منظمة التعاون الرقمي: آلية جديدة نحو التنمية المستدامة
2020-12-24

د. عادل عبد الصادق
* خبير بوحدة العلاقات الدولية ومدير برنامج دراسات المجتمع الرقمي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

أعلنت كل من السعودية والأردن والكويت والبحرين وباكستان، في 26 نوفمبر 2020، إطلاق "المنظمة الدولية للتعاون الرقمي"، وهى خطوة تأتى امتداداً للجهود التي بذلتها السعودية خلال رئاستها لمجموعة العشرين، على نحو يمثل تطوراً نوعياً في مجال التعاون الرقمي على المستوى الإقليمي، ويساهم في دفع أجندة رقمية عالمية، وظهور نمط جديد من المنظمات الدولية المعنية بتعزيز التعاون الرقمي، لا تقتصر في عضويتها على الدول فقط، لاسيما في ظل الدور البارز الذي يمارسه الفاعلون من غير الدول في هذا المجال.

مبادرات عديدة

انتشرت تقنية المعلومات والاتصال عالمياً بشكل كثيف، حيث وصل عدد المستخدمين للإنترنت، كأحد المؤشرات، إلى نحو 4.57 مليار مستخدم، وهو ما يمثل نحو 59% من سكان العالم. وبلغ عدد مستخدمي الهواتف نحو 5.15 مليار مستخدم، وعدد المستخدمين النشطين على الشبكات الاجتماعية نحو 3.96 مليار مستخدم، وهو ما يتوازى مع مؤشرات أخرى تعكس تنامي التجارة الإلكترونية والاستخدامات المدنية استناداً على البنية التحتية المعلوماتية ودورها في الاقتصاد والسياسة وفي عمل الحكومات والمرافق الحيوية.

لقد أضفى ذلك في مجمله مزيداً من الأهمية الاستراتيجية على المجال الرقمي، الذي بات يعاني في الوقت نفسه من تصاعد الهجمات السيبرانية وانتهاك الخصوصية، وغيرها من المخاطر التي تهدد أمنه واستقراره، وتؤثر على الثقة في التعاملات الرقمية.

في هذا السياق، تكمن أهمية وجود مبادرات إقليمية ودولية للعمل على تنظيم الحقوق والواجبات في المجال الرقمي، وتوظيفه في مجال التنمية. وابتداء من عام 2002، تم إطلاق العديد من المبادرات التي تقودها الأمم المتحدة لتحديد أفضل السبل لإدارة الحوكمة الرقمية. وفي نوفمبر 2005، أعلنت القمة العالمية لمجتمع المعلومات في تونس عن إطلاق "المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت" ليكون منصة لكافة الشركاء في مجتمع المعلومات العالمي بهدف وضع السياسات المثلى المتعلقة بالإنترنت.

وشكّل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، في يوليو 2018، لجنة رفيعة المستوى حول التعاون الرقمي برئاسة كل من ميليندا جيتس وجاك ما، بهدف رصد التغيير الذي أحدثته التقنيات الرقمية وتوفير إطار عمل لتعزيز أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030، وذلك من خلال التعاون الرقمي وحماية حقوق الإنسان والقيم على الإنترنت. وانتهت اللجنة من تقريرها الذي رفعته للأمين العام في يونيو 2019، وحمل عنوان "نحو خريطة طريقة للتعاون الرقمي"، حيث أقر بعدم وجود معايير عالمية تحكم أو تنظم حركة التطور المتسارع في الثورة الرقمية، على نحو يلقي بمزيد من الضوء على الأدوار البارزة التي يمكن أن تقوم بها مثل هذه المنظمات. كما تم إصدار مبادرات أخرى مثل مبادرة الاتحاد الأوروبي "Cyber Direct" للتعاون مع دول جنوب المتوسط، ومبادرة "طريق الحرير الرقمي" التي أعلنتها الصين.

ويمكن القول إن الفواعل الدولية لا تتبع اتجاهاً واحداً في التعامل مع المجال الرقمي، بل اتجاهات متعددة وفي كثير من الأحيان متناقضة. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى مداخل رئيسية ثلاثة: المدخل الأول، هو الاستقطاب Polarization، وتتبناه الولايات المتحدة الأمريكية، ويتعلق بكون المجال الرقمي متكاملاً وواحداً بما يسهل عملية تطبيق القواعد الموحدة ذات الطبيعة الدولية Cyber Norms. والمدخل الثاني، هو التفتت Fragmentation، وتعتمده الصين، وينظر من خلاله إلى المجال الرقمي على أنه يخضع لسيادة الدولة. أماالمدخل الثالث، فهو مدخل هجين Hybridity، يقوم على محاولة الموازنة بين المدخلين السابقين.

ومن قراءة واقع المنطقة العربية، يمكن القول إن دولها لا تتبنى كلاً من المدخلين المتطرفين في التعامل مع المجال الرقمي، حيث تسعى إلى إتباع سياسة متوازنة تجاه عملية تنظيم المجال الرقمي، وهو ما يؤهلها لممارسة دور إقليمي وعالمي في مجال حوكمة الإنترنت والتعاون الرقمي الدولي، على نحو يمكن أن يتحقق من خلال منظمة التعاون الرقمي التي أعلن عن تأسيسها بين الدول الخمسة في 26 نوفمبر 2020.

أهمية خاصة

كان لافتاً أن الإعلان عن تأسيس المنظمة الجديدة حظى بتأييد من جانب "الاتحاد الدولي للاتصالات" وغيره من الشركاء المعنيين، لاسيما أن هذه الخطوة جاءت ترجمة لتوصيات فريق التواصل بمجموعة العلوم (S20) التابعة لمجموعة العشرين، والذي أكد على تبني الرؤى بعيدة المدى للتعامل مع الثورة الرقمية لتعزيز القدرة على مواجهة التحولات الحرجة في المستقبل القريب.

ويمكن القول، إن ثمة اعتبارات عديدة تساهم في تزايد أهمة تلك المنظمة، يتمثل أبرزها في:

1- تصاعد حدة التوتر والصراع بين القوى الدولية حول مقدرات المجال الرقمي وممارسة السيادة والاستحواذ على الثروة الجديدة المُشكَّلة من المهارات وعائدات السوق الرقمي للخدمات العابرة للحدود الدولية.

2- اتساع نطاق أزمة انتشار فيروس "كوفيد-19"، التي ساهمت في إضفاء وجاهة خاصة على المبادرات الخاصة بالتحول الرقمي في مجالات مختلفة مثل التجارة والتعليم والصحة.

3- سعى المنظمة إلى تنمية الاقتصاد الرقمي، بحيث يصل حجم مساهمته إلى تريليون دولار بين الدول الأعضاء بحلول عام 2025، وحصول تلك الدول على حصتها من عوائد الاقتصاد الرقمي العالمي التي تتجاوز 11 تريليون دولار.

4- دعم قدرات الدول الأقل نمواً على تبني التقنيات البازغة مثل "إنترنت الأشياء" و"تطبيقات الذكاء الاصطناعي"، ومحاولة إقرار منظومة معترف بها دولياً تتولى حشد الموارد وتوفير الدعم لتلك الدول والمساعدة في بناء اقتصادها الرقمي لمواجهة التحديات.

5- توفير فرص عمل، والتعاون في مجال الابتكار وتسريع نمو الاقتصاد الرقمي، وتمكين المهمشين والمرأة والشباب ورواد الأعمال وتحقيق مستقبل رقمي يشمل الجميع.

6- تفعيل نموذج لتكتل اقتصادي رقمي جديد لتمكين الأعضاء من الاستجابة والتكيف مع المشهد الرقمي الراهن، عبر تبني المرونة والسرعة في السياسات والإجراءات والتي من شأنها تعزيز كفاءة وآليات العمل الحكومي الرقمي، وتحقيق التكامل والتعاون الإقليمي والدولي.

أهداف استراتيجية

تسعى المنظمة الجديدة إلى تحقيق أربعة أهداف إستراتيجية: يتمثل الأول، في رفع مستوى نمو الاقتصاد الرقمي بشكل جماعي عبر أعضاءها، وذلك من خلال تطوير عملية صنع السياسات والأطر التنظيمية لمواجهة تدفق البيانات عبر الحدود وكذلك التجارة الإلكترونية بين الدول الأعضاء، والسعى إلى التقدم الجماعي في مجال البحث والتطوير والابتكار والاستثمار في الفرص الرقمية، مثل الشركات الناشئة.

ويتعلق الثاني، بتحقيق تقدم في مجال التحول الرقمي بين الدول الأعضاء سواء على مستوى الاستراتيجيات أو على صعيد الإجراءات والبرامج التنفيذية، وذلك من خلال العمل على تنمية رأس المال البشري الرقمي بين الدول الأعضاء، وتطوير البنية التحتية المعلوماتية، وتسريع التحول الرقمي بشكل تعاوني بين تلك الدول فيما يتعلق بطرق عمل المؤسسات الحكومية.

وينصرف الثالث، إلى تعزيز الرفاهية والاستقرار الاجتماعي بشكل شامل عبر البيئة الرقمية للدول الأعضاء، وذلك من خلال تقليل الفجوة الرقمية بين تلك الدول. ويتصل الرابع، بدعم الجهود الجماعية للأعضاء في مجال الاقتصاد الرقمي العالمي، عبر تبني المداخل الملائمة للارتباط والتفاوض مع الفاعلين في القطاع الخاص، والتمثيل في المؤسسات الدولية الرقمية الفاعلة، ومراعاة تحديث التشريعات والسياسات لتعزيز قدرتها على مواجهة التحديات التي تفرضها الثورة الرقمية.

اتجاه جديد

على مدى عقود عديدة، تم إنشاء هيئات دولية لتنسيق أنشطة ذات طابع دولي، وبهدف العمل على تطوير المعايير الداعمة لقطاع الاقتصاد والتجارة العابر للحدود الوطنية. وجاءت عملية إطلاق منظمة التعاون الرقمي الدولي لتمثل ترجمة حقيقية لتغير ليس فقط طبيعة السلع والخدمات في العصر الرقمي، وإنما أيضاً هوية ودور الفاعلين، في ظل تراجع دور الدولة، وتطور دور المنظمات الدولية والمعاهدات الدولية في المجال الرقمي.

وعلى خلاف الآليات التقليدية التي اتبعت في تأسيس المنظمات الدولية التي اعتمدت في عضويتها على الدول ذات السيادة، جاءت المنظمة الدولية للتعاون الرقمي لتفتح الباب أمام تبني مدخل تعدد الفاعلين الذين عليهم، وفقاً لرؤية الدول المؤسسة، أن يتشاركوا جميعاً في صنع القرار والسياسات المتعلقة، ومن ثم تحمل المسئولية المشتركة في أمن واستقرار المجال الرقمي باعتباره بات يمثل مرفقاً دولياً وتراثاً مشتركاً للإنسانية، على أساس أن تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 لن يتم إلا من خلال توظيف التقنية والابتكار والاقتصاد المستدام، وهو ما يساعد في التصدي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية ومعالجة التحديات الحالية والمستقبلية، مع الأخذ في الاعتبار البعد الإنساني في الثورة الرقمية، فضلاً عن مواجهة تحديات سد الفجوات بين الدول النامية والمتقدمة، والشمال والجنوب، والريف والحضر، وتحسين القدرة على رصد الأثر الاجتماعي والاقتصادي للاقتصاد الرقمي من خلال تطوير مداخل القياس والتنفيذ، وتوفير وظائف جديدة عبر الفرص الرقمية لمواجهة البطالة والفقر بين الشباب.

وانطلاقاً من ذلك، يتوقع أن تتجه المنظمة الجديدة إلى دعم الشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص، ولاسيما من جانب الشركات التقنية العالمية، وبين جميع الفاعلين المعنيين من جهة أخرى، وهو ما يعد فرصة مهمة للتعاون الرقمي من أجل دعم جهود تحقيق التنمية والسلام والأمن عبر المجال الرقمي.

***

واستنادا إلى التحليل السابق، يمكن القول إن الانضمام إلى المنظمة الدولية للتعاون الرقمي، ينطوي على إمكانات كبيرة للاستفادة من الفرص التي توفرها، بما في ذلك النفاذ إلى أطر التعاون المشترك، والمساهمة في تكوين رؤية عربية بشأن الثورة الرقمية وكيفية التعامل مع التحديات الماثلة في هذا المجال. ويعزز من ذلك امتلاك مصر خبرات كبيرة يمكن نقلها إلى الدول الأعضاء في مجال الحكومة الرقمية والبنية التحتية الرقمية، وبناء القدرات والتدريب والموارد البشرية، فضلاً عن وجود مناخ استثماري جاذب لقطاع التقنية، وإطلاق مصر مشروع طموح للرقمنة.

كما يمكن لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي القيام بدعوة الدول الأعضاء للانضمام إلى المنظمة، جنباً إلى جنب مع جهود الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا المجال، الأمر الذي سيعمل على نقل المنظمة من مجرد مبادرة تحالفية إلى منظمة إقليمية، ثم عالمية، بما يعزز من عملية مأسسة المنظمة وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.

وانطلاقاً من وجود علاقة ارتباط قوية بين القدرة على تطوير الأجندة الرقمية الوطنية من جهة، ودعم المساعي العالمية للنهوض بالقطاع الرقمي من جهة أخرى، قد يكون من المهم دعوة جميع أصحاب المصلحة للمشاركة والانضمام إلى المنظمة، وتعزيز تطوير رؤية شاملة محايدة للتعامل مع المجال الرقمي، وهى ميزة نسبية تتوفر في المنطقة العربية.


رابط دائم: