اتجاهات دراسة النظم السياسية في ضوء أزمة الديمقراطية في الغرب
2019-2-3

شروق صابر
* باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

عقد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية سميناره العلمي العاشر، في 8 يناير 2019، تحت عنوان "اتجاهات دراسة النظم السياسية في ضوء أزمة الديمقراطية في الغرب". تحدث فيه د. وحيد عبد المجيد، مدير المركز، عن الاتجاهات الجديدة لدراسة النظم السياسية في وقت الأزمة. بينما تحدثت د. دينا شحاته، الخبير بالمركز، عن المصادر السياسية والمؤسسية لأزمة الديمقراطية في الدول الغربية.

أولًا: المصادر السياسية والمؤسسية لأزمة الديمقراطية في الدول الغربية

في البداية تحدثت د. دينا عن المصادر السياسية والمؤسسية لأزمة الديمقراطية في الدول الغربية. ركزت في مداخلتها على ثلاث نقاط رئيسية، شملت: توصيف ومظاهر الأزمة الراهنة في الديمقراطيات الغربية، والأسباب السياسية والمؤسسية الرئيسية للأزمة، وأخيرا بعض المقاربات المهمة لفهم الأزمة.

1- توصيف ومظاهر الأزمة

حددت د. دينا شحاته أهم مظاهرة الأزمة الحالية للديمقراطيات الغربية في:

أ- تصاعد وتيرة المعارضة الشعبية للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة في الدول الغربية.

ب- تصاعد الأصوات الرافضة للعولمة ومشروعات التجارة الحرة والاندماج الاقتصادي، والمطالبة بسياسات اقتصادية حمائية.

ج- تصاعد المطالبات بسياسات تحد من الهجرة.

د- تراجع شعبية الأحزاب الرئيسية وشعبية الأحزاب الراديكالية من اليمين واليسار.

هـ- تراجع نسب المشاركة السياسية ونسب الانتماء للأحزاب ونسب الثقة في النخب السياسية.

و- تزايد الاحتجاجات والحركات غير الرسمية، وتراجع دور النقابات ومنظمات المجتمع المدني التقليدية.

ز- تصاعد التيارات الشعبوية اليمينية ونجاحها في الوصول إلى السلطة في عدد من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل والمجر وبولندا والنمسا، وتصاعد حصتها من الأصوات الانتخابية في دول مثل السويد وألمانيا وهولندا، ونجاحها في دفع بريطانيا للتصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي.

2- الأسباب السياسية والمؤسسية

أشارت د. دينا إلى أن أزمة الديمقراطية الغربية تعود إلى تغول الجانب الليبرالي بشقيه الاقتصادي والسياسي في الديمقراطيات الغربية. فقد تحولت العديد من الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي إلى نظم ليبرالية شبه ديمقراطية، حيث تم حصر المشاركة الشعبية في العديد من القرارات السطحية، بينما تم تناول القرارات المصيرية في الغرف المغلقة ومن قبل مؤسسات غير منتخبة. ولعل أفضل نموذج على ذلك هو حالة "حزب سيريزا" في اليونان الذي وصل إلى السلطة بناء على برنامج رافض لسياسات التقشف التي فرضتها الترويكا الأوروبية على اليونان، وانتهى به الأمر إلى قبول هذه السياسات رغم الرفض الشعبي الواسع لها.

ويمكن فهم هذا التوجه استنادًا إلى عدد من العوامل السياسية والمؤسسية، وهي:

أ- هيمنة عدد محدود من الأحزاب السياسية من يمين ويسار الوسط على العملية السياسية في الديمقراطيات الغربية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تبنت توجهات اقتصادية متقاربة إلى حد بعيد.

ب- قيام معظم الديمقراطيات الغربية بتبني أسلوب تفاوضي بين النخب السياسية، وذلك لتفادي الصراعات والاستقطابات المجتمعية ما أدى إلى انتقال عملية صنع القرار إلى الغرف المغلقة وخارج الهيئات المنتخبة، مثل المحاكم والبنوك المركزية، والتي لعبت دورا مهما في حسم العديد من القضايا الخلافية والمحورية.

ج- تصاعد دور الهيئات الخارجية مثل الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة الدولية والاتفاقيات الاقتصادية النقدية والمالية واتفاقيات التجارة الحرة المختلفة والتي يقوم بإدارتها خبراء غير منتخبين محليا، ومن ثم نزع معظم القرارات الاقتصادية والاجتماعية من المجال الوطني ومن الهيئات المنتخبة.

د- هيمنة القضايا النوعية والحقوقية على الأجندة السياسية على حساب القضايا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي.

هـ- تراجع التوازن بين الحريات السياسية والاقتصادية من جانب، والإرادة الشعبية من جانب آخر، حيث أصبح هناك انطباع بأن المنظومة الليبرالية التي تؤكد على الحريات أصبحت لها الأولوية في النظم الديمقراطية بينما منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تراجع مستمر.

وقد أدى ما سبق إلى تراجع دور المواطن وإقصاء فئات كاملة من الحسابات السياسية، الأمر الذي نتج عنه ظهور أحزاب وقوى خارج المنظومة التقليدية على أقصى اليمين وأقصى اليسار نجحت في البناء على هذه المظالم وتشكيل كتلة جديدة مضادة لسياسات النخب التقليدية.

3- مقاربات لفهم الأزمة

رأت د. دينا أن الافتراض الضمني الأساسي في مجال العلوم السياسية منذ تأسيسه هو أن الديمقراطية الليبرالية كما تشكلت في الدول الغربية هي النموذج والهدف الأخير الذي تتطور نحوه جميع النظم السياسية، وأن تراجع وتقدم الديمقراطية في العالم هي مسألة تخص بالأساس دول الشرق والجنوب حيث إن الدول الغربية وصلت بالفعل إلى نهاية التاريخ أو نقطة المنتهى.

وكانت فكرة تراجع الديمقراطية الليبرالية في الدول الغربية غير واردة أو مطروحة حتى فترة قريبة ما جعل مجال العلوم السياسية غير مؤهل بشكل كافي للتعامل مع التطورات الأخيرة في الدول الغربية، ما يتطلب مراجعة العديد من البديهيات والمسلمات في مجال العلوم السياسية في حالته الراهنة.

نظريات العلوم السياسية الحالية

تناولت د. دينا عقب ذلك بعض النظريات المطروحة حاليًا لفهم التطورات الأخيرة في الدول الغربية، والتي تركز على ما بعد التحول الديمقراطي. وقد ركزت هذه النظريات على طبيعة النظم المختلطة hybrid regimes- والديمقراطية غير الليبرالية illiberal democracy إلا أن هذه النظريات تظل نظريات وصفية وتصنيفية وليست تحليلية، والتحليل الأهم الذي تقدمه هذه النظرية غير مفيد لفهم التطورات الأخيرة في الدول الغربية لأنه يركز على فكرة أن التحول الديمقراطي في دول الموجة الثالثة كان سابقا على زمنه وأن هذه الدول لم تكن لديها المقومات المطلوبة لترسيخ العملية الديمقراطية ما أدى إلى تراجع أو عدم ترسخ الديمقراطية الليبرالية في هذه الدول.

المدخل الثاني، هو المدخل الثقافي أو الهوياتي Clash of Civilization، والذي يؤكد على غلبة قضايا الهوية في المرحلة التاريخية والراهنة، وأن الصراعات الحالية هي صراعات ذات طبيعة ثقافية، وأن أكثر الصراعات في القرن الواحد والعشرين ستكون صراعات داخلية بين مجموعات إثنية وثقافية متباينة. وتركز الكثير من الأدبيات التي تتناول صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية على العوامل الهوياتية مثل رفض الهجرة والتنوع الثقافي والإثني.

وأشارت د. دينا إلى أن البعد الغائب في الأدبيات الراهنة هو الحاجة إلى فهم تزايد التناقض الداخلي على المستويين النظري والتطبيقي في بنية الديمقراطيات الغربية بين الليبرالية الاقتصادية والسياسية من ناحية، وبين الديمقراطية أو الإرادة الشعبية من ناحية أخرى. هذا التناقض الداخلي وعدم التوازن المتزايد بين جانبي المعادلة هو ما أدى إلى تطور الأزمة الراهنة في الدول الغربية. كما توجد حاجة إلى مراجعة النظريات التي سادت مؤخرًا والتي أدت إلى تناول المجتمعات المغربية من منظور ما بعد المجتمع الصناعي والتركيز على الطبقة الوسطى والقضايا الحقوقية والنوعية وعودة المنظور الطبقي أو الماركسي في فهم ديناميات المجتمعات الغربية.

ثانيًا: الاتجاهات الجديدة في دراسة النظام السياسي في ضوء الأزمة

أشار دكتور وحيد عبد المجيد، في بداية حديثه إلى أن التحدي الرئيسي في أزمة الديمقراطية الآن هو ما يتعلق بمسألة التمثيل السياسي، أي انتخاب رؤساء وأعضاء برلمانات يمثلون الشعب، وينوبون عنه في إدارة الشأن العام حتى الانتخابات التالية. وهو تحدٍ بدأت إرهاصاته الأولى منذ سبعينات القرن الماضي في بريطانيا كرد فعل على السياسات "التاتشرية". الآن الجزء الأعظم من الاحتجاجات التي تشهدها الدول الديمقراطية الغربية يرتبط بهذا التحدي، إذ يرى المحتجون أن هذا التمثيل لم يعد كافيًا لتحقيق "الديمقراطية"، بما في ذلك الكثير من الحركات الشعبوية؛ فالمنطلق الأساسي لمعظم هذه الحركات هو الشعور بأن الديمقراطية التمثيلية ليست كافية، وأن هناك من "يحتكرونها".  

وأكد د. وحيد أن الاتجاهات الجديدة في دراسة النظام السياسي قليلة؛ فالأدبيات كثيرة، لكن الإسهامات الجديدة فيها قليلة. فمن الملاحظ ندرة الأسماء الجديدة في هذا المجال في السنوات الأخيرة، ومازال الذين حققوا تراكمًا على مدى فترة طويلة هم الأكثر إنتاجًا، ومنهم على سبيل لاري دياموند Larry Diamond، وفرانسيس فوكوياما. وأشار في هذا الإطار إلى الكتاب الجديد لدياموند:

III Winds: Saving Democracy from Russian Rage, Chinese Ambitions, American Complacency.

وتحدث د. وحيد عن ثلاثة اتجاهات رئيسية في هذا الإطار:  

الاتجاه الأول

ينطلق من وجود أزمة عميقة تواجه النظام الديمقراطي في الغرب، ويقوم بتقديم تشخيصًا لها، لكن نادرًا ما يطرح أنصار هذا الاتجاه إلى تصورات محددة لمآلاتها، أو أفكار جديدة لمعالجتها. ويأتي في مقدمة الكتابات المهمة في هذا إطار هذا الاتجاه كتاب فرانسيس فوكوياما Political Order and Political Decay: From the Industrial Revolution to the Globalization of Democracy  الصادر  في عام 2014، والذي تضمن نقدا ذاتيا ضمنيا لأطروحة فوكوياما حول "نهاية التاريخ". ثم ظهر بعده كتاب لاري دياموند In Search of Democracy الصادر في عام 2015. ويُعد هذان الكتابان أول محاولتين جادتين منهجيتين لتحليل أوضاع الديمقراطيات الغربية وتسليط الضوء على وجود أزمة حقيقية في النظام الديمقراطي الغربي وتقديم معالجة لها.

ثم جاء كتاب ثالث، بالرغم من كونه صغير الحجم قياسًا إلى مشاركة 8 مؤلفين في كتابته، لكنه بالغ الأهمية، وحرره لاري دياموند ومارك بلاتنروكتبت مقدمته كوندوليزا رايس، وهو بعنوان Democracy in Decline?.

وقد قام هذا الاتجاه بتشخيص الأزمة في عدة عناصر، أهمها: ضعف أداء المؤسسات، وضعف معدلات تجديد النخبة السياسية، وازدياد الاتجاه إلى تدويرها، وضعف التواصل بين النخب السياسية والجمهور، وتراجع ثقة أعداد متزايدة من الناخبين في الأحزاب التقليدية أو الوسطية، وازدياد التفاوت الاجتماعي والتهميش الاجتماعي.

ومن بين الملامح المهمة التي اهتم بها البعض ازدياد طلب فئات داخل المجتمع بالشعور بالكرامة، وعدم قدرة المؤسسات الديمقراطية على تلبية هذه الحاجة الجديدة، ومن ثم يزداد استيائهم، ولعل هذا هو موضوع كتاب فوكوياما الأخير الصادر منذ شهور قليلة بعنوان Identity: The Demand of Dignity and the Politics of Resentment.

وهناك كتاب مهم ثان صدر في الوقت نفسه وكتبه كوامي أنتوني أبياه Kwame Anthony Appiah: The Lies That Bind: Rethinking Identity.وهو يشاطر فوكوياما جوهر فكرته، لكن بحثه في العلاقة بين أزمة المؤسسات الديمقراطية ومسألة الكرامة ينطوي على أبعاد فلسفية وفكرية.

وفي وصف هذا الاتجاه لأزمة الديمقراطية، استُخدمت أوصاف متعددة أكثرها شيوعًا أنها أزمة ركود سياسي Political Recession، وأزمة جمود سياسي Political Stagnation في تاريخ النظام الديمقراطي، وذلك لأن التداول على السلطة لم يعد كافيًا بسبب التقارب المتزايد في اتجاهات الأحزاب الوسطية، لذا يزداد الطلب على قوى جديدة شعبوية سواء يمينية أو يسارية، وقوى قومية متشددة.

المشكلة هنا أن الحلول المطروحة في هذا السياق محدودة ومكررة، وهذا يرتبط بوجود حالة "فقر" فكري وثقافي في العقود الأخيرة في العالم، لذا نجد أن الحلول المطروحة، معظمها مصدرها حركات اجتماعية راديكالية. على سبيل المثال، موضوع "الديمقراطية التشاركية"، والأفكار التي تُطرح في إطاره معظمها خيالي، حتى الآن يصعب تنزيلها على الواقع، ولكن بعضها واقعي بدأ إيجاد آليات له، مثل آلية جمع توقيعات لإعادة النظر في قانون أو قرار، فإذا وصل الموقعون إلى نسبة محددة يُطرح القانون أو القرار لحوار مجتمعي. ولكن مشكلة هذه الآلية أنها تتسم بعدم اليقين، بسبب عدم وضوح الخطوة التالية للحوار المجتمعي أو كيفية تقييم نتائجه.

وهناك أيضًا آلية توسيع الاعتماد على الاستفتاء العام، بحيث يُجرى استفتاء على أي قانون أو قرار يؤثر على حياة قطاع واسع من المجتمع. مشكلة هذه الآلية أيضًا عدم وجود معيار دقيق في هذا المجال.

وأكثر الأفكار التي يتم طرحها في إطار هذا الاتجاه مصدرها من يعتقدون أن التفاوت الاجتماعي هو المصدر الرئيسي للأزمة، وهي غالبًا تأخذ شكل حلول مالية أكثر منها سياسية واقتصادية، ومعظمها يتعلق بالنظام الضريبي. ومازال الطرح التقليدي المتعلق بمعالجة التفاوت الاجتماعي يتمثل في تعديل النظام الضريبي أو إضافة ضرائب جديدة، منها زيادة الضرائب على الشركات تصاعديًا، وفرض ضريبة إضافية على أصحاب الدخول الأعلى، وفرض ضريبة ثروة، وفرض ضريبة على الانبعاثات الكربونية.

لكن الطرح المضاد الذي يحذر من خطر زيادة الضرائب على الاستثمار لديه أسانيده وحججه أيضًا، وهذا الطرح يبدو أقوى في الفترة الأخيرة لأنه أكثر قدرة على التجدد.

الاتجاه الثاني

هو اتجاه يرى عدم وجود أزمة هيكلية في النظام الديمقراطي وإنما هناك مشكلات تتعلق بتحول في أنماط التفاعل في النظام الديمقراطي. وينطلق من أن المعيار ليس عدد الدول التي تعتبر ديمقراطية، والتي لا تعد كذلك، بل عدد الدول التي تجهر حكوماتها برفض الديمقراطية، وتلغيها، وتقيم نظم ديكتاتورية كاملة كما حدث بين العشرينيات والأربعينيات في القرن الماضي في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، ثم بعد الحرب العالمية الثانية في دول المعسكر السوفيتي، ثم في اليونان والبرتغال في الستينيات والسبعينيات (1967، 1974).

وهناك اتجاه يرى أن الالتفاف على الديمقراطية دليل على قوتها، وليس على أزمتها، لأنه يعني تجاوز مرحلة كان من السهل فيها إلغاء الديمقراطية. ويرصد أن الاتجاه إلى الالتفاف على الديمقراطية أكثر بكثير من الاتجاه إلى إلغائها، ومن أهم أدبياته كتاب Wolfgang Merkel and Sascha Kneipبعنوان: Democracy and Crisis: Challenges in Turbulent Times

وأحد الاقترابات المهمة في إطار هذا الاتجاه اقتراب يختلف أركانه مع أطروحة أزمة الديمقراطية، لكنهم لا يناقشونها، بل يركزون على انتشار النظام الديمقراطي في الحكم، وازدياد حالات التطور نحوه، مثل تيد بيكون في كتابه Rising Democracies، الذي يناقش فيه تجارب عدة أهمها إندونيسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل. والاختلاف بين هذا الاتجاه والاتجاه الأول هو أنه لا يريد أن يقر بوجود أزمة ويعتبرها مشكلة أنماط جديدة من التفاعلات سوف تصبح معتادة بعد فترة من الوقت وسوف تؤدي إلى تطوير الديمقراطية وليس إلى انهيارها أو تراجعها في الغرب.

الاتجاه الثالث

يمكن تلخيص الأطروحة الأساسية لهذا الاتجاه في وجود أزمة، لكنها ليست أزمة الديمقراطية، بل أزمة الليبرالية. هذا الاتجاه ينطلق من التمييز بين الليبرالية والديمقراطية وهو تمييز صحيح. وتتلخص أطروحته في أن الأزمة الأساسية ترتبط بأن العالم يشهد ارتدادًا عن القيم الليبرالية الأساسية، حيث تتراكم الأزمة منذ السبعينيات عندما بدأت الليبرالية الجديدة في الظهور لأسباب أهمها الصدمة التي أحدثتها انتفاضات 1968 في فرنسا وبلاد أخرى لقطاع من التيار المحافظ، واتجاه مجموعة من شبابه الأكاديميين إلى تطوير فلسفة متكاملة مضادة لأهم مقومات الليبرالية من داخلها، مع التركيز على إثبات خطأ مبدأ المساواة، والسعي إلى إثبات أن التفاوت بين البشر هو أمر طبيعي، أي يتعلق بطبيعة كل فرد، وليس ناتجًا عن أوضاع اقتصادية واجتماعية، وأن الفقير صار فقيرًا لأنه لا يملك إمكانات تؤهله لأن يكون غير ذلك.

والليبرالية الجديدة تعد فلسفة عميقة، وليست مجرد سياسات اقتصادية يراها البعض متوحشة، وإنما هي في واقع الأمر تطوير للفلسفة المحافظة بشكل أكثر عمقًا وتعقيدًا، وقد انتشرت في أجواء "تصحر" فكري وفلسفي في أوروبا، وفي ظل عجز المثقفين الليبراليين والاشتراكيين عن تجديد أطروحاتهم في عصر جديد مختلف تمامًا عن ذلك الذي ظهرت فيه الليبرالية والاشتراكية بمدارسها الكثيرة والمختلفة. ويرى هذا الاتجاه أن الأزمة الراهنة هي أزمة في القيم الليبرالية الأساسية التاريخية تنعكس وتؤثر على النظام الديمقراطي.

***

عقب انتهاء المداخلتين الرئيسيتين ناقش عدد من الحضور مجموعة من الأفكار التي تم عرضها. فقد رأى الأستاذ نبيل عبد الفتاح، مستشار المركز، أن استمرار وجود النخب السياسية التقليدية مع عدم قدرة الأحزاب التقليدية على تجنيد وجوه جديدة خلق نوعًا من طبقة تكنوقراطية تسيطر على الحياة السياسية في مراكز اتخاذ القرار، غير مهتمين بما يعانيه المجتمع من تهميش اجتماعي. فإذا نظرنا إلى حالة "السترات الصفر" نجد أنها منبثقة من الطبقات الوسطى وأصحاب المعاشات والذين أصبحوا غير قادرين على مواجهة غلاء أسعار السلع والضرائب المتزايدة.

وأكد د. وحيد أنه من ضمن التفسيرات التي يقدمها الاتجاه الأول للأزمة هي أن الطبقة الوسطى أصبحت عصية على الإرضاء، فمهما قُدم لها ومهما حدث تريد دائمًا المزيد، وبالتالي أصبحت تطلعاتها المتزايدة مصدر قلق لدى المؤسسات المنتخبة.

وأضاف د. عمرو الشبكي، الخبير بالمركز، أنه في ظل التحديات الجديدة، هناك جزء من أدبيات النظم السياسية يشير إلى أن انهيار النظام الديمقراطي غير مطروح الآن، ولكن يبقى السؤال: هل سيستمر النظام الديمقراطي يمتلك نفس القدر في إعادة دمج وتأهيل للخطاب اليميني القومي الشعبوي، أم أننا سنكون أمام مشهد جديد يختلف عن التراث السابق على مدار 60 عامًا؟

وأشار د. محمد عباس ناجي، رئيس تحرير مجلة مختارات إيرانية، إلى الدور الذي تقوم به المؤسسات المنتخبة والتي في بعض الأحيان تمثل أزمة للنظم الديمقراطية وفي البعض الآخر تنقذ النظم الديمقراطية من حدوث الأزمات، فإذا نظرنا إلى نموذج الولايات المتحدة نجد أن تلك المؤسسات هي التي قامت بمعالجة بعض القرارات الخاطئة التي اتخذها ترامب، ولكن في بعض الأحيان نجد أن تزايد دور المؤسسات غير المنتخبة هو ما يضبط تغول المؤسسات المنتخبة وتأثيرها السلبي على العملية الديمقراطية.

ورأى د. جمال عبد الجواد، مستشار المركز، أن هناك حراكًا اجتماعيًا ناتجًا عن ردود أفعال متباينة من قبل المواطنين إزاء ما يحدث في الدولة؛ ففي حين أن هناك جزءً كبيرًا منهم متضرر نجد البعض الآخر ليس متضررا. وفي ظل هذا "التفتيت" تبرز مسألة التمثيل، حيث لم يعد هناك تطور ما بين تلك الأفراد. ومن الملاحظ في حركات الاحتجاج الاجتماعي الجديدة عدم وجود رأس أو قيادة لها.

وبين د. محمد السعيد إدريس، مستشار المركز، أن الديمقراطية الغربية قد تصل إلى ما هو أبعد من الأزمة نظرًا لعاملين، عامل التكنولوجيا وعامل الرأسمالية المتوحشة، ورجح أن أوروبا مقدمة على أزمة، مظهرها الرئيسي تصاعد الشعبوية.

وأشار د. زياد عقل، الخبير بالمركز، إلى أهمية دراسة العلاقة ما بين الفرد والمجتمع، ورأى أنها من أهم المتغيرات التي تشهدها المجتمعات حاليًا، كما أنه يتم إعادة صياغة دور النخب وطبيعتها داخل عدد من المجتمعات سواء تلك التي مرت بتحولات سياسية أو تلك التي لديها فرصة للانفتاح السياسي.

وأضاف د. أيمن عبد الوهاب، رئيس وحدة الدراسات المصرية بالمركز، أن دراسة العلاقة الثلاثية ما بين الدولة والمجتمع والمواطن، أصبحت هي جوهر المشكلة اليوم، والتي تتعلق بالبحث في علاقة المواطن في إطار البحث عن مشكلة التمثيل والتغيير.

وطرح د. محمد عز العرب، رئيس الوحدة العربية والإقليمية بالمركز، سؤالًا حول المؤشرات الإجرائية التي يتم من خلالها قياس صعود أو هبوط التيارات التقليدية.

أيضًا طرحت الأستاذة مرام ضياء، الباحثة بوحدة الدراسات الدولية، سؤالًا يتعلق بأسباب توجه طبقة الشباب للتصويت للتيارات المتطرفة، بالرغم من أنهم أكثر فئة استفادت من العولمة، فلماذا يطالبون الشباب بوقف ما استفادوا به ويرفضون استفادة غيرهم به؟.

وأشارت د. دينا أنه ليس بالضرورة أن تعود العولمة بالنفع على الشباب الأوروبي، وذلك نظرًا للظروف غير المستقرة التي تواجهها تلك الفئة في سوق العمل وعدم توفر وظائف دائمة، وتراجع الحماية الوطنية فقطاع من الشباب يشعر دائمًا بأنه أكثر تضررًا من الأجيال السابقة التي كانت تحصل على وظائف وبرامج حماية اجتماعية ثابتة.


رابط دائم: