هل باستطاعة الاتحاد الأفريقي قيادة عملية تسوية في ليبيا؟
2017-12-14

د. أميرة محمد عبد الحليم
* خبيرة الشئون الأفريقية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

مثلت التطورات التي شهدتها دول الشمال الأفريقي مع نهاية عام 2010، اختبارًا حقيقيًا لقدرة الاتحاد الأفريقي على تحقيق الأهداف التي تأسس من أجلها، وفي مقدمتها نشر الاستقرار والأمن بين ربوع القارة. وكانت الأزمة الليبية من أكثر الأزمات التي كشفت عن العديد من التحديات التي تواجه عمل الاتحاد في سعيه لتنفيذ أهدافه ومبادئه على أرض الواقع.

فقد جاءت تحركات الاتحاد الأفريقي في الأزمة الليبية محاطة بعدد من الاعتبارات، التي أدت في النهاية إلى تراجع فعالية الاتحاد ودوره في استعادة الاستقرار في ليبيا. فمن ناحية، تأثرت قرارات الاتحاد من الأزمة الليبية بالعلاقات القوية التي كانت تربط بين الرئيس الليبي السابق معمر القذافي وعدد كبير من القادة الأفارقة، خاصة على خلفية الدور الريادي الذي لعبه القذافي في تأسيس الاتحاد الأفريقى. ومن ناحية ثانية، اصطدم الاتحاد بحقيقة أخرى، مفادها أن التطورات التي تشهدها دول الشمال الأفريقي تتناقض مع أحد المبادئ المهمة التي قام عليها الاتحاد وهي رفض التغييرات غير الدستورية للحكومات.

وفي إطار هذين الاعتبارين، ظل الاتحاد الأفريقي يعاني من الاتهام بأن أعماله في ليبيا كانت مدفوعة بالرغبة في حماية نظام العقيد القذافي، وأنه عمل على تأخير الاعتراف بالسلطة الليبية الجديدة لإجبارها على احتواء مؤيدي الزعيم الليبي السابق في نظام ما بعد الثورة الليبية، وذلك في الوقت الذي حرصت فيه الدول الغربية على استبعاد الاتحاد الأفريقي من كافة الفاعليات الخاصة بتسوية الأزمة الليبية.

مبادرات الاتحاد الأفريقي لتسوية الأزمة

لكن رغم ذلك، فقد تبنى الاتحاد الأفريقي بعض التحركات للعمل على استعادة الاستقرار في ليبيا. في 23 فبراير 2011، أعرب مجلس السلم والأمن عن بالغ قلقه إزاء تطورات الداخل الليبي، وأدان بشدة الاستخدام العشوائي والمفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين. كما شدد على شرعية تطلعات الشعب الليبي. وعقد المجلس في 10 مارس 2011، اجتماعه رقم (265) على مستوى رؤساء الدول والحكومات، ووافق خلاله على خريطة طريق لحل الأزمة الليبية. تضمنت هذه الخريطة العناصر التالية: 1- الوقف الفوري لجميع الأعمال القتالية. 2- تعاون السلطات الليبية المختصة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية في الوقت المناسب لمستحقيها من الأهالي. 3- حماية الرعايا الأجانب بما في ذلك المهاجرون الأفريقيون المقيمون في ليبيا. 4- اعتماد وتنفيذ الإصلاحات السياسية اللازمة للقضاء على أسباب الأزمة.

كما قرر المجلس إنشاء لجنة مخصصة رفيعة المستوى بشأن ليبيا تضم خمسة من رؤساء الدول والحكومات (هي: مالي، موريتانيا، جمهورية الكونغو، جنوب أفريقيا، وأوغندا)إلى جانب رئيس مفوضية الاتحاد، تتولى ثلاث مهام أساسية، هي: 1- التعامل مع جميع الأطراف في ليبيا وإجراء تقييم مستمر لتطور الموقف على الصعيد الميداني. 2- تسهيل حوار شامل بين الأطراف الليبية حول الإصلاحات الملائمة. 3- إشراك شركاء الاتحاد الأفريقي، وعلى الأخص جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لتيسير تنسيق الجهود والتماس دعمهم للتبكير بتسوية الأزمة[1].

وبعد أسبوع واحد من تبني الاتحاد الأفريقي لخارطة الطريق، المشار إليه سابقا، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1973 (2011) والذي أعطى السلطة للدول الأعضاء، بالعمل على الصعيد الوطني أو من خلال المنظمات الإقليمية، إلى "اتخاذ جميع التدابير الضرورية" لحماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان تحت تهديد الهجوم "بما في ذلك إنشاء منطقة حظر الطيرانفوق ليبيا". وشدد القرار على ضرورة تكثيف الجهود لإيجاد حل للأزمة. وفي هذا الإطار، اعترف القرار رسميا بدور اللجنة المشكلة من قبل مجلس السلم والأمن (الاتحاد الأفريقي). وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن القرار الأممي حظي بتأييد جميع الأعضاء الأفارقة غير الدائمين في مجلس الأمن في ذلك الوقت (الجابون، نيجيريا، جنوب أفريقيا) الذين أكدوا على ضرورة حماية المدنيين في ليبيا، وبدونهم لم يكن القرار ليمر.

وقد أشارت جنوب أفريقيا إلى اللجنة رفيعة المستوى للاتحاد الأفريقي وعزمها زيارة ليبيا بهدف تسهيل حوار حول الإصلاحات السياسية الضرورية لإيجاد حلول سلمية ومستدامة. لكن الفقرة الخامسة من القرار الأممي أشارت إلى جامعة الدول العربية فقط ودورها المهم في هذا الإطار، حيث طالبت فقط الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وليس تلك التابعة للاتحاد الأفريقي، التعاون مع الدول الأخرى في حمايةالمدنيين. وهكذا، كان واضحًا أن الاتحاد الأفريقي لم يكن مخاطبا من جانب القرار الأممي، ولم يكن هناك تصور لدور محدد للاتحاد وفق منطوق القرار.  

وقد اجتمع أعضاء لجنة مجلس السلم والأمن في نواكشوط في 19 مارس 2011، وكانوا يخططون للسفر إلى ليبيا في اليوم التالي للتواصل مع أطراف الأزمة. والتزاما بالقرار 1973 (2011)، طلبت اللجنة الحصول على إذن بالرحلات الجوية إلى ليبيا لكن تم رفض هذا الطلب، حيث بدأت الحملة العسكرية لتنفيذ القرار 1973 في نفس اليوم الذي اجتمعت فيه اللجنة المخصصة في نواكشوط[2].

وخلال الاجتماع الاستشاري الذي عقده الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في 25 -26 مارس 2011، أبدى ممثلو العقيد القذافي استعدادهم لتطبيق خطة الاتحاد الأفريقي للسلام التي اقترحت وقفا فوريا للمعارك، وبدء حوار بين الليبيين يسبق عملية الانتقال الديمقراطي، إلا أن أعضاء المجلس الوطني الانتقالي (الليبي) لم يقبلوا دعوة الاتحاد لحضور قمة أديس أبابا.

وعندما اجتمعت اللجنة المخصصة مع القذافي في طرابلس في 10 أبريل 2011، قبل القذافي خارطة الطريق للاتحاد الأفريقي من حيث المبدأ،في حين رفضها المجلس الوطني الانتقالي بشكل صريح، استنادا إلى أنها لم تدعو صراحة إلى رحيل القذافي.

وفي حين قدم الاتحاد الأفريقي إطارا للاتفاق على الحل السياسي للأزمة في ليبيا في يونيو 2011، اُعتبر هذا الإطار غير فعال في ظل رفض القذافي التفاوض مع القوى المعارضة. كما طالبت المعارضة أن تتم التسوية عقب رحيل القذافي من السلطة، مما أدى إلى حالة من جمود دور الاتحاد الأفريقي، بعد أن رفض ثوار ليبيا لوساطة الاتحاد لأنها لم تتضمن الإصرار على تنحي القذافي. كما أكد المجلس الوطني الانتقالي أن اقتراح وقف إطلاق النار المقدم من الاتحاد الأفريقي يعني تقسيم ليبيا وفقا للخطوط الخاضعة لسيطرة كل طرف وهذا غير مقبول. وشعر الليبيون أن لجنة الاتحاد الأفريقي تكونت من المتعاطفين مع القذافي.

المعوقات الراهنة والتاريخية

عندما بدأت الأزمة في ليبيا كان من المأمول أن يكون الاتحاد الأفريقي هو الفاعل الأجدر على التعامل مع هذه الأزمة في ظل التقارب الليبي مع دول القارة الأفريقية، وكذلك في ظل التطوير الذي لحق بالاتحاد ومحاولته الاعتماد على "الحلول الأفريقية للمشكلات الأفريقية"، إلا أن الأزمة أظهرت بوضوح أن الاتحاد لا يمتلك الأدوات الوظيفية لتفعيل هذه الفكرة.

وكما سبق القول، فقد تعرض الاتحاد، في هذا الإطار، لانتقادات شديدة لتفضيله لعلاقاته التاريخية مع الأنظمة القائمة في القارة، على تطبيق مبادئه التي نشأ من أجلها. كما أظهر الاتحاد الأفريقي عدم التماسك في سياساته عندما اعترفت 17 دولة عضو بالاتحاد بالمجلس الوطني الانتقالي، بما في ذلك نيجيريا وإثيوبيا، في الوقت الذي كان لا يزال الاتحاد يؤكد فيه على عدم اعترافه بالتغييرات غير الدستورية للأنظمة والحكومات[3]. وظلت هناك حالة من الانقسام بين أعضاء الاتحاد بفضل الدعم السياسي للقذافي لعدد من الدول الأفريقية، في حين كانت دول أخرى تعاني من  تدخلاته، مثل السودان ومعظم دول غرب أفريقيا ودولا رئيسية مثل إثيوبيا ونيجيريا. كما كشفت الأزمة الليبية أيضا، والتي كانت تدفع بالاتحاد الأفريقي للقيام بدور أكثر حيادية، جملة من التحديات التي تواجه عمل الاتحاد في محاولاته القيام بدور ضمن إطار أمني دولي يتسم بقدر كبير من التنافسية.

إلا أن التطورات التي شهدتها الأزمة الليبية والتي عجزت العديد من الأطراف الخارجية على التعامل معها، وما طرحته (الأزمة) من تداعيات خطيرة على الأمن الدولي والإقليمي، خاصة ما يتعلق بالتزايد الكبير في أعداد المهاجرين الذين يستخدمون الأراضي الليبية للوصول إلى أوروبا، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية المتصاعدة التي تعاني منها الدول المجاورة لليبيا في الشمال والساحل الأفريقي منذ بداية الأزمة، مهدت الطريق للدفع بمبادرات الاتحاد الأفريقي لتسوية الأزمة الليبية، إلى الواجهة مرة أخرى.

ففي ظل المخاوف الأوروبية من تدفقات المهاجرين القادمة من أفريقيا، وما يرتبط بها من تهديدات أمنية واجتماعية خطيرة، ومحاولات عدد من الدول الأوروبية معالجة هذه القضية وفي مقدمتها ألمانيا، أكدت المستشارة ميركل خلال زيارتها للقارة الأفريقية في أكتوبر 2016 أن الدول الأفريقية تحتاج إلى زيادة جهودها في مجالات مكافحة الميليشيات الإرهابية والهجرة غير الشرعية. وعقب هذه الزيارة اجتمعت اللجنة رفيعة المستوى المعنية بالأزمة في ليبيا في نوفمبر 2016 لمناقشة استراتيجية الاتحاد الأفريقي تجاه ليبيا. وأكد تقريرها مجددا رغبة الاتحاد في "استعادة المبادرة بشأن الأزمة الليبية". كما دعت اللجنة مجلس النواب ومجلس الرئاسة (الليبيين) إلى العمل معا وتشكيل حكومة موحدة. وأظهر التقرير أيضا الحاجة إلى معالجة الحالة الإنسانية السيئة لليبيين والتي تشكل أزمة اللاجئين أحد أعراضها الرئيسة. ولتحقيق هذه التغييرات، رأى الاتحاد الأفريقي ضرورة وضع نهج استراتيجي بالاشتراك مع الأمم المتحدة والجامعة العربية ودول جوار ليبيا. وفي نوفمبر 2016 كشف الاتحاد عن مبادرة سلام جديدة مع هذه الجهات، تضمنت ضرورة أن يكون الوفاق الوطني شاملا للجميع في ليبيا دون إقصاء لأي طرف في البلاد، مشددا على اعتماد الحوار وإعطاء دفعة جديدة للمفاوضات للخروج من الأزمة، مع استبعاد الخيار العسكري.

وخلال القمة التاسعة والعشرين للاتحاد الأفريقي التي عُقدت في يوليو 2017، قرر الاتحاد تسريع جهوده للمساعدة في التفاوض على اتفاق سلام في ليبيا. وشهدت الشهور الأخيرة عدة اجتماعات عقدتها اللجنة المعنية بالأزمة الليبية مع أطراف الأزمة، خاصة العقيد خليفة حفتر وفايز السراج بالإضافة إلى المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية.كما أشادت اللجنة الرباعية حول ليبيا والتي تأسست في 18 مارس 2017، بعضوية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، خلال اجتماعها في 23 مايو بالمشاروات المهمة للاتحاد الأفريقي مع أصحاب المصلحة في ليبيا.

وعلى الرغم من أن مشاركة الاتحاد الأفريقي في تسوية الأزمة تمليها العديد من الاعتبارات المرتبطة بقدرة الاتحاد على تقديم فهم أفضل للأزمة الليبية ومصالح الفرقاء الليبيين المختلفين، هذا فضلا عن الحيادية النسبية التي تتعامل بها المنظمة مع كافة الأطراف، إلا أن دور الاتحاد الأفريقي في تسوية الأزمة الليبية يواجه العديد من التحديات، يرتبط بعضها بضعف قدرته على القيام بحوار وطني في ليبيا في ظل عدم تماسك المبادرات التي طرحها الاتحاد حول التسوية. فقد انتقد بعض أطراف الأزمة، ومن بينهم فايز السراج، جهود اللجنة رفيعة المستوى المعنية بليبيا، ودور الممثل السامي لليبيا، وكذلك رئيس الاتحاد الأفريقي، بسبب افتقارهم للتنسيق وعدم قدرتهم على البدء في عقد حوار وطني. واعترف الاتحاد الأفريقي خلال القمة التاسعة والعشرين بهذا التحدي وأكد على أنه سيؤسس آلية تنسيق لمعالجة هذه المشكلة.

كما لا يمكن للمنظمة القارية أن تؤثر على أطراف الأزمة في ليبيا، وهي تلتزم بالحياد المطلق، فالتجربة تشير إلى أن الجهات الفاعلة التي يمكن أن تدفع الأطراف الليبية إلى طاولة المفاوضات هي تلك التي تدعم أحد الأطراف دون الآخرين. وينطبق ذلك على الأمم المتحدة نفسها[4].   

وبالإضافة إلى جملة التحديات السابقة التي تواجه تفعيل دور الاتحاد الأفريقي في الأزمة الليبية، هناك تحدٍ آخر يواجه هذا الدور يتعلق بتعدد الفاعلين الدوليين في هذه الأزمة، وتعدد مبادرات الوساطة، الأمر الذي يطرح تساؤلا مهما حول ماهية الدور الذي تريده القوى الغربية للاتحاد الأفريقي؛ وهل يتعلق هذا الدور بتسوية الأزمة بصورة شاملة، أم أنه يتعلق فقط بمعالجة أزمة المهاجرين الأفارقة في ليبيا؟ والذين يتراوح عددهم وفق تقديرات الاتحاد الأفريقي ما بين 400- و700 ألف مهاجر، ويتعرضون للبيع والرق، كما يمثلون إرهابيين محتملين بالنسبة للدول الأوروبية.  


[1] "تقرير مجلس السلم والأمن عن أنشطته وعن وضع السلم والأمن في أفريقيا"، مؤتمر الاتحاد الأفريقي، الدورة العادية السابعة عشرة، ملابو، غينيا الاستوائية، 30 يونيو–1 يوليو 2011، ص 14.

[2] Jean Ping, “African Union Role in the Libyan Crisis”, Pambazuka News, Dec 15, 2011. Available at: https://www.pambazuka.org/governance/african-union-role-libyan-crisis

[3] “The Role of the African Union in Libya”, Student Guide to Intelligent Analysis, 05 Dec. 2017. Available at:

http://comprehedv.cluster011.ovh.net/thinktank/index.php/2017/05/12/the-role-of-the-african-union-in-libya/

[4] “Where is the AU in Libya’s Peace Process?”, The Peace and Security Council, The Institute for Security Studies (ISS), 15 August 2017. Available at:

https://issafrica.org/pscreport/on-the-agenda/where-is-the-au-in-libyas-peace-process


رابط دائم: