الشارع المصرى .. نظرة على الهوية - إفتتاحية العدد 75 من فصلية "أحوال مصرية"
2020-12-7

د. أيمن السيد عبد الوهاب
* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

الشارع المصرى مرآة للمجتمع المصرى، تلك حقيقة واقعة يترجمها العديد من الشواهد والدلالات. ولكن عن أى شارع مصرى يمكن أن نتحدث، وهل نحن أمام مجتمع مصرى واحد متجانس، أم أمام مجتمعات متداخلة مترجمة لمزيج متباين فى حجم المعارف والقيم والإدراكات والسلوكيات، قد ألقت بثقلها على ملامح الشخصية المصرية، فأفرزت تلك التباينات وربما الفجوات بين قطاعات متعددة من الشعب المصري.

ليبدو أن ما نشهده من مظاهر خلل فى الشارع  وما يصاحبه من توترات وانتقادات، عاكسا لحجم كبير من التغير والتطور، ومترجم لواقع أصابه الكثير من التشوه، الناتج عن اصطدام القديم بالحديث، وتداعيات التغير الجزئى والركود، وتباين المنظور الثقافى والقيمى للأجيال، لاسيما جيل العولمة، واستنزاف المخزون الحضارى للمصريين.

 فأين المخزون الحضارى مما نشهده فى الشارع المصرى من نماذج وتباين وربما تنازع على الهوية والقيم والإدراكات؟. هذا التساؤل الذى يفرض نفسه ويترجمه الكثير من السلوكيات والتفاعلات المجتمعية، يعبر بوضوح عن تغير واضح فى علاقة الفرد بالمجتمع وبالدولة، ويعبر أيضا عن ضعف الكثير من التقاليد والثقافات التى حكمت سلوكيات المصريين، ويعبر كذلك عن تغير فى الرؤى للحياة والانفتاح والحرية والعلاقة مع الماضى .

وإذا ما افترضنا أن الشارع المصرى هو مرآة  للمجتمع، فإننا نكون أمام نتاج مقابلة ما فرضته ما بعد الحداثة والعولمة من متغيرات تتعلق بالقيم الخاصة بالحرية والفردية والمادية وتغليب الأنماط الاستهلاكية، والتقدم المعرفى والتكنولوجى من ناحية، مقابل المخزون الحضارى من ناحية أخرى، فضلا عن ضعف مردود التنمية المستدامة وعدالة توزيع ثمارها على القطر المصرى، تعكس تلك المقابلة الكثير من التغير الذى شهده البنيان الاجتماعى والثقافى والاقتصادى للمجتمع المصرى، والذى انعكس بالتبعية فى الكثير من التفاعلات الاجتماعية الناتجة عن تغير القيم والإدراكات لها.

هذا التغير فى منظومة القيم والسلوكيات لا يمثل المجتمع المصرى فيه استثناء، بل هو سمة غالبة أخذت سبيلها الى المجتمعات المعاصرة، ولكن يبقى الفرق الرئيسى هنا مرتهنًا بحدود التأثير والتأثر بتلك المتغيرات وانعكاساتها على هوية المجتمعات  وخصوصيتها والتى تتباين تأثيراتها من مجتمع لآخر.

واتساقا مع محاولة فهم عمق التأثير والتغير وحدوده المجتمعية، فإن مجلة احوال مصرية تستكمل سلسلة القضايا التى تناولتها عن المخزون الحضارى والهوية المصرية، بفتح نوافذه على الشارع المصرى الذى يفرض بواقعيته ملامح التغير والتطور بدون أحكام على السلوكيات أو مظاهرها.

النافذة الأولى:  المجال العام والذوق العام

هل انكماش المجال العام له تأثير على عدم التناغم والتنافر والاختلالات التى نشهدها فى الشارع، سؤال تثيره المبادرات العديدة التى تطلق وتوجه لتلبية حاجات أساسية، إلا أنها لم تمتد معظمها إلى السلوكيات ولا إلى القيم ولا إلى المحددات والركائز الداعمة لبناء الإنسان المصرى والنمط الأخلاقى والقيمى المطلوب.

هذا السؤال وغيره المرتبط بالذوق العام ومظاهر الجمال والقيم الإيجابية، يبدو مرتبطًا بسياق أوسع من مجرد إطلاق مبادرات أو اتخاذ بعض السياسات والإجراءات الضابطة للسلوكيات، بل هى فى حاجة إلى تفعيل مقومات الحياة فى شرايين المجتمع، ليتمكن من بناء توافقاته حول سبل البناء التى تدفع نحو المستقبل، وتحجب سمات الضعف والركود والتخلف، لمصلحة القيم الإيجابية والدافعة للتطور والتقدم. 

صحيح أن العديد من المظاهر السلبية هى تراكم ونتاج لمشكلات ممتدة أفرزتها تحولات عميقة فى بنية المجتمع، وخاصة بالنسبة للطبقة الوسطى، ولكن صحيح أيضا أن المخزون الحضارى كان حاضرًا مع حركة الجماهير فى 25 يناير2011 و30 يونيه 2013 وعبر عنه العديد من الممارسات العاكسة للشخصية المصرية وعلاقاتها بالمشاركة والمسئولية المجتمعية.  

وإن كان من الملاحظ أن الأعوام التسعة الماضية حملت بين جنباتها الكثير من المفارقات والتناقضات،  التى عكسها سلوك الجماهير سواء من خلال التعبير عن غضبه وإسقاطه لنظام حكم أو عبر تعايشه مع الحالة الثورية التى شهدتها البلاد، بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، أو خلال المرحلة الراهنة، وهو ما يطرح أهمية التساؤل عن المجال العام وأهمية توسيعه بالتدريج، وأهمية تقوية التنظيمات الأهلية والتنظيمات الوسيطة القائمة بين المواطن والدولة كتنظيمات فاعلة وضابطة لحركة المجتمع، ودافعة لعملية التنمية، ومعززة لحالة الحوار المجتمعى الداعم لبناء التوافقات وصياغة العقل والضمير الجمعى.

فإن كانت المنظمات الأهلية والمدنية هى حلقة الوصل الدافعة لنشاط الأفراد فى المجال العام، فإنها تبقى السبيل نحو توجيه مشاركة الناس فى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وتنظمهم فى جماعات أكثر قوة للتأثير على السياسات العامة وللتمكن من الوصول إلى الموارد العامة، وخصوصا بالنسبة للفقراء والفئات المهمشة، كما تقوم المنظمات عبر شبكاتها المدنية بمأسسة التفاعل الاجتماعى، بالقدر الذى يمكن أن يقلل من الانتهازية، ويعزز الثقة، ويسهّل التعاملات السياسية والاقتصادية.

وهو ما يقودنا بالتبعية للتساؤل حول القاعدة والاستثناء، ومتطلبات صياغة واقع مجتمعى يستند إلى نموذج تنموى وأخلاقى وقيمى حاكم وضابط لعملية البناء، يأخذ من الحديث ويستند إلى ما يفيد وإيجابى من المخزون الحضارى، ويتعامل مع الكثير من التحديات المرتبطة بهيكل الدولة المصرية، ودرجة التطور المجتمعى، وطبيعة علاقة الدولة بالمجتمع، والثقافة المجتمعية السائدة، وضعف البناء السياسى، وتشتت الجماعة السياسية المصرية، وضعف المجتمع المدنى المصرى.

النافذة الثانية: نافدة المحليات وثقافة التهميش

كثير من الممارسات والسلوكيات يمكن إرجاعه إلى تغليب ثقافة العشوائيات، وما يعكسه سوء التخطيط ومظاهر التهميش التى يحملها الشارع المصرى، والتى تشير إلى مسئولية المحليات وحدود النظرة إلى دورها وفلسفتها، وإذا ما أخذنا فى الاعتبار غياب المجالس المحلية المنتخبة (منذ عام 2011) وتأخر قانون المحليات وما شهدته البلاد منذ يناير 2011 وحتى الآن من اختلالات ترتبط بدور المحليات وتأثيرها المجتمعى وأهمية البعد الاقتصادى والبشرى وعلاقته بالارتقاء بمستوى الخدمات والأوضاع الاقتصادية بالمحليات.

الأمر الذى تبرز معه العلاقة الملتبسة بين متطلبات الطبيعة التمثيلية الشعبية للمجالس المحلية، والدور التنفيذى للمحليات وترجيحها لمصلحة الأخيرة، كأحد أبرز الأسباب التى تحول دون تحول فلسفة النظام المحلية إلى واقع وممارسة حقيقية، حيث ظلت هذه العلاقة الملتبسة سمة غالبة على النظام المحلى رغم تعدد المسميات ما بين الحكم المحلى والإدارة المحلية وانتهاءً بوزارة التنمية المحلية، حيث لم يرتبط هذا التغير فى المسميات بتطور حقيقى فى أداء وفاعلية المحليات.

فقد أظهرت تلك الآراء الحاجة لبلورة سياسات تنموية تستند إلى تعظيم أوجه الاستفادة من الموارد المتاحة فى كل محافظة من جانب، وأهمية تفعيل الدور الرقابى داخل المجالس المحلية، وتوفير قنوات للمحاسبة من جانب آخر. وإن ظل  هناك خلاف حول أسلوب إدارة العديد من التحديات والمستجدات التى يشهدها المجتمع. ليبقى التساؤل عن مبررات عدم قدرة نظام الإدارة المحلية على تحقيق درجة أعلى من الاستجابة لمعطيات بيئته المحلية.

النافذة الثالثة: ثقافة المسئولية وتجاوز "الفهلوة"

المواطنة وتعزيز ثقافة المشاركة تتعلق بقضية أكبر هى المسئولية الاجتماعية ومتطلبات تفعيل وترسيخها كسلوك، وهى علاقة ارتباطية من شأنها أن تدعم قاعدة بناء المجتمع وتماسكه بشكل صحى وفاعل قادر على تحقيق التنمية وتمكين مواطنيه من خلال توسيع خياراتهم فى العيش فى ظل حياه كريمة.

 فالمجتمع القائم على المشاركة شرط مسبق للتنمية فى عالم اليوم، حيث تمثل المشاركة الشعبية ومن ثم المسئولية المجتمعية السبيل الأمثل لتعظيم موارد وقدرات المجتمع، كما أنها توفر فرصًا حقيقية لتقيد السلبية واللامبالاة التى تفرض نفسها على كثير من الممارسات الحياتية للمجتمع، وفى مقدمتها الفهلوة، كذلك تساعد على استيعاب ما يشهده المجتمع المصرى حاليًّا من مخاطر تهدده بالقدر الذى يساعد على الانتقال من إدراك المخاطر إلى إدارة هذه المخاطر.

فالاكتفاء بسياسات وإجراءات من شأنها تحقيق “الأمن الاجتماعى” للمجتمع وتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة للمواطنين، لن تكون كافية، ومن ثم تكون نقطة البدء مرتهنة بتفعيل آليات العمل الجماعى والمسئولية المجتمعية إلى الحد الذى يساهم فى تدعيم الصلة بين الفرد والمجتمع، والاعتماد على آليات محددة وأطراف ترتبط بأدوار فاعلة، ومن قبلها قاعدة بيانات ومعلومات معرفية تساعد على تشخيص حجم المخاطر والتحديات التى تواجه المجتمع المصرى، وفى مقدمتها: العنف السياسى، والإرهاب، وتراجع قيم التسامح والحوار وتصاعد العديد من المظاهر الاجتماعية السلبية مثل الإدمان والعنف واللامبالاة والإلحاد .

“ التعرض للمخاطر” ومواجهتها على المستوى الفردى أو المجتمعى يتطلب بناء شخصية قادرة على تحمل المسئولية وتمتلك من المهارات والقدرات ومن قبلها القيم والسمات الداعمة للمشاركة الفعالة. فإيجاد نظام متكامل لإدارة المخاطرة الجماعية، ويسمح فى نفس الوقت بتوفير مناخ مواتٍ وبيئة حاضنة يكون من شأنها الحد من هذه الأخطار، هو مسئولية الجميع.

النافذة الرابعة: المقاهى مرآة للحداثة

المقاهى تغيرت النظرة لها فلم تعد شيئًا معيبًا مقصودًا على أصحاب المعاشات والعاطلين أو الباحثين عن عمل أو الطلاب الهاربين من المدارس، ولكنها أصبحت ملتقى للترفيه وعقد الصفقات وإتمام الأعمال، بل إن تطور الشكل والمستوى والمسمى من القهوة إلى الكوفى شوب انعكس فى نوعية الجمهور، فأصبحت ملتقى لمشاهدة المباريات والمذاكرة وملتقى للشباب والشابات، فالتحول المجتمعى بهذا الشكل لم يقتصر فقط على قبول وجود السيدات والفتيات لشرب الشيشة، ولكنه أصبح ملتقى للأصدقاء والشباب بعيدًا عن البيت.

 وهنا تبدو مقارنة تتعلق بالنظرة الطبقية للمقهى البلدى والكوفى شوب ليس على مستوى الأسعار ومستوى الخدمة ولكن على مستوى الجمهور وطبيعة المعاملات والهدف من الالتقاء.

فمع تغير النظرة للمجتمع وضوابطه الاجتماعية وتراجع دور مؤسسات التنشئة والضابطة للتفاعلات والسلوكيات والمحددة لمنظومة القيم، سواء تلك المرتبطة بالأسرة والعائلة والقبيلة والمدرسة والجامعة، تغيرت النظرة للأماكن وللاستخدامات، وفرض المنظور الأحادى «للأنا» وللحرية فى مقابل الكثير من مفاهيم قضايا، مثل: المجتمع، الانتماء، الهوية، العصبية، الوطن، الدين، وغيرها من القضايا المحددة للعلاقة بين الفرد ومجتمعة ووطنه. بمعنى أدق أن ما يشهده المجتمع المصرى ويعكسه الشارع، يعبر عن الجزر التى تقسم المجتمع وتضعف درجة تجانسه.    

النوافذ السابقة، لا تمثل سوى ملمح لحالة تعثر الانتقال من مجتمع تقليدى إلى مجتمع حديث، وما شاب هذا التعثر من تشوه مجتمعى فرضه إسقاط قيم وأفكار حداثية على منظومة القيم التقليدية، وهو ما يتجلى بوضوح فى ظاهرة «تريف المدينة» و«مدينة الريف»، وتجاوز كتلة كبيرة من الشباب العديد من المفاهيم والتقاليد التقليدية، وتزايد الشعور «بالأنا» وبالتالى يبقى التساؤل حول حدود التأثر والتأثير قائما، ومدلولاتهما على الشعور بالغربة وربما الخطر على هوية المجتمع وأجيالنا قائما، دون أن يعنى ذلك القفز إلى أحكام قاطعة وقيمية لتوصيف الكثير من القضايا التى تجاوزت مرحلة المسكوت عنه وأصبحت ترجمة واقعية لما شهده الإنسان المصرى من تغير.  


رابط دائم: