غاز المتوسط يعمق الفجوة بين تركيا والولايات المتحدة
2019-5-21

د. أحمد قنديل
* رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

في 17 مايو 2019، طلب وزير الخارجية القبرصي نيكوس كريستودوليدس من مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون دعم واشنطن لبلاده من أجل حماية حقوق قبرص السيادية على منطقتها الاقتصادية الخالصة (EEZ)، وذلك في مواجهة الانتهاكات التركية المستمرة قبالة ساحلها الغربي. جاء ذلك في محادثة هاتفية جرت بينهما وفقا لوكالة الأنباء القبرصية. وردا على هذا الطلب، كرر بولتون من جديد التأكيد على موقف الولايات المتحدة الذي يشدد على "ضرورة الوقف الفوري للأنشطة التركية داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لجزيرة قبرص وتجنب الأعمال التي من شأنها تصعيد التوترات". وكانت أنقرة قد أعلنت في 3 مايو الماضي (2019) بدء عمليات تنقيب عن الغاز بواسطة سفينة "الفاتح" وثلاث سفن مساندة لوجستية، حتى 3 سبتمبر 2019، في منطقة تبعد 40 ميلاً بحرياً تقريباً إلى الغرب من شبه جزيرة أكاماس و83 ميلاً بحرياً من السواحل التركية، وهي منطقة تقع داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري لجمهورية قبرص.

ويأتي طلب قبرص الدعم من واشنطن لمواجهة وردع التصرفات التركية المزعزعة للاستقرار في الفترة القادمة في وقت تتصاعد فيه آمال نيقوسيا للاستفادة من الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط لدعم أوضاعها الاقتصادية المتأزمة. فقد أعلنت شركة إكسون موبيل -عملاق الطاقة الأمريكي- في فبراير الماضي اكتشاف خزانً عملاق للغاز الطبيعي في حقل (جلاوكوس-1)Glaucus-1، قبالة شواطئ قبرص في البلوك رقم 10باحتياطات تقدر بحوالي 5-8 تريليون قدم مكعب.كما أعلنت شركتي "إيني"الإيطالية و"توتال" الفرنسية أيضا في العام الماضي اكتشاف حقل كاليبسو Calypso للغاز الطبيعي قبالة ساحل قبرص، باحتياطيات تقدر بحوالي 6-8 تريليون قدم مكعب. كما أن قبرص على وشك بيع غاز حقل "أفروديت" إلى مصنع تسييل الغاز في مدينة إدكو المصرية، وهو ما سيفتح الباب واسعا أمام تصدير الغاز من قبرص إلى أوروبا.

ويفسر المراقبون الطلب القبرصي للحصول على دعم واشنطن في مواجهة تركيا في ظل عدة تطورات بالغة الأهمية لعل من أبرزها ما يلي:

أولا: إصرار الجانب التركي على الاستمرار في أنشطته المستفزة وغير القانونية في المياة القبرصية، وهي الأنشطة التي لاقت اعتراضات علنية وصريحة من جانب مصر والاتحاد الأوروبي واليونان والولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وقبرص، لما لها من آثار سلبية وخيمة على "الأمن" و"الاستقرار" في منطقة شرق المتوسط. الرئيس التركي رجب طيب أردوجان تجاهل هذه الاعتراضات تماما، مؤكدا أن بلاده ستواصل تنفيذ برنامجها الخاص بالتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط غير مكترثة بـ"تعليمات أو تقييمات بعض الدوائر"، في إشارة إلى الدول والأطراف المذكورة آنفا. بل إنه شدّد أيضا (في 6 مايو 2019) على أن بلاده تتوقع من حلف شمال الأطلسي (ناتو) دعم "حقوقها" في شرق البحر المتوسط رداً على إعلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قلقهما إزاء خطط تركيا للتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص.

وفي السياق ذاته، أعلن وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو (في 13 مايو 2019) أن بلاده ستبدأ -خلال الأيام المقبلة- الحفر بسفينتين في منطقة بحرية أخرى حول قبرص (سفينة "ياووز" إلى جانب سفينة "الفاتح"). ومن جهة أخرى، بدأت قوات البحرية التركية (في 13 مايو 2019) أكبر مناورة بحرية في تاريخ الجمهورية التركية، بحسب وكالة أنباء "الأناضول" الرسمية، تحت اسم "ذئب البحر 2019". وتهدف هذه المناورات، التي تنفذ بمشاركة 131 سفينة بحرية، و57 طائرة حربية، و33 مروحية في الثلاثة بحار المحيطة بتركيا وهي البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجه، إلى رفع مستوى الجاهزية العملياتية للقطع البحرية والجوية التابعة لقيادة القوات البحرية التركية، من خلال تنفيذ عمليات قصف من طائرات مسيرة، وراجمات صواريخ محملة على السفن الحربية، وطائرات مسيرة هجومية ومسلحة، وقصف جوي من الطائرات. كما تتضمن المناورات أيضا تدريبات على الحرب فوق الماء، والحرب الدفاعية تحت الماء، والحرب الإلكترونية، وعمليات المراقبة في البحار، وعمليات إنقاذ عناصر الغواصات.

ثانيا: تزايد قناعة القبارصة بأن التعاون مع واشنطن في الفترة القادمة لردع تركيا قد يكون أكثر فاعلية مقارنة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، الذي تجنب -حتى كتابة هذه السطور- فرض أية عقوبات على تركيا لدفعها إلى الانسحاب من المياة القبرصية، مكتفيا فقط بإصدار البيانات والتصريحات دون اتخاذ أية إجراءات عقابية ضد أنقرة. ويرسخ من هذه القناعة لدى نيقوسيا تزايد توتر العلاقات التركية- الأمريكية نتيجة الخلافات العميقة بين الدولتين بشأن عدد من القضايا، من أهمها إصرار أنقرة على شراء منظومة الصواريخ الروسية S-400 في تحدي سافر للولايات المتحدة، وهو ما يدفع كثير من المراقبين الأمريكيين إلى وصف تركيا بأنها "حليف" لا يمكن التنبؤ بتصرفاته ولا يمكن الثقة فيه.

ثالثا: التنامي الملحوظ في الاهتمام الأمريكي بما يجري في منطقة شرق المتوسط، ومحاولة واشنطن إقناع حكومات هذه المنطقة بأن نجاحها في مجالي الأمن والطاقة في المستقبل سوف يعتمد على الدعم الأمريكي. فقد زار العديد من المسئولين الأمريكيين العواصم الكبرى في المنطقة من أجل حثها على تعزيز الشراكة الأمنية والاقتصادية فيما بينها، وعلى تخفيف حدة التوترات المتصاعدة في المنطقة، خاصة بين اليونانيين والأتراك بسبب الأزمة القبرصية، وبين الإسرائيليين واللبنانيين بسبب الخلافات الحدودية. كما نظمت مؤسسات الفكر والرأي الأمريكية، مثل "مجلس الأطلنطي"، العديد من الفاعليات والأنشطة لبحث مستقبل منطقة شرق المتوسط. وشارك وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أيضا في القمة الثلاثية التي جمعت قادة إسرائيل واليونان وقبرص في القدس في 20 مارس 2019. وفي الكونجرس، قدم السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز والسيناتور الجمهوري ماركو روبيو، في 10 أبريل 2019، مشروع قانون جديدا لمجلس الشيوخ الأمريكي بعنوان "قانون شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط لعام 2019". وسيتيح مشروع القانون المقترح -حال إقراره من جانب مجلسي النواب والشيوخ ثم توقيعه من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب- للولايات المتحدة تقديم مزيد من الدعم لكل من إسرائيل واليونان وقبرص من خلال عدة مبادرات للتعاون في مجالي الطاقة والدفاع، من أبرزها: رفع الحظر المفروض منذ عام 1987على مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى قبرص، وزيادة المساعدات العسكرية إلى اليونان، وإنشاء مركز لتسهيل التعاون في مجال الطاقة بين الولايات المتحدة ودول منطقة شرق المتوسط، وإعاقة حصول تركيا على طائرات "F–35" الأمريكية طالما أصرت أنقرة على المضي قدما في خططها لشراء نظام الدفاع الجوي S-400 من روسيا.

تدخل الإدارة الأمريكية على خط الأزمة القبرصية التركية فيما يتعلق بالتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط سوف يزيد من توتر العلاقات الأمريكية- التركية. فمن ناحية، سوف يفاقم هذا التدخل من عزلة أنقرة في الترتيبات الإقليمية الجديدة للاستفادة من اكتشافات الغاز الهائلة في المنطقة. وهو الأمر الذي سوف يمثل ضربة قوية لطموح تركيا في أن تصبح مركزًا رئيسيًا لنقل الطاقة. فقد أشادت الولايات المتحدة باستضافة مصر لمنتدى غاز شرق المتوسط "EMGF"، الذي يجمع 7 دول من منطقة شرق المتوسط بينها إسرائيل، في منتصف يناير 2019، مؤكدة أن واشنطن سوف تبذل قصارى جهدها لكي تكون هناك اتصالات فعالة بين المشاركين في هذا المنتدى -الذي لم يوجه الدعوة إلى أنقرة لعدم احترامها مبادئ القانون الدولي- باعتباره ضمانة لتحقيق مصالح شركات الغاز الأمريكية في شرق البحر المتوسط وتقليص الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، ودعم إسرائيل واليونان وقبرص لبناء كيان إقليمي ضاغط ورادع للقوى المزعزعة للاستقرار والأمن في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا وحزب الله اللبناني.

ومن ناحية ثانية، فإن التدخل الأمريكي في معادلات الطاقة الجديدة في منطقة شرق المتوسط سوف يؤدي إلى تلاشى "حلم" تركيا بأن تصبح مركزا إقليميا لتجارة الطاقة في المنطقة نتيجة المواقف الأمريكية الرافضة "للبديل التركي" والمؤيدة لقبرص (وباقي دول منطقة شرق المتوسط كمصر وإسرائيل واليونان) فيما يتعلق بأفكار نقل الغاز المكتشف في شرق المتوسط إلى أوروبا، سواء من خلال التسييل في محطتي إدكو ودمياط المصريتين أو من خلال مشروع خط أنابيب شرق المتوسط EastMed، والذي تمت الموافقة عليه في أبريل 2017، من جانب اليونان وقبرص وإسرائيل لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل وقبرص إلى اليونان ثم إلى إيطاليا ودول جنوب شرق أوروبا الأخرى.

ومن ناحية ثالثة، يرى عدد من المراقبين أن اهتمام واشنطن المتزايد بدعم قبرص في مواجهة المزاعم التركية في شرق المتوسط سوف يؤدي -على الأرجح- إلى حرمان تركيا من تلبية احتياجاتها من الطاقة، وهو الأمر الذي سيزيد من اعتمادها على المصادر الخارجية؛ فتركيا هي مستورد كبير للطاقة وتعتمد على دول أخرى مثل روسيا وإيران من أجل تلبية احتياجاتها. وقد وصلت واردات أنقرة من الهيدروكربونات إلى 45 مليار دولار في عام 2018، وهو ما يمثل ضغطًا كبيرًا على الميزانية، لا سيما بعد ضعف الليرة التركية مقارنة بالعام 2018. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن شركة البترول الوطنية التركية TPAOكانت قد حصلت في أبريل عام 2012، من حكومة القبارصة الأتراك، على امتياز للشركة التركية للبترول للتنقيب عن الموارد الهيدروكربونية في شمال قبرص، بما في ذلك المياة الإقليمية، وهو ما يتداخل مع عدد كبير من البلوكات التى طرحتها نيقوسيا في جولة المناقصات الخاصة بها، كما تتداخل أيضا مع منطقة تابعة لجزيرة رودس اليونانية. وقد بدأت الشركة التركية للبترول بالفعل أعمال الحفر بحثًا عن البترول والغاز في شمال قبرص في 26 أبريل عام 2012، إلا أنها لم تحقق تقدما ملموسا. ويوضح الشكلان التاليين هذه المناطق.

 


 


 

على أية حال، يمكن القول إنه من المرجَّح أن يترتب على زيادة التوتر في العلاقات الأمريكية- التركية، بسبب التنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط خلال الفترة القادمة تداعيات بالغة الأهمية على مستقبل الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، وعلى هيكل التوازنات القائمة داخلها، بما تطرحه من متغيرات جديدة أمام أدوار إقليمية ودولية قد لا تتوافق بالضرورة مع الأمن القومي المصري. وبالتالي، تستدعي هذه التطورات المهمة نقاشا واسعا في دوائر صنع القرار المصري حول تأثيرها على الأمن والاستقرار الإقليمي، خاصة بعد أن أصبحت هذه المنطقة مسرحا للأنشطة العسكرية لكثير من الدول في السنوات الماضية، خاصة التدريبات العسكرية التركية، وآخرها مناورات "ذئب البحر 2019". هذا فضلا عن تزايد تواجد عدد من القوى الكبرى في المنطقة من الناحيتين العسكرية والسياسية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين. ومن جهة ثانية، قد يترتب على عزلة أنقرة المتزايدة في المنطقة استمرار أو زيادة دعمها للجماعات الإرهابية التي من الممكن أن تهاجم منشآت استخراج الغاز أو خطوط أنابيب نقله إلى أوروبا أو محطات التسييل المرتبطة به، وهو الأمر الذي قد يؤثر بشكل أو آخر على مساعي مصر الحثيثة لكي تصبح مركزا إقليميا لتجارة الغاز في المنطقة.


رابط دائم: