مستقبل قطاع غزة والخيارات المصرية
2018-6-24

محمد جمعة
* باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

طيلة الإحدي عشر عاما الماضية، مثلت سيطرة حركة حماس على قطاع غزة - وحتىالآن - تحديا كبيرا لعدد من المصالح الأمنية والسياسية ذات الطابع الاستراتيجي للدولة المصرية. وبمرور الوقت بلورت مصر استراتيجية لمواجهة هذا التحدي. هذه الاستراتيجية جمعت بين حاجة القاهرة إلى تجنب كل ما يمكن أن يؤدي إلى انفجار القطاع، مع احتواء حركة حماس، من ناحية، والحرص على عدم إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية، من ناحية أخرى. وبشرط ألا يؤثر كل ذلك على مستوى العلاقات بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الدوليين من ناحية، أو يخل بمقتضيات السلام مع إسرائيل، من ناحية أخرى.  

لكن في الآونة الأخيرة استجد متغيران من شأنهما توليد ديناميكيات جديدة  تمثل تحديا كبيرا للسياسية المصرية المطبقة تجاه قطاع غزة وحركة حماس،على نحو يدفع إلى التفكير فى الخيارات والبدائل المتاحة لصانع القرار فى مصر.

أولا: طبيعة التحدي الذي تفرضه هيمنة حماس في غزة

منذ شهر يونيو2007 وحتى الآن، مثلت سيطرة حركة حماس على قطاع غزة تحديا لعدد من المصالح السياسية والأمنية المصرية ذات الطابع الاستراتيجي، والتي تتمثل بالأساس فيما يلي:

- استمرار فك الارتباط بين غزة والضفة الغربية، الأمر الذي يمثل تهديدا لضمان وحدة المصير السياسي بين الضفة والقطاع.

- ضبط الأوضاع الأمنية في شبه جزيرة سيناء، سواء لجهة كبح جماح نشاط جماعات السلفية الجهادية، أو لجهة وقف أعمال التهريب على الحدود بين مصر وقطاع غزة.

- الحفاظ على السلام مع إسرائيل.

- دفع عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية.

- الحفاظ على دور مصر الرئيسى في قطاع غزة، في مواجهة منافسيها من الفاعلين الإقليميين، كإيران وقطر وتركيا.

ثانيا: مصر واستراتيجية "الحدود اللينة"

في مواجهة هذه التحديات، كان أمام السياسة الخارجية المصرية عدة بدائل:

البديل الأول، الانخراط العسكري النشط في القطاع، إما لاستعادة الأوضاع المعترف بها دوليا، أي استعادة سيطرة أجهزة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة مرة أخرى، أو خلق صيغة أخرى للإدارة والسيطرة على القطاع، وهو الخيار الذي كان ولا يزال مستبعدا، لأسباب عديدة، منها جملة المبادئ التي تحكم السياسة الخارجية المصرية في الإقليم.

البديل الثاني، الضغط القوى على "سلطة" حماس في القطاع، وهو ما تجلى في إغلاق معبر رفح وعدم فتحه إلا للحالات الإنسانية والاستثنائية، أو بتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية.

البديل الثالث، التوصل إلى صيغة ما للقبول المحدود بــ "سلطة حماس" في القطاع.

ويمكن القول إن السياسة المصرية إزاء حماس في القطاع كانت دائما تقع في منطقة وسط ما بين البديلين الثاني والثالث. بمعنى آخر، تبنت مصر عمليا- طيلة السنوات السابقة- خيار أو تكتيك "الحدود اللينة"، الذي يتشكل نطاقه بين حدين: إغلاق معبر رفح كرسالة سياسية، وفتحه من وقت لآخر لدواعي إنسانية. وذلك بهدف الضغط على "حماس" لدفعها إلى القبول بالمصالحة الفلسطينية.

في هذا السياق، يتعين الإشارة إلى أنه حتى في الأوقات التي ارتفعت فيها حدة التهديدات من جهة حماس للمصالح المصرية (حيث كانت السياسة المصرية تقترب أكثر من خيار الضغط القوى، والذي يشمل إغلاق كلي لمعبر رفح، وتشديد الرقابة لمنع التهريب عبر الأنفاق الحدودية) كانت هناك دائما قنوات اتصال مفتوحة بين مصر والحركة للتنسيق على صعيد محاولات ضبط التصعيد في القطاع، إما لمنع اندلاع حرائق جديدة مع إسرائيل، أو الوساطة لوقف إطلاق النار في حال اندلعت مواجهة بالفعل. وفي أوقات أخرى، حيث ينخفض سقف التهديدات الحمساوية للمصالح المصرية، كانت السياسة المصرية تقترب أكثر من مربع القبول المحدود بوجود حماس كسلطة أمر واقع في القطاع. بعبارة أخرى، كان الاستمرار من قبل القاهرة في التفاعل مع حماس إيجابيا مرهونا بالتزام الأخيرة بإجراءات ضبط الحدود، ووقف تعاون عناصرها المسلحة مع التظيمات الإرهابية، وكذلك تجاوبها مع خطط المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية.

ثالثا: مستجدات ضاغطة

في الآونة الأخيرة استجد متغيران من شأنهما توليد ديناميكيات جديدة، على النحو الذي يدفع إلى التفكير فى الخيارات المصرية المستقبلية. هذان المستجدان هما تغير المقاربة الأمريكية إزاء قطاع غزة، وحالة عدم اليقين إزاء معضلة خلافة محمود عباس.

1- تغير المقاربة الأمريكية إزاء قطاع غزة

يبدو أن الإدارة الأمريكية - بشكل أساسي- والاتحاد الأوروبي- بدرجة أقل- يتجهان نحو إعادة تقييم سياستهما نحو قطاع غزة، وإزاء حركة حماس باعتبارها سلطة أمر واقع هناك. والشاهد على ذاك الاجتماع الذي نظمته الإدارة الأمريكية في 13 مارس 2018 في واشنطن لمناقشة وضع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية، وبمشاركة 19 دولة.بعدها كان اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي بمدينة لكسمبورج في 16 أبريل 2018، وكانت غزة أيضا على رأس جدول أعمال الاجتماع.

وفي السياق ذاته، ثمة رغبة إسرائيلية في توظيف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: إما لتكريس وقائع جديدة على الأرض من شأنها تهيئة الأمور لفرض صيغة التسوية التي تريدها، أي "دويلة غزة" مع "تقاسم وظيفي" في الضفة الغربية، أو على أقل تقدير الانخراط في مسارات للتوصل إلى ترتيبات مؤقتة. وكخطوة أولى في هذا السياق تحاول حكومة نتانياهو إقناع واشنطن بالقبول بقطاع غزة كدولة أمر واقع لا مناص من التعامل معها، ومن غير اشتراط انصياعها لشروط "الرباعية الدولية" أو نقل السيطرة على القطاع للسلطة الفلسطينية، خاصة أن "قوة الردع الإسرائيلية" جاهزة دائما لضبط السلوك الحمساوي إذا ما خرج عن قواعد اللعبة، أو اتجه نحو التصعيد وتهديد المصالح الإسرائيلية!!

ويبدو أن إدارة ترامب – التي أقدمت على خطوات متقدمة نحو التماهي مع إسرائيل وسياساتها – تأخذ هذه الرؤية الإسرائيلية بعين الاعتبار، وربما تعتبرها حلا لمشكلة قطاع غزة قبل انفجارها.

المشكلة أن هذا الاتجاه نحو "شرعنة" وضع الانقسام وسيطرة حماس على القطاع على صعيد دولي، تعني تقليص أدوات الضغط على حماس، والقضاء على ما تبقى من ممكنات "المصالحة الفلسطينية". بعبارة أخرى، فإن هذه "الهرولة" نحو البحث عن حلول لأزمات القطاع بعيدا عن السلطة الوطنية الفلسطينية، ستفسرها حماس بوصفها قبولا دوليا وإقليميا بها كسلطة أمر واقع في قطاع غزة. فضلا عن أن التحول في مقاربة الولايات المتحدة الأمريكية إزاء القطاع، وإدراكها لأهمية تطوير الوضع الإنساني والاقتصادي فيه – ولو بشكل بعيد عن السلطة - ربما يكون بمثابة خطوة أولى نحو إضفاء الشرعية على "دويلة غزة"!!

2- حالة عدم اليقين إزاء معضلة خلافة محمود عباس

لا شك أن تقدم عمر الرئيس الفلسطيني أبو مازن وتراجع حالته الصحية يشير إلى أن "السياق الفلسطيني" يمر الآن بمرحلة انتقالية. والمشكلة أن هوية من سيخلف أبو مازن لازالت غير واضحة، سواء أكان  شخصا واحدا، أو اثنين، أو حتى أكثر. والسبب في ذلك هو عدم توفر الشخص "رقم 2" الذي يسلم الجميع بجدارته وأهليته لقيادة النظام السياسي الفلسطيني في مرحلة ما بعد أبو مازن. بما يعني أن الصراع المفترض على السلطة سينشأ بين بدائل متساوية تقريبا. الأمر الذي يشير في الحاصل الأخير إلى أن حسم هذا الصراع المتوقع لن يكون سريعا، بل ربما يكون ثمنه مكلفا للغاية.

الخلاصة أن حالة عدم اليقين هذه تشير إلى أننا أمام سيناريوهين لكل منهما تحدياته المختلفة:

السيناريو الأول: هو الإخفاق (فلسطينيا وعربيا) في تأمين عملية انتقال آمن للسلطة بعد أبو مازن: في هذه الحالة سينشأ عن الصراع على خلافة أبو مازن معطيات جديدة ستزيد وتعمق من ابتعاد الضفة الغربية عن قطاع غزة، أو بالأحرى ستعمق خروج غزة من "غلاف السلطة الفلسطينية". وربما ينتهي الأمر إلى سيناريو الفوضى في الضفة الغربية، ولجوء إسرائيل إلى الخطة (ب) بتمكين حكم العشائر والقبائل المحلية في الضفة، والاستقرار على صيغة نهائية للتعامل مع قطاع غزة بوصفها دولة أمر واقع. ناهيك عن أنه في ظل هذا السيناريو سيزداد نفوذ حماس في الساحة الفلسطينية. كما ستزداد الحاجة إليها من قبل القوى الدولية، على النحو الذي قد يفضي إلى التركيز على مزيد من الإنخراط  السياسي مع حماس من قبل تلك القوى، لكي تكون جزءا من الحل.

السيناريو الثاني: هو نجاح تأمين عملية انتقال آمن للسلطة بعد أبو مازن، وقطع الطريق على أي صراعات داخل فتح وفريق منظمة التحرير. في هذه الحالة ستحتاج هذه القيادة الجديدة في بداية عهدها إلى تحريك ملف المصالحة. لكنها بالمقابل ستكون أضعف (بالمقارنة مع أبو مازن) في مواجهة حماس. كون هذه القيادة الجديدة لن تأتي بالانتخابات.

رابعا: الخيارات المصرية

هذان المستجدان السابق الإشارة إليهما يدفعان إلى التفكير فى الخيارات المتاحة لصانع القرار المصرى فى المرحلة المقبلة. ويمكن فى هذا السياق المقارنة بين خيارين: الأول، هو استمرار السياسة الراهنة. والثاني، هو ما نطرحه للتفكير، وهو الإنفتاح على غزة من أجل تغيير المجال العام حولها وبداخلها (بأدوات وآليات متعددة)، وإنهاء السيطرة الإنفرادية لحماس، وبشكل يقطع الطريق على أي توجه دولي أو إسرائيلي نحو "دولنة" قطاع غزة  كواقع، رغم عدم إمكانية تقنينه وإضفاء شرعية وطنية عليه، وقبل بدء استحقاق خلافة أبو مازن وما قد ينشأ عنه من ديناميكيات جديدة تدفع باتجاه تعزيز نفوذ حماس.

خيار الانفتاح المصري على غزة (وليس بالضرورة على حماس) سيكون له –على المدى المتوسط– أثر استراتيجي مختلط. فمن ناحية، فإن تحسن العلاقات بين مصر وحماس، وإنشاء آلية لفتح معبر رفح، سيُقوض مزاعم أولئك الذين يتهمون مصر بالتواطؤ مع إسرائيل في حصار غزة، وإدارة ظهرها للمحنة الإنسانية للفلسطينيين هناك. وقد يُخرِج مصر من مشكلة الدعاية المضادة التي تباشرها قوى الإسلام السياسي في المنطقة. لكن من ناحية أخرى، سيؤدي المزيد من الانفتاح على حماس وفتح معبر رفح، في ظل استمرار الاتجاهات الحالية (أي الانقسام وسيطرة حماس على غزة)  إلى تناقض مع مصلحة مصر في إنهاء الانقسام وعودة سلطة فتح مرة أخرى إلى القطاع. ناهيك عن أن هذا الانفتاح قد لا يؤدي فقط إلى تخفيف الضغط على حماس، وإنما إلى زيادة نفوذها بشكل تراكمي.

صحيح أن اعتماد حماس على فتح معبر رفح سيجبرها على وضع الاعتبارات البراجماتية فوق الأيديولوجية، والحفاظ على التفاهمات مع القاهرة التي تتلاءم مع الظروف الحالية. لكن في النهاية هناك حدود للمرونة الأيديولوجية لحماس. ومن الصعب الجزم بأن حماس – في المدى المتوسط على الأقل– ستكون قد غيرت نظرتها للعالم ولمصر.

ثمة مصلحة أكيدة  في ضمان استمرار امتلاك مصر لبعض أوراق الضغط  في مواجهة حماس. لكن بالمقابل قد يؤدي التحول باتجاه "دولنة" قطاع غزة، بالتزامن مع استمرار سيطرة حماس على القطاع، إلى توليد ديناميكيات معاكسة، سيتعمق أثرها السلبي أكثر في حال اندلاع صراع داخل حركة فتح على خلافة أبومازن.

والأكثر من ذلك أن حماس لا يبدو أنها (في المدى المتوسط على الأقل) ستتجه نحو حسم التناقض بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي في موقفها تجاه ملف التسوية. فلا هي قادرة على تحويل هدفها الاستراتيجي من تحرير كامل أرض فلسطين التاريخية إلى برنامج سياسي عملي تلتزم به الحركة حتى النهاية. ولا هي قادرة على البناء على التحولات والتحركات التكتيكية باتجاه قبول ضمني لحل الدولتين، وباتجاه تثبيت ما هو تكتيكي أو تأبيده، ليتحول في النهاية إلى جزء من الاستراتيجية.

وعند هذه النقطة، ستبدو دائما المقاربة الوسط، وعدم الوضوح، والسياسات المزدوجة، هي الخيار المفضل للحركة. وبالتالي حتى مع انخراط الفواعل الدولية بنشاط مع حماس، ولو من دون إعلان أو اعتراف رسمي لن تكون حماس جزءا من معادلة الاستقرار. ولكن ستحاول الحركة الاستمرار في إظهار الاعتدال وتبني سياسات برجماتية كي تحصل على القبول الدولى. وفي الوقت ذاته، ستسمح بقدر مما تعتبره مقاومة مسلحة سواء من خلال جناحها العسكري أو أحد الفصائل الأخرى الأصغر في القطاع، حتي لا تفقد شخصيتها وهويتها كحركة إيديولوجية تتمسك بالمقاومة سبيلا لتحقيق أهدافها. هذه السياسة لن تفضي إلى شيء على صعيد تحصيل الحقوق الفلسطينية، لكنها ستضْعِف الحركة سياسيا بالتدريج إلى أن تفقد أهميتها. 


رابط دائم: