الإعلان الأمريكي بشأن الجولان السوري المحتل... قراءة قانونية
2019-3-28

د. أيمن سلامة
* أستاذ القانون الدولي العام

تناول "الإعلان التنفيذي الرئاسي" الأمريكي Proclamation الذي صدر عن الرئيس الأمريكي رونالد ترامب في 25 مارس 2019، والذي يعترف بالقرارات والإجراءات الإسرائيلية الجائرة بخصوص الاحتلال العسكري الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية المحتلة في يونيو 1967، ثم قرار الكنيست الإسرائيلي الجائر بضم  الجولان المحتل إلى إسرائيل في ديسمبر 1981، يقتضي تناول العديد من المسائل القانونية المهمة في ذلك السياق، حيث لا يقتصر البحث بشكل مباشر فقط في ماهية والآثار القانونية لذلك الإعلان الرئاسي الأمريكي المتقدم.

الاحتلال العسكري الإسرائيلي للجولان السوري

يميز القانون الدولي بين الاحتلال العسكري الغاصب لأقاليم الدول ذات السيادة، كما في حالة الجولان السوري الذي احتلته إسرائيل منذ العاشر من يونيو 1967 وحتى الآن، وبين الاحتلال السلمي الاتفاقي لهذه الأقاليم من جانب آخر. ففي الحالة الثانية يتم ذلك الاحتلال السلمي المؤقت، إما باتفاق كامل بين دولة الإقليم المحتل وبين دولة الاحتلال، وذلك لحماية ذلك الإقليم أو الجزيرة أو الأرخبيل الذي تعجز الدولة عن حمايته وتأمينه. ويحدث ذلك دون إكراه أو إذعان لهذه الدولة، ولكن وفقا لإرادتها الحرة. كما قد ينشأ ذلك الاحتلال إذا نُص عليه في معاهدة أو اتفاقية بين الدولتين كجزاء تلجأ إليه إحداهما لتطبيقه إذا لم تف الأخرى بتعهداتها. وهذا ما نصت عليه المادة 340 من معاهدة "فرساي" من أنه في حالة إخلال ألمانيا بإحدى التزاماتها المقررة في هذه المعاهدة، يكون لدول الحلفاء أن تقوم فورا باحتلال أجزاء معينة من إقليم الراين. وقد حدث بالفعل أن احتلت الجيوش الفرنسية والبلجيكية في عام 1923 أجزاء من الإقليم الألماني.

وخلافا للاحتلال المؤقت السلمي، هناك النمط التقليدي الغالب لحالات الاحتلال، وهو ذلك النوع الذي تنهزم فيه جيوش الدولة صاحبة السيادة على ذلك الإقليم المحتل. وينتج عن ذلك انهيار الحكومة صاحبة السيادة في االدولة أو الإقليم الذي تم احتلاله، فتقوم دولة أو دول الاحتلال بإرساء سلطة أو حكومة بديلة تتولى إدارة الدولة أو الإقليم المحتل، أو جزء منه كما في حالة الجولان السوري، وتقوم بتسيير شئونه ومتابعة المرافق العامة في تأدية واجباتها وتقديم خدماتها للمواطنين.

إن الاحتلال العسكري، سواء كان سلميا إتفاقيا أم عسكريا غاصبا، لا يمكن بحال من الأحوال أن يعدم السيادة القانونية للدولة صاحبة السيادة على الإقليم المحتل أو جزء منه. ويستحيل أيضا لذلك الاحتلال أن ينقل ملكية ذلك الإقليم المحتل أو أي جزء منه لدولة الاحتلال، طالما لم يتم الاتفاق الرضائي بين دولة الاحتلال والدولة المحتلة، على ضم الأراضي المحتلة، وطالما لم تتنازل دولة الإقليم تنازلا صريحا عن ذلك الإقليم المحتل.

ومن الثابت والجلي أن الجمهورية السورية لم تتنازل إطلاقا عن هضبة الجولان المحتلة، فالتنازل عن الأقاليم أو الجزر يعني التحويل الرسمي لحق السيادة على أراضي دولة لدولة أخرى. ذلك أن التنازل الطوعي يعطي حقا شرعيا للمالك الجديد. ويتم ذلك التنازل عادة بموجب نصوص معاهدة تنازل تحدد تماما المنطقة أو الجزء الذي سينقل لسيادة الدولة الجديدة.

لذلك، لم يكن غريبا أن ينبري العالم أجمع من فوره في التصدي الحازم للإعلان التنفيذي للرئيس الأمريكي، سواء من جانب الدول أو المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرها. ووجدت هذه الاحتجاجات الدولية الرسمية أساسها القانوني في العديد من القرارات الدولية التي صدرت عن المنظمات الدولية في ذلك الصدد. ويأتي في الصدارة من هذه القرارات: قرار مجلس الأمن رقم 242 عام 1967، والذي أكد في فقرته الأولى عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. وهذه الفقرة تدحض كافة المزاعم الباطلة التي ما فتئت ترددها دولة الاحتلال الإسرائيلي بأن مجلس الأمن تحدث عن "أراضٍ" وليس "الأراضي".

إن الاحتلال -أيا كان باعثه أو مصدره أو ضرورته- لا يعدو في القانون الدولي إلا أن يكون واقعة مادية، مهما طال أمده سواء استمر سنة أو أكثر من مئة عام، لأن الاحتلال حالة فعلية مؤقتة، وليست شرعية قانونية. لذا فأية تصرفات أو تدابير من قبل سلطات الاحتلال يكون من شأنها أن تغير من طبيعة أو ماهية أو طبوغرافية أو ديموغرافية الإقليم المحتل، تُعد معدومة وغير مشروعة، وتشكل جريمة دولية يجب المعاقبة عليها ومسائلة سلطة الاحتلال عنها وفقا لقواعد المسؤولية الدولية.

لقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن قطعت أي شك في ذلك بأحكام قضائية مبرمة تدحض أي أسانيد أو حجج أو مبررات من يتبنون الترهات الإسرائيلية بخصوص احتلالها ثم ضمها للجولان السوري. وكان من بين هذه الأحكام القضائية الحاسمة ما أصدرته المحكمة في قضية النزاع الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو في عام 1986، حيث قضت المحكمة بأنه: حين يثور خلاف بين السيادة القانونية على الإقليم مع السيادة الفعلية الواقعية على هذا الإقليم، فيجب رجوع الحق إلى صاحب الحق الأصلي القانوني.

إن عدم ممارسة الجمهورية السورية لسلطتها الفعلية على هضبة الجولان المحتلة لا يؤثر في سيادتها القانونية عليها، فاليد الإسرائيلية العارضة الطارئة الجائرة على الهضبة لا تؤسس لأي حق إسرائيلي وفقا لمبادئ وقواعد القانون الدولي والقرارات الدولية ذات الصلة، ولا تقوض أيضا أية سيادة سورية على كامل أقاليمها المختلفة. جلي أيضا أن الجمهورية السورية لم تتنازل إطلاقا عن هضبة الجولان المحتلة، فالتنازل عن الأقاليم أو الجزر يعني التحويل الرسمي لحق السيادة على أراضي دولة لدولة أخرى، ويعطي التنازل الطوعي حقا شرعيا للمالك الجديد، ويتم ذلك التنازل عادة بموجب نصوص معاهدة تنازل تحدد تماما المنطقة أو الجزء الذي سينقل لسيادة الدولة الجديدة.

جلي أيضا، أن ما قامت به إسرائيل بعد احتلالها للجولان الإسرائيلي من إقامة العديد من المستوطنات فيها، ونقل الآلاف من الإسرائيليين، لا يعد حيلة مشروعة تُكسب إسرائيل المحتلة أي حقوق قانونية أو أوضاع مادية جديدة يقرها القانون الدولي، أو يرسخها الإعلان الأخرق للرئيس الأمريكي، ولكن تُعد "غيلة" غير مشروعة تتنافي مع كافة المبادئ والقواعد السابق ذكرها، فمحال أن يستفيد أحد من جريمته، فاللاوجود واللإثبات سيان.

الحق المكتسب

في السياق ذاته، لا تستطيع دولة الاحتلال أن تدفع بأيلولة هضبة الجولان السورية المحتلة لها أو تملكها، وتدفع بالحق المكتسب لها في الأقاليم المحتلة، تأسيسا على مضي مدة طويلة من الزمن على احتلالها للأقاليم التي تعود في القانون والواقع لدولة أخرى إلا في الحالة التي لا تحتج فيها الدولة صاحبة الإقليم على الممارسات والتدابير التي اتخذتها دولة الاحتلال في ذلك الإقليم. وهنا نشير إلى أن الاعتقاد الخاطئ بصحة دفع لا يؤدي إلى التقادم المُكسِب.

ومنذ الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية في عام 1967 وحتى اللحظة الراهنة، وُجِهت إسرائيل بالاحتجاجات والمطالبات الرسمية ليس من جانب الدولة السورية وحسب، ولكن من جانب المجتمع الدولي دون استثناء. بل إن كافة الإدارات الأمريكية المتعاقبة لن تقر أي منها بالإجراءات الإسرائيلية غير الشرعية، سواء الاحتلال أو الضم، فالتقادم لا يسري على من لا يستطيع، والبينة على عاتق من يؤكد -سواء الولايات المتحدة أو إسرائيل- وليس من ينكر، ويستحيل التسليم بأن قضية الحائز أفضل من قضية المدعي.

الضم الإسرائيلي للجولان السوري المحتل

تأسيسا على الحظر العام والمطلق للجوء للقوة لاكتساب الأقاليم، والذي تناولته العديد من المواثيق والقرارات الدولية، ومنها المادة الثانية من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، يمتد أيضا ذلك الحظر إلى ضم الأقاليم المحتلة غصبا على إرادة الدول والشعوب. وقد تم التأكيد على ذلك المبدأ في القرار رقم 2625، المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية بين الدول، والذي ينص على أن: "أي اكتساب إقليمي يتم الحصول عليه بواسطة التهديد باستخدام القوة أو باستخدامها لن يُعترف به كأمر قانوني". ومن جانبنا فإننا نؤكد أن القوة الغاشمة ليست قانونا.

لقد درجت منظمة الأمم المتحدة على التصدي ضد كافة إجراءات الضم غير الشرعية التي قامت بها إسرائيل، سواء للضفة الغربية أو قطاع غزة أو القدس الشرقية، فضلا عن الجولان السوري المحتل. وبخصوص الجولان المحتل، تحديدا، وحين أقدمت دولة الاحتلال على إصدار قرار من الكنيست الإسرائيلي أو ما عرف بـ"قانون الجولان" والذي بمقتضاه فرضت إسرائيل القانون والقضاء والإدارة الإسرائيلية على هضبة الجولان، لم يعترف المجتمع الدولي بالقرار الغاصب الجائر، ورفضه مجلس الأمن بأشد العبارات في قراره رقم 479 بتاريخ 17 ديسمبر عام 1981، والذي صدر بعد ثلاثة أيام فقط من القرار الإسرائيلي الغاصب. ونشير إلى أن القرار المتقدم لمجلس الأمن صدر بإجماع كافة أعضاء المجلس.

لقد أكد مجلس الأمن في قراره المتقدم أن الاستيلاء على الأراضي بالقوة غير مقبول بموجب ميثاق الأمم المتحدة، واعتبر القرار الإسرائيلي ملغيا وباطلا ومن دون فاعلية قانونية على الصعيد الدولي. وطالب مجلس الأمن من إسرائيل -بوصفها قوة محتلة- أن تلغي قرارها فورا. وتجد هذه المبادئ القانونية والقرارات الدولية المتقدمة أساسها في مبادئ القانون الطبيعي الذي استلهمت منه كافة القوانين الوضعية ومنها القانون الدولي، حيث ترسخت القاعدة الدولية والداخلية المعروفة: "من الإنصاف أن لا يثري أحد على حساب الغير بغير وجه حق"، فلا يمكن لأحد أن يجني فائدة من جريمته.

الوثيقة الأمريكية والدولة الثالثة

أصدر الرئيس الأمريكي في الخامس والعشرين من مارس 2019 إعلانا تنفيذيا Executive Proclamation يقر فيه بـ"السيادة" الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة. وقد أثار ذلك الإعلان العديد من التساؤلات السياسية والقانونية والأمنية وحتى الانتخابية المرتقبة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. بيد أننا سنجتهد في السطور التالية في سبر الأغوار القانونية لماهية الوثيقة الأمريكية وآثارها، فضلا عن موقف الولايات المتحدة باعتبارها "الطرف الثالث" في هذه المعادلة.

يرى معظم المتابعين في شأن السياسة الداخلية الأمريكية، أن الرئيس الأمريكي لم يقم باستشارة أي خبير أو مستشار قانوني قبل أن يُقدم على هذه الخطوة الخطيرة غير المسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة منذ احتلال الجولان السوري في العاشر من يونية عام 1967. ومن جانبنا فإننا نشاطرهم الرأي في ذلك المنحى.

لقد مهر الرئيس الأمريكي "إعلانا تنفيذيا" Executive Proclamation  وليس "أمرا تنفيذيا" Executive Order، وهو يدرك تماما وفق السابقات الأمريكية أن الإعلانات الرئاسية الأمريكية لا تحوز أية إلزامية قانونية مقارنة بالأوامر التنفيذية. وتدليلا على ذلك فإن ذات الرئيس الأمريكي –ترامب- وفي شأن فرض العقوبات الأمريكية الأخيرة ضد إيران، أصدر "أمرا تنفيذا" وليس "إعلانا تنفيذيا" لا يستحق المداد الذي مُهر به، بل إن الأوامر التنفيذية على الجانب الآخر لا تحوز أيضا أية إنفاذية ذاتية قانونية في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، إلا بعد أن يصدر تشريعا من الكونجرس، وإلا كانت وثيقة معدومة دستوريا.

يقينا، يدرك الرئيس الأمريكي وجميع مستشاريه، أنهم يعدون في القانون الدولي: الدولة الثالثة أو الطرف الثالث في الحالة السورية- الإسرائيلية الراهنة، ومن ثم فجميعهم يدركون أن "لا يستطيع أحد أن ينقل ملكية ما لا يملكه"، وهي قاعدة معروفة في كافة تشريعات الدول الداخلية ومنها الإدارة الأمريكية. ويدركون أيضا أن كافة التشريعات والأحكام القضائية والتدابير التنفيذية الداخلية للدول ومنها بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية –الطرف الثالث في المعادلة السورية الإسرائيلية– أن صدرت بالمخالفة لقواعد القانون الدولي وتعهدات الدولة، فهي تُعد مجرد وقائع مادية لا قانونية في القانوني الدولي، ولا تغير من المراكر القانونية المستقرة. وهنا، فالجولان أراضي سورية محتلة غصبا وكرها.

وختاما، فإننا نذهب مذهب كافة الشراح في كافة المدارس القانونية المختلفة، والذين قرروا بأن الوثيقة الأمريكية المتقدمة ليس لها من أي أثر على المركز القانوني للجولان المحتل، ولا تؤثر أيضا في القرارات الدولية العديدة في ذلك الصدد. ويمكن لكل من له صفة أو مصلحة في كبح جماح الرئيس الأمريكي أن يرفع دعوى قضائية في الدوائر الأمريكية المختلفة ضد الإعلان الرئاسي المتقدم تأسييسا على القانون الدولي والدستور الأمريكي ذاته.


رابط دائم: