أزمة الدولة العربية وصراعات الهوية: مرحلة ما بعد الربيع العربي - عرض العدد 289 – كراسات استراتيجية
2018-10-27

شروق صابر
* باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

عانى العالم العربي صراعات داخلية وحروبًا أهلية ذات أبعاد دينية وطائفية عرقية في مرحلة ما قبل "الربيع العربي". وكشفت التحولات السياسية والأمنية الكبرى التي شهدها منذ انطلاقة هذا الربيع عن الأزمة البنيوية العميقة التي تعاني منها الدولة الوطنية، فهناك دول باتت تواجه خطر التفكك والفشل، ودول أخرى تعيش حالة ضعف وهشاشة تجعلها غير قادرة على القيام بوظائفها بفاعلية وكفاءة، وبذلك أصبحت حالة الفوضى واللانظام تمثل الملمح الأبرز لمرحلة ما بعد "الربيع العربي"، حيث تبخرت وعود هذا "الربيع" في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتمخض عنها بالمقابل سلسلة من الحروب والمواجهات ذات الأبعاد السياسية والدينية والطائفية والعرقية والقبلية، والتي أصبحت تشكل ملامح ومسارات السياسات الجديدة في العالم العربي.

وتعد صراعات الهوية صراعات مركبة وممتدة، حيث إنها غالبًا ما تستمر لفترات زمنية طويلة نسبيًا، وتضرب بجذورها في الهياكل والتكوينات الاجتماعية والدينية والثقافية، ولذلك تكون عملية تسويتها صعبة ومعقدة.

من هنا تأتي أهمية تلك الدراسة التي قدمها الدكتور حسنين توفيق إبراهيم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايدبدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تنطلق الدراسة من أن صراعات الهوية هي الوجه الآخر لأزمة بناء الدولة الوطنية الحديثة، نظرًا لفشل النخب الحاكمة في العديد من الحالات في بناء دولة وطنية تتمتع بالفاعلية والشرعية، بحيث تكون قادرة على القيام بوظائفها الرئيسية بفاعلية وكفاءة من ناحية، واستيعاب التعددية المجتمعية (الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية) في إطار هوية وطنية جامعة تجسدها الدولة، من ناحية أخرى.

وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسة.يتناول القسم الأول منها أزمة بناء الدولة الوطنية في العالم العربي وصراعات الهوية، مع التركيز على الجذور التاريخية؛فمن المعروف أن هذه الأزمة تلقي بتأثيراتها السلبية على كثير من الأوضاع الداخلية في البلدان العربية، وذلك بالنظر إلى الدور المركزي الذي تنهض به الدولة، سواء لجهة الوظائف التقليدية المنوطة بها وبخاصة فيما يتعلق منها بتوفير الأمن والحماية لمواطنيها، وتوفير السلع والخدمات العامة لهم، أو لجهة دورها التنموي، حيث اهتمت أدبيات التنمية برصد وتحليل ظاهرة "الدولة التنموية" كما جسدتها تجارب وخبرات العديد من الدول على الصعيد العالمي.

فنتيجة لفشل بناء دولة وطنية قادرة على استيعاب التعددية المجتمعية في إطار هوية وطنية جامعة في كثير من البلدان العربية، اندلعت حروبا أهلية في مرحلة ما قبل "الربيع العربي". منها الحرب الأهلية في السودان، التي استمرت لعدة عقود، وانتهت بانفصال الجنوب في شكل دولة مستقلة في عام 2011، وأيضًا الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من عام 1975 حتى 1990.

ويناقش القسم الثاني مخاطر تفكك الدولة الوطنية وصراعات الهوية في مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، من حيث أنماطها وأسبابها، وجدلية العلاقة بين العوامل الداخلية والخارجية في تشكيل مساراتها ومخرجاتها. كما تناول هذا القسم أيضا صراعات الهوية في بعض البلدان العربية، وبخاصة تلك التي شهدت وتشهد حروبًا داخلية وصراعات متفجرة في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن. فهذه البلدان باتت تشكل مختبرات وحالات نموذجية للتزامن بين معضلتي أزمة الدولة الوطنية من ناحية، وصراعات الهوية، من ناحية أخرى.

أما القسم الثالث من الدراسة فقد تناول التأثيرات الكارثية لصراعات الهوية على كل من الدولة والمجتمع. وتم التركيز خلاله على رصد وتحليل أهم التأثيرات السلبية القائمة والمحتملة لصراعات الهوية على كل من الدولة والمجتمع في العالم العربي. فقد أصبحت عملية إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع (حال التوصل إلى تسويات) تشكل قضية رئيسية في الدول المعنية، لما تتطلبه من موارد مالية هائلة، وقوانين وتشريعات جديدة، فضلاً عن إدارات ومؤسسات كفؤة لتحقيق هذا الهدف.ولعل تجربة إعادة الإعمار في العراق في مرحلة ما بعد صدام حسين، تمثل حالة نموذجية للفشل في تحقيق هذا الهدف، رغم كل الإمكانيات التي يمتلكها العراق مقارنة بدول مثل سوريا واليمن.

كل تلك التحديات يقابلها الصراعات والحروب الداخلية ذات الصلة بمسألة الهوية والتي قد تُعمق (في حال استمرارها) من ظاهرة فشل الدولة وتفككها، حيث إن دولاً مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن باتت مهددة في وجودها ككيانات سياسية، وكثيرًا ما يُطرح خيار التقسيم في بعض هذه الدول، وفي ظل هذا الوضع تصبح هذه الدول ملاذات آمنة للفاعلين المسلحين من غير الدول، سواء كانوا تنظيمات جهادية إرهابية مثل داعش و"القاعدة"، أوعصابات الجريمة المنظمة، أو تكوينات قبلية وطائفية.

واختتم د. حسين الدراسة بتسليط الضوء على مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي في ضوء تصاعد صراعات الهوية، ورأى أن مستقبل العالم العربي يبدو قاتمًا على الأقل خلال الأجلين القصير والمتوسط، إذ يتنازعه سيناريوهان كبيران.ينطلق أولهما، من استمرار الصراعات والحروب الداخلية وحالة التفكك والتمزق التي تعاني منها دول عربية كبيرة مثل سوريا والعراق واليمن.ويأتي ثانيهما، من عدم التوصل إلى شروط التسوية في أي من الحالات المذكورة.ما يعني استمرار ظاهرة غياب الدولة الوطنية والهويات الممزقة والمتصارعة في هذه البلدان.كما ستبقى دول عربية أخرى عديدة تعاني من الضعف، وتعيش على وقع أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية حادة ومتزامنة، قد تفضي إلى احتجاجات اجتماعية واسعة.


رابط دائم: