القدس... حدود التغيير على الأرض بعد نقل السفارة الأمريكية
2018-5-16

محمد جمعة
* باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الإجراءات التي باشرتها إدارة الرئيس الأمريكي تونالد ترامب يوم 14 مايو الجاري (2018) بشأن نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس، هي "هديته" لدولة إسرائيل في الذكري السبعين للنكبة، أو كما تسميه إسرائيل "يوم الاستقلال". مع ذلك، ولكي نضع الأمور في نصابها، من المهم أن نقف على تفصيلات تلك الخطوة، وما الذي ستحدثه من تغيير فعلي على الأرض، وما ستفضي إليه من تداعيات.

ضمن هذا السياق، فإن أولى الأبعاد المهمة لهذه الخطوة أنها تُعد بمثابة "مسمار آخر في نعش" قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر 1947، والذي دعا إلى تدويل القدس. فحتى مع إعلان ترامب "خطاب الاعتراف" في شهر ديسمبر 2017، تجنبت الأمم المتحدة الانسحاب من قرار التدويل رسميا. هذا على الرغم من أن التركيز الرئيسي لسياستها كان وما يزال التأكيد مرة تلو الأخرى على أن الوضع النهائي للقدس سيتم تحديده من خلال المفاوضات بين الجانبين.

الآن وبعد أن اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى هناك، أصبح التدويل (على الأقل من وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية) جزءًا غير ذي صلة من التاريخ. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قرار التدويل لعام 1947 لم يقلل من حدود مدينة القدس، بل قام بتوسيعها بالفعل. إذ حدد ملحق القرار 181 حدود مدينة "القدس المدولة" على أنها تمتد من "أبو ديس" و"العزيرية" في الشرق إلى "عين كارم" و"موتزا" في الغرب. ومن "شعفاط" في الشمال إلى "بيت لحم" و"بيت جالا" في الجنوب. وقد رسمت تلك الخريطة الدولية هذه الحدود الواسعة للقدس في محاولة لإرضاء مصالح كل من العرب و"العالم المسيحي" آنذاك. فمن ناحية، كان العرب يخافون من "الأغلبية اليهودية" ضمن الحدود البلدية المحدودة حينذاك. ولذلك طلبوا  توسيعها ليكون هناك أغلبية عربية قد تؤثر حتى على نتائج الاستفتاء الذي كان قيد المناقشة كاحتمال في ذلك الوقت المبكر. ومن ناحية أخرى، لم يرغب المسيحيون في أن يفقدوا السيطرة على "كنيسة القبر المقدس" في القدس، بل أيضًا على "كنيسة المهد" في بيت لحم.

موقع السفارة الجديد

منذ "خطاب الاعتراف" الذي ألقاه ترامب في ديسمبر 2017 وحتى أول أمس كان أحد التساؤلات الرئيسية يدور حول الموقع الذي ستنقل إليه واشنطن سفارتها في القدس على وجه الدقة:

- هل داخل حدود القدس الحالية البالغة مساحتها 126 كم مربع؟

- أم داخل حدود 38 كم مربع، أي "قدس ما قبل العام 1967 التي سيطرت عليها إسرائيل (القدس الغربية)؟

- أم داخل حدود 6 كم مربع من "قدس ما قبل العام 1967" والتي كانت الأردن تسيطر عليها؟ وهذا الخيار كان هو الأكثر استفزازا للعرب والرأي العام الإسلامي والدولي ككل. كونه سيُنظَر إليه بوصفه تصديقا على مزاعم إسرائيل بسيادتها على "المدينة القديمة" والتي تشمل الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية.

- أم خارج "المدينة القديمة"، ولكن داخل أراض الضفة الغربية التي أُلحِقَت بحدود بلدية القدس بعد 1967؟

- أم داخل الحدود الموسعة للقدس ما بعد عام 1993؟

من بين كل هذه البدائل اختارت الإدارة الأمريكية البديل الأول، كونه أقل هذه البدائل استفزازا، أي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس التي كانت تسيطر عليها إسرائيل قبل العام 1967. بمعنى أنه تم نقل السفارة الأمريكية إلى 14 شارع فلوسر في أرنونا، بالقدس الغربية. ويعتبر هذا الموقع موقعا مؤقتا، ولم يتحدد بعد مكان السفارة الدائم. وكان العاملون في القسم القنصلي الموجود حاليًا على هذا العنوان قد تلقوا إشعارًا مسبقًا مفاده أنه اعتبارًا من منتصف شهر مايو الجاري (2018)، سيتم تغيير وضعهم إلى موظفين في السفارة. مع الاستمرار في توفير الخدمات (جوازات السفر والتأشيرات) لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين معا. أما السفير الأمريكي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، فسيبقى مقيما في هرتسليا في هذه المرحلة، وسيعمل في مكتبه الجديد في القدس والسفارة القديمة في تل أبيب، وسيكون المكتب في القدس فرعًا للسفارة في تل أبيب.أما الموقع الدائم لمبنى السفارة في القدس فلن يتم تحديد موقعه إلا في المرحلة النهائية.


في الوقت ذاته، سيستمر الفرع القنصلي الإضافي (الذي يعمل حاليا في شارع أجرون في القدس) في أداء عمله باعتباره الفرع الذي يدير جميع الاتصالات مع السلطة الفلسطينية. وسيظل مسئولا عن العلاقات مع السلطة الوطنية الفلسطينية.

إذن ستكون السفارة في النصف الغربي من المدينة، ولهذا أهميته المزدوجة (وفقا للرؤية الأمريكية). فمن ناحية، أصبحت "القدس الغربية" منطقة غير قابلة للتفاوض. وفي المقابل، لا تعامل واشنطن "القدس الشرقية" على أنها "عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية". أما حدود هذا الجزء الشرقي الذي سينضم إلى "العاصمة الموحدة" لإسرائيل فلا يزال محل تفاوض!!

هل من ثمن ستدفعه إسرائيل؟

من ناحية ثالثة، وبغض النظر عن الأبعاد الدينية التي حفزت ترامب، وصداقته الفطرية تجاه إسرائيل، فإن المسئولين في تل أبيب يتحدثون الآن عن الثمن المطلوب من إسرائيل أو الذي سيُطلب منها دفعه مقابل اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأمريكية إليها!!

هنا يمكن الإشارة إلى أن الحدود النهائية للقدس سيتم تحديدها من خلال المفاوضات بين الجانبين. بمعنى أن تلك الخطوة الأمريكية حسمت –من وجهة النظر الأمريكية- أمر القدس كعاصمة لإسرائيل، لكنها لم تحسم بالمقابل حدود هذه "العاصمة"، بما يفيد استمرار المشاركة الأمريكية الكبيرة في كل ما يتعلق بخطط البناء والاستيطان، حيث تعارض إدارة ترامب استمرار الاستيطان في موقعين محددين يعتبرهما الفلسطينيون والإسرائيليون من المواقع الاستراتيجية. الأول، مشروع حي E1بين معاليه أدوميم والقدس. الثانى، "جفعات هماتوس" التي تقع في جنوب القدس.

لقد انخرط الإسرائيليون والفلسطينيون في نزاع حول مشروع حي E1 لسنوات عديدة فيما يتعلق بالنمو الحضري في هذه المنطقة. ويريد الإسرائيليون مواصلة البناء بين القدس ومعالية أدوميم والبحر الميت على طول الشريط الجنوبي الشرقي. بينما يريد الفلسطينيون البناء من الشمال إلى الجنوب، وخلق امتداد أفضل بين رام الله وبيت لحم، وإلى الجنوب نحو الخليل. في هذا السياق، ينبغي أن نشير إلى أنه خلال رئاسة ترامب، دعا الأميركيون كلا الطرفين إلى عدم بناء أي شيء وتجميد الوضع على ما هو عليه.

أما فيما يتعلق بـ"جفعات هاماتوس"، من وجهة نظر إسرائيل، فإن البناء في هذه المنطقة هو أحد مفاتيح منع تقسيم القدس من الجنوب ودق "إسفين فلسطيني" من شأنه تفكيك الاستمرارية المخطط لها بين حي جيلو وحي هارحوما على الطرف الجنوبي من القدس. أما من وجهة النظر الفلسطينية، فإن تجميد البناء في "جفعات هماتوس" يُعتبر أمرًا حاسمًا للحفاظ على خيار تواصل أراض الدولة الفلسطينية بين بيت لحم وبيت صفافا. ووفقًا للرأي الفلسطيني، فإن هذا النوع من الاستمرارية سيصبح جزءا من نسيج الحياة العمرانية الفلسطينية، ليصبح في نهاية المطاف جزءًا من منطقة القدس الشرقية، "عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية".

هذان مثالان واضحان على تدخل الولايات المتحدة في البناء في القدس. ومع ذلك، تتلقى الولايات المتحدة تقارير من إسرائيل حول كل مشروع تقريبًا وراء الخط الأخضر في القدس، وتعبر الولايات المتحدة فيه عن رأيها.

من هذا المنظور، تعتبر إسرائيل أن الوضع الذي كان موجودًا في عهد أوباما قد تغير، ولكن على نحو "متواضع"!!

لكن هذا التقييم مرده بالطبع ذلك "الطمع" الإسرائيلي والرغبة الجامحة في أن تستثمر أكثر في  هذه اللحظة "العربية والأمريكية والفلسطينية"، على أمل أن تحسم نهائيا أمر القدس فتطلق يدها فيها لكي تفعل ما تشاء من توسع استيطاني، وطمس لكل المعالم العربية بالمدينة. ثم تعود بعد ذلك من جديد لمفاوضات من غير القدس واللاجئين!!


رابط دائم: