الفلسطينيون... نحو انتفاضة ثالثة أم مواجهات مؤقتة؟
2017-12-25

سعيد عكاشة
* خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

اندلعت الاحتجاجات والمواجهات العنيفة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وعلى حدود قطاع غزة، وبين قوات الجيش الإسرائيلي، على خلفية القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وتنفيذ القرار الذي اتخذه الكونجرس الأمريكي عام 1995 بنقل السفارة الأمريكية إليها. طرحت هذه المواجهات أسئلة عديدة، بعد مرور أكثر من أسبوعين على استمرارها، حول هدف الاحتجاجات الفلسطينية الحالية ومساراتها المحتملة؟ وكيفية استغلال هذه الاحتجاجات، أيا كان مسارها، لخدمة القضية الفلسطينية؟ وقبل ذلك يثار تساؤل مهم حول المعنى الدقيق لمفهوم الانتفاضة، والفارق الرئيسي بين مفهوم الانتفاضة والمواجهات؟

في معنى "الانتفاضة"

كما هو معروف شاع لفظ الانتفاضة لوصف الأحداث التي اندلعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة عقب حادث دهس سيارة أحد المستوطنين الإسرائيليين لعدد من العمال الفلسطينيين في قطاع غزة في ديسمبر عام 1987. وقد استقر لدى الباحثين إمكانية استقراء معنى الانتفاضة من الخصائص التالية والتي ميزت نمط المواجهات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي آن ذاك:

1- اتفق جميع المراقبين للأحداث في حينها على أن الاحتجاجات اندلعت بشكل مفاجئ، وبسبب حادث عرضي تكرر على فترات متقطعة منذ عام 1967، ولكنه لم يتسبب من قبل في إطلاق ثورة ممتدة وشاملة زمنيا ومكانيا في الأراضي الفلسطينية المحتلة مثلما حدث خلال الفترة (1987- 1991).

2- حتى بداية الأحداث (ديسمبر 1987) لم تكن هناك عملية سلام جارية بين الطرفين لحل الصراع بينهما، كما لم تكن إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية قد تبادلتا الاعتراف فيما بينهما .

3-  لم يكن لأي من المنظمات الفلسطينية القائمة في ذلك الوقت أي دور في تنظيم الاحتجاجات، ولم تظهر لعدة أشهر تالية قيادة واضحة لهذه الاحتجاجات.

4- اعتمدت الجموع الفلسطينية المشاركة في الاحتجاجات على سلاح الحجارة في مواجهة الجيش الإسرائيلي، واقتصرت في أغلبها على  الأطفال والشباب.

بمعنى أكثر وضوحا، كان هذا النمط من المواجهات يجسد عملا تلقائيا يقوم به شعب محتل في مواجهة جيش احتلال في وقت لا توجد به أي عملية سياسية بين دولة الاحتلال وممثلي الشعب. فضلا عن أن ممثلي هذا الشعب لم يكونوا هم من قادوا هذه الاحتجاجات أو خططوا لها ونظموها. وذلك خلافا لما سمي بانتفاضة الأقصى أو الانتفاضة الثانية التي أطلقت على  الأحداث  التي اندلعت في 28 سبتمبر عام 2000 على خلفية فشل مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين في قمة كامب ديفيد في يوليو من العام ذاته. وأيضا على خلفية الزيارة الاستفزازية التي قام بها الزعيم الليكودي المتطرف آرئيل شارون للقدس الشرقية آن ذاك. فالواقع أن ما جرى في ذلك الوقت لم يكن من السهل وصفه بالانتفاضة لمخالفته للعناصر الأربعة التي ذكرناها آنفا، حيث وقعت هذه الأحداث بعد سبع سنوات من تبادل الاعتراف بين منظمة التحرير وإسرائيل، وبعد نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية نتيجة لاتفاق أوسلو، وفِي ظل مفاوضات مستمرة بين الجانبين حتى فشل كامب ديفيد في يوليو 2000. أيضا اشتملت المواجهات على قتال بالسلاح بين الجانبين وعلى عمليات عسكرية من تسللات وتفجيرات انتحارية (من الجانب الفلسطيني)، وعمليات اغتيال وغارات وحصار لأراضي السلطة الفلسطينية (من الجانب الإسرائيلي) بما يشبه حالة "حرب" وليس مواجهة بين أطفال وشباب يستخدمون الحجارة في مواجهة جيش يستخدم الطلقات النارية في مواجهتهم. والأهم أنه رغم استمرار هذه المواجهات وتصاعد حدتها حتى عام 2004 لم يقدم أي من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على سحب الاعتراف بالطرف الآخر، أو أعلن إلغاءه لاتفاق أوسلو.

بالتالي، يمكن القول إن مفهوم انتفاضة الذي كفل للاحتجاجات الفلسطينية تعاطفا دوليا وشعبيا كبيرا، لا يصدق إلا على المواجهات التي جرت بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلي خلال في الفترة (1987- 1991)، فيما لا يصدق على  المواجهات التالية خلال الفترة (2000- 2004) والتي يمكن وصفها بحرب بين طرفين في ظل اختلال شديد لميزان القوى لصالح إسرائيل، وفي ظل عدم وجود رأي عام دولي داعم للطرفين، بسبب تحول المواجهات إلى عمليات مسلحة منظمة ومخططة من الجانبين، جرائم حرب من الجانب الإسرائيلي (وفقا لتعريف القانون الدولي).

الانتفاضة المعلقة

تتسم المواجهات الجارية حاليا بين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية على خلفية قرار ترامب بنمط أقرب إلى الانتفاضة من حيث غلبة المكون الشعبي، والتلقائية، وغياب دور واضح للتنظيمات الفلسطينية في تنظيم الاحتجاجات وتوجيهها، فضلا عن اقتصارها على مواجهة الجيش وقوات الأمن الإسرائيلية باستخدام الحجارة فقط، وهو ما أدى حتى الآن (24 ديسمبر 2017) إلى سقوط أربعة عشر شهيدا فلسطينيا وإصابة أكثر من 4000 آخرين، مقابل عدم سقوط أية قتلى من الجانب الإسرائيلي. رغم ذلك ستظل هذه الاحتجاجات في حالة استمرارها خلال الأيام القادمة مجرد " انتفاضة معلقة"، إذ إنها تتضمن حتى الآن بعض ملامح الانتفاضة وليس كلها (رشق الجنود الإسرائيليين بالحجارة، انتشار التظاهرات والإضرابات في الأراضي المحتلة). ولكن على الجانب الآخر احتوت أيضا على نمط المواجهات العنيفة مثلما حدث منذ عام 2009، حيث استخدمت بعض التنظيمات الفلسطينية سلاح الصواريخ الموجهة تجاه إسرائيل - وإن كان بشكل محدود -  كما تنظم حركة حماس بعض المظاهرات وتوجهها نحو نقاط الاحتكاك مع قوات الأمن الإسرائيلية. فضلا عن عدم إغلاق السلطة الفلسطينية نافذة احتمالات استئناف المفاوضات مع الإسرائيليين ولو بوسيط آخر غير الولايات المتحدة. وأخيرا، عدم إقدام السلطة الفلسطينية على قطع العلاقات مع إسرائيل وإلغاء اتفاق أوسلو.

بمعنى أكثر وضوحا يمكن القول إننا حتى الآن لسنا أمام انتفاضة فلسطينية مؤكدة في مواجهة إسرائيل في المدى المنظور على الأقل، للأسباب التالية:

1- عدم رغبة القوتين الرئيسيتين في الساحة الفلسطينية (سلطة رام الله، وحركة حماس ) في تصعيد الأمور في ظل احتياج كليهما للدعم المادي والسياسي من الولايات المتحدة الأمريكية ومن مصر والمملكة العربية السعودية، حيث ترفض الدول الثلاثة أي محاولة لتصعيد العنف ووقف خطوات المصالحة الفلسطينية.

2- عدم منطقية توجيه الاحتجاجات للإسرائيليين وليس للأمريكيين بعد قرار ترامب، وهو ما يقلل من حماس الشعب الفلسطيني للمشاركة الواسعة في هذه الاحتجاجات خوفا من العقوبات الاقتصادية التي ستزيد من معاناته.

3- الخبرات التي راكمها الفلسطينيون من عدم جدوى  المواجهات المسلحة مع إسرائيل في ظل ظروف أكثر تعقيدا، قد تقلب الاحتجاجات الحالية إلى حرب واسعة تكلف الفلسطينيين مزيدا من الخسائر المادية والبشرية دون عائد حقيقي حتى على مستوى كسب تعاطف الشوارع العربية.

4- نجاح إسرائيل بعد اتفاق أوسلو، وعقب المواجهات مع الفلسطينيين في عام 2000، في تقليل نقاط الاحتكاك مع التجمعات الفلسطينية عبر بناء الجدار العازل في عام 2002، وعبر إعادة نشر قواتها في المناطق التي تقع فيها مناطق احتكاك لا يمكن تجاوزها مثل الخليل والقدس الشرقية.

5- ضعف، أو ربما عدم وجود مشاركة واسعة من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية خوفا من أن تسحب السلطات الإسرائيلية هوياتهم كمقيمين دائمين في المدينة.

6- بعض النقاط في خطاب ترامب الذي أعلن فيه قراره، والتصريحات التي صدرت من وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون، الخاصة بأن قرار ترامب لا يتضمن اعترافا بحدود معينة للقدس وأن الأمر متروك للفلسطينيين والإسرائيليين للتفاوض حول هذا الملف، بالإضافة إلى التقديرات التي ذهبت إلى أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيستغرق وقتا طويلا ربما يمتد لأربعة سنوات قادمة بما يجعل من أمر تنفيذه محل شك خاصة في حالة وصول إدارة أمريكية أخرى إلى البيت الأبيض مستقبلا.

المسارات المحتملة للاحتجاجات الفلسطينية

كما أوضحنا سابقا هناك صعوبات كبيرة في تحويل الاحتجاجات الفلسطينية الحالية ضد قرار ترامب إلى انتفاضة فلسطينية متكاملة الأركان. ومن ثم، لا يبقى سوى أحد احتمالين. أولهما، هو تلاشي الاحتجاجات الفلسطينية تدريجيا وعودة الوضع إلى سابق عهده، ثانيهما، أن يتمكن الفلسطينيون من الاستمرار في نهج الاحتجاجات السلمية لفترة طويلة مقبلة. وهنا يمكن القول إنه من المهم الحفاظ على نمط الاحتجاجات السلمية واستمراره لفترة طويلة مع الحرص على عدم تحوله إلى مواجهات مسلحة بتفادي دفع المتظاهرين لحمل السلاح خاصة في نقاط الاحتكاك القليلة مع قوات الأمن الإسرائيلية. كذلك يجب السيطرة على التنظيمات المتطرفة التي تمتلك صواريخ يمكن توجيهها نحو المدن والمستوطنات الإسرائيلية. في الوقت ذاته يجب أن تنشط آلة الإعلام الفلسطيني والعربي أيضا  في نشر صور المواجهات بين المحتجين الفلسطينيين السلميين وبين قوات الأمن الإسرائيلية وترجمة ونشر الشهادات التي يقدمها المحتجون عن خبراتهم بعدة لغات، إذ من شأن ذلك أن يشكل ضغطا نفسيا هائلا على إسرائيل التي تعجز عن مواجهة حروب نزع الشرعية عنها، بسبب مواجهتها المحتجين السلميين بالقوة المسلحة. وحتى إذا تعذر الحفاظ على هذا الزخم السلمي، فلا يجب اللجوء لخيار العنف تحت أي مسمى مع الاستمرار في مطاردة إسرائيل والولايات المتحدة في المحافل والمنظمات الإقليمية والدولية بهدف انتزاع المزيد من قرارات الإدانة ضدهما، وإقناع المزيد من دول العالم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، بحيث تمثل هذه المكتسبات ورقة دعم قوية للمطالب الفلسطينية.


رابط دائم: