الاحتجاجات في إيران... دوافع متعددة
2018-1-7

د. محمد عباس ناجي
* رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لم تكن الموجة الحالية من الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها إيران منذ 28 ديسمبر الماضي الأولى من نوعها، وربما لن تكون الأخيرة. فالأسباب الحقيقية التي تسببت في اندلاعها في هذا التوقيت ما زالت قائمة، وربما يغامر نظام الجمهورية الإسلامية بمواجهة موجة أخرى لاحقة قد تكون أكثر تأثيرا في حالة ما إذا لم يتمكن من معالجتها وتحييد آثارها السلبية المحتملة.

ورغم أن النظام يحاول تصدير صورة مغايرة للمعطيات التي فرضتها تلك الاحتجاجات من خلال الترويج بأنها تعكس مخططا خارجيا لتقويض دعائم النظام، خاصة بعد التدخل السريع من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومحاولة الولايات المتحدة نقل ملف الاحتجاجات إلى مجلس الأمن الدولي، إلا أنه يمكن القول إن ثمة دوافع داخلية تسببت في تصاعد تلك الاحتجاجات وانتقالها من مشهد إلى العديد من المحافظات والمدن الإيرانية الأخرى. ونتناول فيما يلي أهم هذه الأسباب.

1- تراجع الطموحات الاقتصادية

قبل أن يفوز الرئيس روحاني على مرشحي تيار المحافظين الأصوليين في الدورتين الأخيرتين للانتخابات الرئاسية اللتين أجريتا في عامي 2013 و2017، تبنى برنامجا اقتصاديا طموحا، سعى من خلاله إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. وكان لشعار "المفتاح" الذي اتخذه رمزا لحملته الانتخابية دلالات سياسية واجتماعية عديدة، ترتبط بمحاولته الترويج لامتلاكه مفاتيح حل المشكلات الاقتصادية المزمنة التي تعاني منها إيران، ولم تنجح الحكومات السابقة في التعامل معها أو تخفيف تداعياتها السلبية على المواطنين.

وبالفعل، نجحت حكومته في تقليص معدل التضخم الذي كان قد وصل إلى مستويات قياسية خلال عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، حيث انخفض من نحو 40% إلى 8%. لكن الخطوة الأهم التي اتخذتها الحكومة تمثلت في وصولها، بضوء أخضر من النظام وقيادته العليا ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والمؤسسات النافذة مثل الحرس الثوري، إلى الاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، بعد مفاوضات سرية وعلنية بدأت برعاية سلطنة عمان في عام 2009.

خلال تلك الفترة، لجأت الحكومة إلى رفع مستوى توقعات المواطنين من النتائج الإيجابية التي سوف تعود عليهم جراء الوصول لصفقة الاتفاق النووي، ثم رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران في 16 يناير 2016. غير أن التطورات التي طرأت على الساحة الدولية بعد ذلك، فرضت تداعيات أخرى لم تكن محل دراسة من جانب الحكومة، يضاف إليها عوامل داخلية عديدة أسهمت في تقليص التداعيات الإيجابية التي عادت على إيران من الوصول للاتفاق النووي، لدرجة دفعت بعض المسئولين في إيران إلى التشكيك في جدوى الاتفاق في حد ذاته. بل إن الأمر وصل إلى حد طرح مبادرات بالانسحاب منه باعتبار أن ما قدمته إيران من تنازلات لتعزيز فرص الوصول إليه تفوق بكثير العوائد التي حصلت عليها بمقتضاه.

فقد فرضت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما عقوبات على إيران بسبب برنامج الصواريخ الباليستية، ودعم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان، ما تسبب في فرض ضغوط على الشركات الكبرى التي كانت تطمح في العودة إلى السوق الإيرانية الكبيرة.

وزاد من هذه المخاوف أن العقوبات الأمريكية طالت مؤسسات اقتصادية تابعة للحرس الثوري وتحظى بنفوذ واسع داخل إيران، بشكل كان يسبب مشكلات عديدة للشركات التي تغامر بالدخول في تعاملات مالية ومصرفية معها. وقد وصل الأمر إلى حد فرض غرامة هائلة على بنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي، في يونيو 2014، وصلت إلى نحو 8.9 مليار دولار بسبب اتهامه بانتهاك العقوبات المفروضة على إيران وكوبا والسودان خلال الفترة من 2002 وحتى 2009.

المفارقة في هذا السياق تكمن في أن الحكومة بدلا من أن تعمل على ترجمة وعودها إلى خطوات إجرائية على الأرض، اتجهت في الموازنة الجديدة لعام 2018 إلى تخفيض الدعم النقدي المقدم إلى بعض الفئات الاجتماعية، وزيادة أسعار الوقود، وفرض رسوم وضرائب أخرى، في الوقت الذي واصلت فيه منح مساعدات مالية لبعض الهيئات الدينية التي تقوم بتقديم خدمات اجتماعية في بعض الدول وتساعد إيران في تعزيز حضورها فيها، دون أن يكون لأنشطتها أى تأثيرات إيجابية على المواطن الإيراني.

2- محدودية الحركة السياسية

لم يكتف المحتجون برفع مطالب اقتصادية فقط، وإنما ركزوا أيضا على قضايا أخرى رأوا أنها تمس جوهر مطالبهم، مثل التنديد بممارسات النظام في الخارج، ودعمه لحلفائه الإقليميين على حساب معالجة الأزمات الداخلية. لكن الأهم من ذلك، هو رفض التقسيمات السياسية "الديكورية" التي تبناها النظام خلال العقود الأربعة الماضية، لتلميع صورته في الخارج وتصدير انطباع بوجود هامش واسع من الحريات السياسية والاجتماعية في الداخل، رغم أن ذلك لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن معظم السلطات تتركز في يد المرشد الأعلى للجمهورية، فيما تتمثل صلاحيات المؤسسات الأخرى في تنفيذ السياسة العليا التي يضعها الأخير.

في هذا السياق، رفع المحتجون شعارات ترفض الاستقطاب السياسي بين إصلاحيين ومحافظين، وهو الاستقطاب الذي هيمن على خريطة التفاعلات السياسية الإيرانية خلال الفترة الماضية، وكان ذلك إشارة ليس إلى النظام فقط، وإنما إلى الرئيس روحاني أيضا، الذي سعى إلى الترويج لسياسته المعتدلة التي تقوم على توسيع هامش الحريات في الداخل والانفتاح على الخارج، وثبت في النهاية أنه لا يبتعد كثيرا عن التوجهات العامة للنظام، وأن صورته المعتدلة التي حاول تصديرها للداخل والخارج لم تعد تخفي اتجاهاته الرئيسية، خاصة أنه خارج من عباءة المرشد الأعلى للجمهورية، وتولى مناصب أمنية رفيعة داخل بعض المؤسسات النافذة في النظام كان من بينها المؤسسة العسكرية والمجلس الأعلى للأمن القومي.

لذا، مثلت الاحتجاجات -في قسم منها- رفضا لسياسات روحاني، وتأكيدا لاستياء المواطنين من فشله في تنفيذ وعوده السياسية والاقتصادية، حتى إن بعض المؤيدين له تبنوا مواقف قريبة من ذلك، عندما بدأوا في الإعراب عن عدم ثقتهم في قدرة روحاني على تحقيق أهدافهم.

3- رفض التمدد الخارجي

كان ملفتا حرص المحتجين على توسيع نطاق الملفات التي حظيت باهتمامهم خلال الاحتجاجات، حيث لم يحصروها فقط في رفض السياسات الاقتصادية وتحسين الأوضاع المعيشية، رغم أن ذلك كان المتغير الأكثر تأثيرا، بل تطرقوا أيضا إلى القضايا الأخرى التي لا تنفصل -وفقا لرؤيتهم- عن ما آل إليه الاقتصاد والظروف المعيشية في الأعوام الماضية.

لذا، حظي حضور إيران في المنطقة، ودعمها المالي الواسع للنظام السوري وبعض الميليشيات الإرهابية والمسلحة، باهتمام خاص من جانب المحتجين، باعتبار أن هذا الدعم هو خصم من قدرة الحكومة على تحسين الأوضاع المعيشية بل وأسهم في تفاقم المشكلات الاقتصادية، على غرار ارتفاع الأسعار وعدم توافر فرص عمل وغيرها.

وهكذا، يمكن تفسير استمرار الاحتجاجات حتى الآن؛ فمع أن النظام ما زال حريصا على وضع حدود لاستخدام آلياته الأمنية، رغم وصول عدد القتلى إلى أكثر من 20 شخصا وارتفاع عدد المعتقلين إلى ما يقرب من ألف شخص، إلا أن الأسباب الحقيقية للاحتجاجات ما زالت قائمة، وإن كانت الحكومة قد بدأت في التعامل مع بعضها تدريجيا، على غرار الإعلان عن إعادة الدعم لمستحقيه وتجميد رفع أسعار الوقود وغيرها من الخطوات التي لم تنجح حتى الآن في وقف تمدد الاحتجاجات.


رابط دائم: