة 8 تحديثاً لبعض مسوغات حل الجمعيات الأهلية، ومنها، على سبيل المثال، تحميل الجمعية، بحكم الأمر الواقع، المسئولية عن الأفعال التي يرتكبها عضو أو أكثر من أعضائها. وفي حالات الطوارئ، يجوز لوزير الداخلية تعليق أنشطة جمعية ما كإجراء احترازي لمدة ثلاثة أشهر، وسيواجه المخالفون حكماً بالسجن لمدة عام وغرامة قدرها 15 ألف يورو.

4-  تفعيل الدمج بقوة القانون: تشير أدبيات عديدة إلى أن القوام الأساسي للكتلة التي تعتبرها الحكومة الفرنسية مجتمعات تسعى للانفصال أو العزلة، يضم بعض مواطني الجيل الثالث أو الرابع لمهاجرين مسلمين إلى فرنسا. وعلى مدار عقود طويلة، ما زال جزء من مسلمي فرنسا يمارس طقوساً وعادات في إدارة حياته اليومية داخل الأسرة بعيدة عن النسق العام في المجتمع الفرنسي. ومن ثم تضمن مشروع القانون عدداً من البنود التي تحاول تنفيذ عملية الدمج المجتمعي بصور رسمية قانونية، بدلاً من ضمانات التعايش والاندماج ومنح الفرص والتأهيل والتمكين وكافة المحاور الأساسية في تحقيق الاندماج الوطني السليم لأى دولة.

ويبدو ذلك جلياً في المادة 13، التي تنص على أن جميع الممتلكات في فرنسا ستخضع لقوانين الميراث الفرنسية حتى لو لم يكن أصحابها من مواطنيها، وهو ما يعني عدم الاعتراف بقوانين الميراث الإسلامية. في حين تُجرِّم المادة 16 إصدار شهادة البكارة، ومعاقبة من يقوم بذلك بالحبس سنة واحدة. وتهدف المادة 17 إلى إلزام مُوثِّقي عقود الزواج باتخاذ الإجراءات القانونية في حالة الشك في موافقة العروس أو العريس على الزواج. وتهدف كل هذه المواد بالأساس إلى منع ممارسات ظهرت بين بعض مسلمي فرنسا.

5-  دعم التنشئة الاجتماعية: أبدى مشروع القانون اهتماماً ملحوظاً بالتعليم، وهو ما انعكس في المادة 18 التي تضمنت مبدأ إلزامية التعليم من سن 3 إلى 16 سنة، وقصر الاستثناءات التي تسمح بالتعليم المنزلي بشكل صارم على الأسباب المتعلقة فقط ببعض الحالات الصحية، بما يعني أن القائمين على المشروع يهدفون بالأساس إلى التأكد من حصول الأطفال على تعليم يحترم قيم الجمهورية الفرنسية، وعدم إتاحة أى فرصة لتسرب أفكار متشددة أو انفصالية لدى الأجيال الجديدة.

انتقادات مختلفة

يواجه مشروع القانون الفرنسي الجديد انتقادات عديدة. فمن ناحية، تتهم بعض القوى السياسية الرئيس ماكرون بمحاولة استغلال ذلك في تعزيز فرصه في الفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد 18 شهراً، من خلال محاولة استقطاب تأييد الناخبين من المعارضة اليمينية.

ومن ناحية أخرى، ترى بعض الجمعيات الفرنسية المدافعة عن الحريات أن مشروع القانون الجديد، الذي يأتي تحت مظلة حماية قيم الجمهورية، يثير مخاوف عديدة من أن يكون ذريعة في الوقت نفسه لانتهاك مبادئ الجمهورية وتقليص الحرية الفردية المتاحة للمواطنين، فضلاً عن التعامل مع عدد كبير منهم باعتبارهم تهديداً محتملاً للأمن القومي الفرنسي حتى تثبت براءتهم.

إضافة إلى ذلك، فإن المشروع يركز على إنهاء حالة الانفصالية من خلال إجراءات تنفيذية مثل إصدار قوانين وشن عمليات مداهمة للمساجد وحظر للجمعيات، إلا أنه لم يتحدث في الوقت نفسه عن الأسباب الأخرى التي جعلت عدداً من المواطنين الفرنسيين منفصلين، في إشارة إلى فشل سياسات الاندماج داخل فرنسا.

ففي فرنسا، يعيش أكبر عدد من مسلمي أوروبا الذين تبلغ نسبتهم 8% من السكان. وعلى الرغم من ذلك، تصل نسبة المسلمين في السجون الفرنسية إلى 70% من نزلاءها، وهو ما يمثل مؤشرات واضحة على وجود أزمة حقيقية داخل فرنسا. فهؤلاء الشباب والأطفال ولدوا في فرنسا ولا يتحدثون لغة أخرى غير الفرنسية غالباً. وعلى الرغم من ذلك، وعقب ظهور تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، اتجه عدد منهم للانضمام إليه، وهو ما يعبر عن أزمة لم تحاول الاستراتيجية الفرنسية مناقشتها بقدر ما تحمست لفكرة تكوين نموذج لـ"الإسلام الفرنسي" أو سن قوانين ضد الانفصالية الإسلامية، بما يعني في النهاية أن طرح هذا القانون، ثم إصداره، لن يؤدي، على الأرجح، إلى إنهاء الإشكالية الحالية التي تواجهها فرنسا.


رابط دائم: