ما الذي يعنيه نمو الاحتياطي الأجنبي لمصر؟
2018-10-23

حسين سليمان
* باحث اقتصادي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

كانت أزمة الاحتياطي الأجنبي في مصر هي المحرك الأبرز وراء إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، في النصف الثاني من عام 2016، وكذلك وراء استهلال إصلاحات البرنامج بإجراء جذري غير مسبوق في الاقتصاد المصري، وهو التحرير الكامل لسوق صرف العملات الأجنبية، في شهر نوفمبر من العام نفسه.

فبسبب تراجع الاحتياطي الأجنبي، على الأقل خلال العام السابق لتحرير سوق الصرف، نظرًا لتراجع عائدات الصادرات والسياحة لأدنى مستوياتها خلال عقدٍ،[1] أصبح تثبيت سعر صرف العملات الأجنبية مقابل الجنيه المصري، من خلال ضخ المزيد منها في السوق المحلية خصما من الاحتياطي الأجنبي، أمرًا مكلفًا، وهو ما دفع البنك المركزي إلى تخفيض سعر الجنيه المصري أمام الدولار في شهر مارس 2016، من 7.7 جنيهًا للدولار الواحد، إلى 8.8 جنيهًا تقريبًا.[2] وبسبب وضوح صعوبة المحافظة على هذا التوجه من جانب البنك المركزي لفترة طويلة، وتوقع حتمية رفع أسعار العملات الأجنبية، فقد أجج ذلك من ممارسات المضاربة، من خلال شراء والاحتفاظ بالعملات الأجنبية انتظارًا لارتفاع أسعارها، وهو ما عزز من الطلب على العملات الأجنبية، وخلق سوقًا موازية لها، وأضاف إلى الضغط على البنك المركزي لضخ المزيد منها في السوق المحلية على حساب الاحتياطي الأجنبي المتواضع لديه. دفع ذلك في نهاية المطاف إلى طلب قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار، مرهون بحزمة إصلاحات كان في مقدمتها التحرير الكامل لسوق الصرف، والتوقف عن دعم الجنيه المصري من الاحتياطي الأجنبي.

نمو الاحتياطي الأجنبي

كان تأثير تحرير سوق الصرف على الاحتياطي الأجنبي فوريًا. فمع الإقدام على هذا الإجراء في مطلع شهر نوفمبر من العام 2016، وما نتج عنه من ارتفاع لأسعار العملات الأجنبية في مقابل الجنيه، إلى أكثر من الضعف مع نهاية الشهر ذاته،[3] فقد ارتفع الاحتياطي الأجنبي بـ 5.1 مليار دولار أمريكي مع نهاية شهر ديسمبر من العام نفسه،[4] نصفها تقريبًا كان من الدفعة الأولى لقرض صندوق النقد. أما النصف الثاني من الزيادة، فقد نتج عن توقف البنك المركزي عن ضخ النقد الأجنبي في السوق لتثبيت أسعار العملات الأجنبية، وكذلك بسبب اختفاء سوق النقد الموازي الناتج عن فارق السعر الرسمي في مقابل قوى العرض والطلب، وبالتالي إقبال الأفراد والمؤسسات على القطاع المصرفي بدلًا من السوق الموازية لبيع النقد الأجنبي فور انتهاء فارق السعر.

ونتيجة لذلك، ومع ارتفاع إيرادات الصادرات السلعية، والخدمات (السياحة وقناة السويس بالأساس) وتحويلات العاملين بالخارج، خلال العامين الماليين 2016/2017، و2017/2018،[5] فقد استمر الاحتياطي الأجنبي في الزيادة منذ تحرير سوق الصرف قبل عامين تقريبًا، وصولًا إلى 43.6 مليار دولار أمريكي مع نهاية شهر أغسطس من العام الحالي 2018، وذلك في أحدث بيانات متوفرة،[6] أي بزيادة نسبتها 135.7% خلال 22 شهرًا. ولكن ضمن الاحتياطي الأجنبي المسجل في أول شهر أغسطس، فهناك 21.3 مليار دولار أمريكي هي التزامات قصيرة الأجل (خلال عام)، محددة سلفًا من الاحتياطي الأجنبي الموجود. وتشكل القروض والأوراق المالية والودائع قصيرة الأجل 18.1 مليار دولارًا ضمن هذه الالتزامات، منها 379.3 مليون دولار مستحقة خلال شهر واحد، و2.5 مليار دولارًا مستحقة بعد شهر واحد وحتى 3 أشهر، و15.2 مليار دولارًا مستحقة بعد 3 أشهر وحتى عام. وبالإضافة للقروض والودائع والأوراق المالية، تشكل تدفقات عمليات إعادة الشراء (repos)، والتي بلغت في أول شهر أغسطس 3.2 مليار دولار، ما يتبقى من إجمالي الالتزامات قصيرة الأجل المحددة سلفًا من الاحتياطي. وكذلك، هناك التزامات أخرى قصيرة الأجل على الاحتياطي الأجنبي، هي الالتزامات العرضية قصيرة الأجل، والتي بلغت في أول أغسطس 4.9 مليار دولارًا تقريبًا.[7]

ما الذي يعنيه ارتفاع حجم الاحتياطي النقدي

يأتي تثبيت أسعار صرف العملات الأجنبية، وحماية العملة المحلية ضد هجمات المضاربين، في مقدمة استخدامات الاحتياطي الأجنبي. وبالتالي، فمع لجوء البنك المركزي المصري إلى التحرير الكامل لسوق الصرف الأجنبي، وتوقفه عن دعم الجنيه، أو تحديد هوامش لتغير قيمته قي مقابل العملات الأجنبية، لم يعد للاحتياطي الأجنبي دور في هذا السياق خلال العامين الماضيين.

وبخلاف ذلك، يكتسب الاحتياطي الأجنبي أهمية رئيسة من خلال دوره في سداد الالتزامات المالية قصيرة الأجل على وجه الخصوص. وتنص القاعدة التقليدية هنا على وجوب تغطية الاحتياطي لكامل الدين الخارجي قصير الأجل، كمعيار لكفايته.[8] ومؤخرًا، وصل الدين الخارجي قصير الأجل إلى مستويات قياسية بلغ معها 11.5 مليار دولارًا خلال الربع الأول من العام الحالي.[9] ويأتي الغرض الرئيسي من زيادة الاحتياطي النقدي في هذا الإطار في حماية الاقتصادات من الأزمات المالية والخروج المفاجئ لرأس المال الأجنبي خلال حالات الاضطراب في أسواق التمويل، والتي قد تتسبب في عجز الاقتصاد عن سداد الالتزامات قصيرة الأجل، وبالتالي تميل الاقتصادات صاحبة المستويات المرتفعة من الأصول الأجنبية السائلة إلى تحقيق خسائر أقل في الأزمات المالية، وإلى التعرض كذلك إلى أزمات مالية أقل من الأساس.[10]

كذلك ينتج عن الزيادة في الاحتياطي تكريس الثقة في قدرة الاقتصاد على الوفاء بالتزاماته تجاه الدين الخارجي، وهو ما يؤدي بالتالي إلى تراجع مخاطر الإقراض من منظور الجهات المقرضة، ومن ثم إلى تراجع الفائدة على القروض الخارجية.[11] وتسهم زيادة الاحتياطي أيضًا في جذب الاستثمار الأجنبي، من خلال تعزيز ثقة المستثمرين في قدرتهم على تحويل أرباحهم، أو جزء منها إلى الخارج وقتما يشاءون، أو في قدرتهم على إنهاء استثماراتهم عبر تسييلها للخروج من الاقتصاد، وهو ما يخفض من مخاطر الاستثمار من منظور رأس المال الأجنبي، بما يعزز من جاذبية الاقتصاد للاستثمار الخارجي.

وخلال العامين الماضيين، نتج كذلك عن ارتفاع مستوى الاحتياطي الأجنبي زيادة سريعة في عدد الأشهر التي يغطيها الاحتياطي من الواردات السلعية. وتنص القاعدة الاقتصادية التقليدية هنا على تفضيل تغطية الاحتياطي لواردات 3 أشهر مقبلة.[12] وبين الأعوام من عام 2012 وحتى 2015، تراجع متوسط عدد أشهر الواردات التي يغطيها الاحتياطي الأجنبي إلى 2.2، 2.6 أشهر فقط على الترتيب. وفي عام 2016 ارتفع المتوسط إلى 3.9 أشهر، ثم إلى 5.8 أشهر في عام 2017،[13] قبل أن يصل خلال النصف الثاني من العام الحالي 2018 إلى 8.5 أشهر،[14] وهو أعلى معدل تغطية للواردات منذ عقد تقريبًا.

ولكن على جانب آخر، فقد نتج عن الزيادة في الاحتياطي الأجنبي، ضمن عوامل أخرى، الارتفاع السريع والحاد في معدل التضخم المحلي، بصورة فورية بعد قرار تحرير سوق الصرف في نهاية عام 2016، وخلال العامين التاليين كذلك. فمع ارتفاع الاحتياطي الأجنبي، يرتفع عرض النقود المحلي بصورة تلقائية كقاعدة اقتصادية عامة،[15] وذلك لتحقيق التوازن في حساب البنك المركزي، حيث يدخل النقد الأجنبي في بند الأصول، وعرض النقود المحلي في بند الخصوم. وبالتالي، فقد ارتفع عرض النقود المحلي الموسع من 2.2 ترليون جنيهًا مصريًا مع نهاية شهر أكتوبر 2016، إلى 2.6 ترليون جنيهًا بنهاية نوفمبر من العام نفسه، وهو نمو في عرض النقود بنسبة 18.3% بعد شهر واحد من تحرير سوق الصرف. واستمر عرض النقود الموسع في النمو بالتزامن مع زيادة الاحتياطي الأجنبي حتى بلغ 3.1 ترليون جنيه مع نهاية أكتوبر 2017، أى بزيادة نسبتها 40.9% في عام واحد من تحرير سوق الصرف، ثم تواصلت الزيادة في عرض النقود الموسع حتى وصل إلى 3.5 ترليون جنيه في شهر يوليو 2018، في أحدث بيانات متوفرة.[16]

وكنتيجة لارتفاع عرض النقود المحلي يرتفع معدل التضخم بسبب زيادة الطلب الإجمالي.[17] وقد ظهر ذلك بصورة شبه فورية بعد تحرير سوق الصرف الأجنبي، وهو ما يضاف إلى تأثير تحرير سوق الصرف على التضخم من زاوية أخرى عبر ارتفاع أسعار الواردات. فبعد قرار تحرير سوق الصرف في نوفمبر من عام 2016، وحتى نهاية العام، أى خلال 3 أشهر فقط، ارتفع مؤشر الأسعار بنسبة 8.1%.[18] وخلال العام التالي، 2017، واصل مؤشر الأسعار ارتفاعه بالتزامن مع الزيادة في عرض النقود المحلي، والعوامل الإضافية كرفع أسعار السلع المدعومة، حتى وصل متوسط التخضم خلال العام إلى 23.5%، وهو ثاني أعلى معدل تضخم مسجل في مصر في كامل السلسلة الزمنية المتاحة منذ عام 1960. وفي عام 2018، واصلت الأسعار ارتفاعها كذلك، ومن المتوقع أن يبلغ متوسط التضخم السنوي خلال العام 20.9%، وفقًا لأحدث تقديرات لصندوق النقد الدولي.[19]

خاتمة

تحمل المستويات المرتفعة من الاحتياطي الأجنبي نتائج إيجابية في صورة تعزيز السيولة في الأصول الأجنبية، وما لذلك من أثر على تأمين الاقتصاد من مخاطر الخروج المفاجئ لرأس المال خلال الأزمات المالية، بالإضافة إلى تعزيز الثقة في الاقتصاد لزيادة تدفق الاستثمار الأجنبي وتخفيض تكلفة الاقتراض. ولكن على الجانب الآخر، فهناك تكلفة لزيادة الاحتياطي الأجنبي، متمثلة في تعطيل مليارات الدولارات في صورة أصول منخفضة أو معدومة العائدات (سندات الخزانة الأمريكية في الأغلب)، عوضًا عن استغلالها في استثمارات حقيقية أو مالية، ذات عائد مرتفع. وتتضح هذه التكلفة بصورة أوضح من خلال القاعدة التقليدية سابقة الذكر، الخاصة بتغطية الاحتياطي لكامل الديون قصيرة الأجل، لحماية الاقتصاد من الأزمات المالية. فسعيًا للالتزام بهذه القاعدة، تسعى البلدان إلى زيادة الاحتياطي الأجنبي لديها مع كل زيادة في الديون قصيرة الأجل، ولكن في حين يتكبد الاقتصاد فوائد على الدين قصير الأجل، فهو يحصل على فائدة أقل (أو صفر فائدة) من الاحتياطي الأجنبي، وبالتالي، فالفارق بين الفائدة المدفوعة والمتحصلة، هي الخسارة الناتجة عن كل دولار زيادة في الاحتياطي، لتغطية دولار زيادة في الدين قصير الأجل. وتكتسب هذه العلاقة أهمية خاصة في التوقيت الحالي في مصر، مع الارتفاع القياسي في مستويات الدين الخارجي قصير الأجل، المشار إليه سابقًا، بالتزامن مع ارتفاع الاحتياطي الأجنبي. وقد يكون البديل الأقل تكلفة في هذه الحالة لتحقيق السيولة المالية، وتأمين الاقتصاد ضد مخاطر الأزمات المالية، هو تخفيض الديون قصيرة الأجل.[20]


[1] World Bank, World Bank Open database (2018). <https://data.worldbank.org/>

[3] Ibid.

[4] International Monetary Fund, International Financial Statistics Database (2018). <http://data.imf.org>

[5] البنك المركزي المصري، "النشرة الإحصائية الشهرية"، العدد رقم 258، (سبتمبر 2018).

[6] International Monetary Fund (2018), op. cit.

[7] البنك المركزي المصري، مرجع سابق.

[8] International Monetary Fund, “Assessing Reserve Adequacy” (2011).

[9] البنك المركزي المصري، مرجع سابق.

[10] Martin Feldstein, “A self-help Guide for Emerging Markets”, Foreign Affairs, March/April (1999).

[11] Dani Rodrik, “The Social Cost of Foreign Exchange Reserves”, International Economic Journal (2006).

[12] International Monetary Fund (2011), op. cit.

[13] World Bank (2018), op. cit.

[14] البنك المركزي المصري، مرجع سابق.

[15] Paul Krugman and Maurice Obstfeld, International economics: theory and policy. The Addison-Wesley series in economics 8th edn. Boston: Pearson Addison-Wesley (2009).

[16] International Monetary Fund (2018), op. cit.

[17]  MiltonFriedman, the counter-revolution in monetary theory: first Wincott memorial lecture, delivered at the Senate House, University of London, 16 September, 1970. Institute of Economic Affairs (1970).

[18] International Monetary Fund (2018), op. cit.

[19] International Monetary Fund, World Economic Outlook Database (October 2018). <http://www.imf.org/en/Data>

[20] Dani Rodrik, op. cit.


رابط دائم: