قراءة في الخارطة الأممية لليبيا: الواقع السياسي واحتمالات النجاح
2017-9-30

د. زياد عقل
* خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

مقدمة

أعلن اللبناني غسان سلامة، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليبيا في 20 سبتمبر 2017، وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، عن خطة الأمم المتحدة للتسوية السياسية في ليبيا، وهي خارطة الطريق التي صرح سلامة منذ توليه المنصب أنه يعمل عليها لعرضها في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة[1]. وبالرغم من انتظار كل متابعي الشأن الليبي لتفاصيل الخارطة الأممية التي نشرها سلامة، إلا أنها لم تأت بجديد، ولم تتضمن أكثر من الخطوط العريضة التي تم الاتفاق عليها في كل من القاهرة، وأبو ظبي، وباريس. ولعل المتغير الرئيسي فيها هو نمط عمل الأمم المتحدة في ليبيا بعد تولي غسان سلامة المسئولية خلفًا لمارتن كوبلر، وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا. ولكن الأهم من تقييم الخارطة الأممية لليبيا والتدقيق في تفاصيلها، هو ربط فحوى ما جاء بها من خطوات وبنود بالواقع السياسي الحالي وموازين القوى في الداخل الليبي. ولعل هذا الربط هو ما يمكن أن يفسر محتوى الخارطة، وسيل ردود الفعل التي تلتها، والنشاط الملحوظ في التحركات الإقليمية والدولية التي قامت بها الأطراف الليبية المختلفة بعد إعلان سلامة عنها.

غسان سلامة: دور أممي مختلف

بدأ غسان سلامة في ممارسة مهام منصبه الجديد كرئيس لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وهو المنصب الذي جاء فيه سلامة خلفًا للألماني مارتن كوبر ومن قبله الأسباني برناردينو ليون، ومن قبلهم اللبناني طارق متري، والبريطاني إيان مارتن؛ فسلامة هو خامس مبعوث أممي لليبيا منذ بدء الأزمة الليبية في عام 2011. ولا يعد سلامة جديدًا على مهام هذا المنصب، فقد شغل قبل ذلك منصب مماثل في العراق من قبل[2]، ولكن الجديد بالنسبة لسلامة هو تعقيدات الداخل الليبي، والذي يمر بمرحلة محورية من التحولات في الفترة الراهنة. وبالرغم من صعوبة المهمة وحجم التحديات التي تواجه عمل الأمم المتحدة كمؤسسة داخل ليبيا، إلا أن هناك عددًا من البوادر التي تشير إلى إمكانية ممارسة الأمم المتحدة دورًا مختلفًا في ليبيا في ظل رئاسة سلامة للبعثة مقارنة بأداء البعثة في ظل ولاية ليون وكوبلر.

وفيما يتعلق ببعثة الأمم المتحدة للدعم بليبيا، يفرض السياق السياسي الداخلي، والإقليمي، والدولي عددًا من الأولويات، والأهداف، والدوافع، على البعثة ورئيسها، وهو ما ينعكس بدوره على نمط أداء الأمم المتحدة خاصة في الداخل الليبي. فخلال فترة تولي برناردينو ليون لرئاسة البعثة، كان هناك الكثير من الضغوط الدولية (من الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص) للتوصل لاتفاق سياسي يوفر إطارًا للتسوية وإنهاء حالة الانقسام، وهي الضغوط التي أدت بليون للإسراع من الانتهاء من الاتفاق. وفي ظل هذا التسرع، لم يعبأ ليون بصناعة توافق حقيقي بين الأطراف الليبية حول الاتفاق، فلم يتواصل ليون مع عدد من الأطراف الفاعلة في المشهد الليبي في ذلك الوقت، وعلى رأس هذه الأطراف خليفة حفتر، والذي لم يكن يحظى في ذلك الوقت بالدعم الدولي الذي يتمتع به الآن. كما أقصى ليون عددًا من الأطراف الأخرى التي لم ترحب بأفكاره كالتيار الفيدرالي على سبيل المثال. وبالتالي خلق ليون من خلال اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 إطارًا سياسيًا للتسوية لا يتفق مع موازين القوى الحقيقية في الداخل الليبي، ولكن الهدف كان الموافقة على الاتفاق بمن حضر من ممثلين، سواء بصفاتهم الشخصية أو المؤسسية، وهو ما كان سببًا رئيسًا في عدم تفعيل اتفاق الصخيرات حتى الآن نظرًا لبعد ما يوفره من إطار عن الواقع السياسي، والميداني، والعسكري داخل ليبيا، واعتراف كل الأطراف الداخلية والخارجية بضرورة تعديله وفقًا لما يتماشى مع الواقع السياسي الليبي في اللحظة الراهنة.

تولي الألماني مارتن كوبلر المهمة خلفًا لليون. وقد حكم مهمته هدفان رئيسيان. الهدف الأول، هو محاولة الحفاظ على اتفاق الصخيرات كمرجعية للشرعية والتعريف المؤسسي لكيانات الدولة، حتى وإن لم يتم تفعيل الاتفاق، إذ إن بقاء اتفاق الصخيرات كمرجعية في حد ذاته كان أحد مساعي كوبلر. الهدف الثاني، هو العمل بقدر الإمكان على تفعيل الاتفاق، وهو الدور الذي تطلب التواصل مع عدد أكبر من النخب السياسية في ليبيا. لكن كوبلر لم يتمكن من تقديم جديد للنخب السياسية في ليبيا، واقتصر دوره على محاولة لقاء أكبر عدد ممكن من الأطراف في الداخل والخارج (بالرغم من أن بعض الأطراف في ليبيا تتهم مدير البعثة في ذلك الوقت، معين شريم، بمحاباة التيار الإسلامي، واتخاذ موقف سلبي من أنصار النظام السابق ومحاولة إقصائهم من المشهد. وجدير بالذكر أن إقالة معين شريم مدير البعثة كانت من أولى القرارات التي اتخذها غسان سلامة نزولًا على مطالب عدد من الأطراف التي التقى بها)، وانتظار توافق ليبي تحاول الأمم المتحدة تأطيره فيما بعد. وكان لهذا النمط من الأداء أثرًا مباشرًا على حالة الركود وغياب الفاعلية التي اتسمت بهم بعثة الدعم في ليبيا في الآونة الأخيرة.

ويتسلم غسان سلامة المهمة من مارتن كوبلر في ظل عدد من المتغيرات في السياق السياسي الليبي داخليًا وإقليميًا. وبالتالي، من المتوقع أن يكون نمط أداء البعثة في ظل هذه التحولات مختلفًا عما سبق. إقليميًا، بات الوضع أكثر مرونة بعد تنسيق الرؤى بين كل من مصر، والجزائر، وتونس[3]، وهي الأطراف القادرة على التواصل مع أكبر عدد من الفاعلين في الداخل الليبي، وهو ما أكد عليه غسان سلامة خلال حواره مع قناة العربي؛ إن مصر والجزائر وتونس تعمل بشكل سلس للتوصل لتسوية سياسية في ليبيا، كما أكد على حرصه على التواصل معهم نظرًا لما يحملونه من ثقل سياسي في سياق الأزمة الليبية. ومما لا شك فيه كان اختلاف الرؤى بين مصر والجزائر (بالرغم من التطابق في الموقف الرسمي الخاص بدعم اتفاق الصخيرات) أحد أسباب حالة من الانسداد السياسي في ليبيا بعد توقيع الاتفاق. وقد قام سلامة بزيارات للقاهرة، والجزائر، وتونس منذ توليه مهام منصبه.وتظل آلية دول الجوار من أحد الأدوات المهمة التي من الممكن أن تجعل دور الأمم المتحدة في المشهد الليبي أكثر فاعلية، ومختلفًا في نمط تجسده على أرض الواقع.

وبدا واضحًا من تفاصيل الخطة الأممية أن غسان سلامة يسعى لتقديم تصور في شكل خطوات عملية، ويرتكن على مسارات ثلاث أساسية، هي: تعديل الاتفاق، والمصالحة الوطنية، ثم العملية السياسية مُمثلة في الاستفتاء على الدستور وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في المرحلة الأخيرة، وهو الدور الذي لم يقم به كوبلر، وقام به ليون دون تواصل كاف مع كافة الأطراف. ولعل الحرص على التواصل مع كافة الأطراف دونما تمييز، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، يعد أحد أهم التغيرات في نمط عمل البعثة الأممية لليبيا في ظل ولاية غسان سلامة، خاصة بعد تواصل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مع أطراف تم إقصاؤها من جولات الحوار السابقة كأنصار النظام السابق، وهو ما يشير لكون سلامة يحاول خلق رؤيته الخاصة عن واقع الحال في ليبيا، بدلا من أن يرث صورة من سلفه كوبلر، أو أن يتلقى صورة من طاقم البعثة الأممية الذي يعمل منذ فترة في ليبيا. وقد صرح سلامة أن الخارطة الأممية التي تقدم بها ما هي إلا تأطير لمطالب الأطراف الليبية ووضعها في جدول زمني محدد، كمان أكد أنه لم يكن ليعرض خطته دون الحصول على الضوء الأخضر من كل اللاعبين الأساسيين، داخليًا، وإقليميًا، ودوليًا، وهو ما يشير لمحاولة إعادة صياغة دور الأمم المتحدة في ليبيا وفقًا لمعطيات اللحظة الحالية.

وبالتالي، أصبح من الممكن أن تكون الأمم المتحدة أكثر فاعلية في ملف ليبيا إذا ما توافر لديها إدراك واقعي ودقيق لتعقيدات موازين القوى في الداخل الليبي من ناحية، ورؤية واضحة للعلاقة بين المجالين السياسي والعسكري في السياق الليبي، من ناحية أخرى. قد يكون سلامة جاء في ظروف أفضل نسبيًا من تلك التي تولى فيها أسلافه نظرًا لتطورات الصراع بالأساس (وهو ما اعترف به سلامة شخصيًا في حواره مع قناة العربي). ولكن يظل نجاحه في مهمته مرهونًا بقدرته على بلورة عدد من الخطوات التي تعبر عن توافق حقيقي نابع من الداخل الليبي، إلى فعاليات وتحولات سياسية على أرض الواقع، وهو ما يرتبط مباشرة بالواقع السياسي الحالي في ليبيا وحجم إدراك الأمم المتحدة لموازين القوى به. ويقودنا ذلك لثاني النقاط التي تتناولها هذه الدراسة.

تحولات موازين القوى في الداخل الليبي

تمر موازين القوى في ليبيا في اللحظة الراهنة بمرحلة واضحة من التحولات، سواء في الشرق، أو الغرب، أو الجنوب. كما بدأت أغلب الأطراف في الداخل الليبي في إعادة بناء تحالفاتها، سواء على المستوى الداخلي، أو الإقليمي، أو الدولي. ومما لا شك فيه، تدرك جميع الأطراف الليبية أن ليبيا باتت على شفا الدخول في جولة جديدة من التفاوض، ينتج عنها تعديل اتفاق الصخيرات، وإعادة دمج أطراف في عملية الحوار لم تكن موجودة به من قبل. وبالتالي، تسعى كل الأطراف في ليبيا دون استثناء في الوقت الحالي لتدعيم موقفها داخليًا وخارجيًا، وهو ما عبرت عنه كم الزيارات التي قامت بها الأطراف الليبية في الأسبوع الماضي، وكان آخرها زيارة خليفة حفتر لإيطاليا، والتي تعد الحليف الرئيسي لفايز السراج، وهو ما يشير لانخراط كل الأطراف الليبية في مرحلة من الانفتاح على كافة اللاعبين الأساسيين في مرحلة ما قبل التفاوض.

كما أن موازين القوى في الداخل الليبي (فيما يتعلق بعمل بعثة الأمم المتحدة) باتت مختلفة عن الفترة التي تولى فيها مارتن كوبلر المسئولية، فمن ناحية، هناك تقدم عسكري للجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر في أغلب مناطق الشرق وأجزاء من الجنوب. ومن ناحية أخرى، هناك حالة مستمرة من التفكك والتشرذم تمر بها تحالفات القوى العسكرية في الغرب الليبي. وقد أدت حالة انهيار تحالفات الميليشيات المستمرة في الغرب وصراعها مع بعضها البعض إلى حالة من التراجع السياسي يحاول فايز السراج اليوم تعويضها بعدد من الكروت السياسية التي يحاول أن يستعيد بها حظوظ الغرب في اللعبة قبل الدخول في مرحلة من التفاوض، وهو ما يفسر موافقة السراج على تواجد عسكري إيطالي في المياة الإقليمية الليبية للمساعدة في مكافحة الهجرة غير الشرعية، وهي الخطوة التي رفضها عدد كبير من الليبيين في الشرق والغرب، ولكن السراج أصر على اتخاذها نظرًا لما تتضمنه من دعم سياسي يحتاجه السراج بشدة للبقاء في المشهد.

وفي الوقت ذاته، نجد أن الغرب ذاته بات منقسمًا فيما بينه حول قضية دعم فايز السراج والمجلس الرئاسي كممثل شرعي للغرب الليبي؛ فنفوذ فايز السراج والمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق في طرابلس لازالت محدودة وغير كافية لفرض كلمة المجلس الرئاسي على سائر الأطراف في الغرب الليبي. كما أن هناك العديد من الأصوات التي باتت تنادي بدعم أحمد معيتيق، نائب فايز السراج، لكي يكون هو الشخصية القيادية في المرحلة القادمة. وأغلب هذه الأصوات يأتي من مصراتة، القوة العسكرية الأكبر في الغرب الليبي والبلدة التي ينتمي لها أحمد معيتيق. كما أن هناك عددًا آخر من المصادر والتقارير التي تشير لدعم جماعة الإخوان المسلمون في ليبيا، والجماعة الليبية المقاتلة، وسرايا الدفاع عن بنغازي، لعبد الباسط إقطيط في المرحلة القادمة، وهو رجل الأعمال الذي طرح نفسه كحل للأزمة الليبية ونموذجًا قياديًا بها، واستطاع تحريك الشارع من خلال آليات حشد جماعة الإخوان في تظاهرات داعمة له في طرابلس في 25 سبتمبر 2017، وهي التظاهرات التي قوبلت بتظاهرات مضادة لعبد الباسط إقطيط في الميدان ذاته بطرابلس. ومما لا شك فيه، لن تدعم أنصار النظام السابق فايز السراج نظرًا لتعارض رؤية أنصار النظام السابق مع رؤى فايز السراج، وعدم دعمهم له كشخصية قيادية، خاصة في ظل احتمالات عودة سيف الإسلام القذافي للمشهد. وبالتالي، يمر الغرب الليبي بمرحلة من التشرذم على المستويات السياسية والعسكرية، تحاول خلالها كل الأطراف أن تتواجد في المشهد ولكن دون تنسيق كاف بين بعضها البعض، وهو ما يميز معسكر شرق ليبيا عن المعسكر الغربي، وما يشير إلى أن حظوظ الشرق في مرحلة إعادة التفاوض باتت أكبر بكثير من حظوظ الغرب. وأصبح من الممكن سياسيًا وفقًا للواقع السياسي والميداني في ليبيا أن يكون الشرق الليبي هو الطرف الذي يقدم أقل عدد من التنازلات خلال المرحلة القادمة. 

وبالتالي، يمكن القول إن تحولات الداخل الليبي تفرض على غسان سلامة إعادة التنسيق مع كل الأطراف وفقًا لمتطلبات الواقع السياسي الحالي، وهو ما بدأ سلامة في القيام به بالفعل، وعبر مرارًا وتكرارًا أن هذا التنسيق كان أحد الأبعاد المؤسسة للخارطة الأممية. ولعل قرار عودة البعثة للعمل داخل ليبيا بدلًا من تونس، واستجابة سلامة لعدد من الضغوط من الداخل الليبي لإحداث تغييرات في فريق عمل البعثة تُعد إشارات إيجابية لدور أكثر فاعلية للأمم المتحدة مع النخب السياسية في ليبيا في ظل موازين قوة متغيرة.

الخارطة الأممية: التفاصيل وردود الفعل[4]

كما ذكرنا من قبل، أعلن غسان سلامة تفاصيل الخارطة الأممية لليبيا في 20 من سبتمبر 2017 على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. والجدير بالذكر أن هذه الكلمة حضرها عدد من أهم الفاعلين السياسيين في المشهد الليبي، وهو ما يعكس مدى اعتماد المجتمع الدولي على البعثة الأممية للدعم في ليبيا كأداة للتوصل لتسوية سياسية تحمي مصالح المجتمع الدولي، وتحد من حجم المخاطر الناتج عن الصراع السياسي في ليبيا. وبدأ سلامة التقديم لخطته الأممية من خلال التأكيد على تواصله مع كل الأطراف الليبية دون استثناء على مدار ستة أسابيع، وعلى أن الشعب الليبي قد سأم من استمرار المراحل الانتقالية، وأن ما سيضعه سلامه أمام العالم هو في الواقع خطة عمل ليس هو من رسمها، بل فقط قام بصياغتها من مجمل مطالب الأطراف الليبية المختلفة.

المرحلة الأولى من الخارطة الأممية لليبيا تشمل تعديل اتفاق الصخيرات، وهي في حد ذاتها خطوة مهمة، حيث إنها تحافظ على الإطار المؤسسي الذي وضعه الاتفاق، حتى ولو كان هشًا، وتقي ليبيا من الدخول في مرحلة من الفراغ المؤسسي والصراع المسلح على الشرعية، وهو المنطق ذاته الذي انطلق منه إعلان القاهرة عندما استضافت مصر خليفة حفتر وفايز السراج في فبراير 2017، حيث كان نتاج لقاءات القاهرة بمثابة إعلان عن موافقة الطرفين على بقاء الاتفاق كمرجعية للشرعية في حال تعديله. وقد وعد سلامة أن تبدأ الاجتماعات في مكاتب بعثة الأمم المتحدة لبحث البنود التي تحتاج تعديل وصياغتها وفقًا للمادة 12 من اتفاق الصخيرات. وبالفعل جرت جلسة الحوار الأولى في 26 سبتمبر 2017 في تونس العاصمة، وحضرها ممثلون عن لجنتي الحوار في مجلس النواب ومجلس الدولة.

المرحلة الثانية من الخارطة تتعلق بقضية المصالحة الوطنية بين كافة أطراف الشعب الليبي، وهو ما اقترح غسان سلامة العمل عليه من خلال إنشاء مؤتمر وطني، يفتح الباب أمام من تم استبعادهم، ومن تم تهميشهم، ومن أحجموا عن المشاركة السياسية، وفقا لما جاء بخطاب المبعوث الخاص. فتحت هذه النقطة تحديدًا باب التساؤلات أمام عودة أنصار نظام معمر القذافي للعمل السياسي، وهو ما أكد غسان سلامة على ترحيب الأمم المتحدة به. ولعل هذه النقطة تحديدًا توضح نوعًا من الوعي الذي عمل به غسان سلامة خلال الفترة التي قضاها في منصبه في ليبيا حتى الآن، فأنصار نظام معمر القذافي واقع لا يمكن تجاهله في المشهد الليبي، فحتى وإن كانت أعدادهم أقل نسبيًا من أنصار الثورة، سواء كان هؤلاء الأنصار من تيارات إسلامية أو تيارات مدنية معادية لنظام القذافي، ولكن أنصار القذافي يتمتعون بنفوذ كبير في عدد من المناطق أبرزها سرت، وهي فئة تمتلك ما يكفي من موارد لفرض نفسها على المشهد السياسي الليبي، سواء من خلال أطراف أخرى أو مباشرة، وهو ما فتح غسان سلامة الباب له مؤخرًا من خلال خطته للمصالحة الوطنية وتصريحه بأن سيف الإسلام القذافي مواطن ليبي له الحق في العمل السياسي، ولا يخفى على أحد من متابعي الشأن الليبي أن أنصار النظام السابق باتوا من كبار المؤيدين لخطة غسان سلامة للتسوية السياسية في ليبيا.

المرحلة الثالثة من خارطة غسان سلامة هي مرحلة العملية السياسية المؤسسية، أو مرحلة الاستفتاء على الدستور وإقامة الانتخابات النيابية والرئاسية. ولعل ما جاء بخطاب غسان سلامة أمام الأمم المتحدة لم يكن شارحًا لهذه النقطة بقدر ما كانت تصريحات سلامه وحواراته مع الإعلام، إذ أوضح أنه من غير الممكن إقامة انتخابات في ليبيا دون قانون واضح، ودون تأكيد من كل الأطراف أنهم سوف يلتزمون بالشرعية التي ستفرزها نتائج الانتخابات أيا كانت. وقد أعرب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة أن الخارطة تمثل نوعًا من التسلسل السياسي الذي لابد وأن يراعي عددًا من النقاط، على رأسها استعداد المفوضية العليا للانتخابات للعملية الانتخابية بكل ما تتطلبه من عمل لوجيستي وإداري، وهو الشق الذي أكد غسان سلامة على استعداد الأمم المتحدة لتقديم كل الدعم فيما يخصه. ثم تطرق سلامة لنقطة الميليشيات الليبية وصرح أنه "يجب إقامة حوار مع الجماعات المسلحة، بهدف إدماج أفرادها في نهاية المطاف في العملية السياسية والحياة المدنية". وبالرغم من كل اللغط الذي يكتنف نقطة دمج الميليشيات الليبية في كيانات مؤسسية منظمة، إلا أن العمل على الوصول لهذا الهدف يُعد أحد أهم الآليات السياسية للتأقلم مع الواقع الميداني في ليبيا، وبالتالي، من غير الممكن القول إن سلامة لم يدرس الواقع الليبي الحالي ولم يتفهم المعطيات الأساسية به. كما ترتبط هذه النقطة ارتباطًا وثيقًا بالنقطة التالية لها وهي "ضرورة العمل على توحيد الجيش الليبي". وفي الواقع لا يختلف هدف دمج الميليشيات مع أهداف توحيد الجيش الليبي، ولكن الاثنين يفتقران حتى الآن (مثلما تفتقر سائر بنود الخارطة الأممية كما سنوضح لاحقًا) لآليات تنفيذ. توحيد الجيش الليبي ودمج التشكيلات المسلحة يحتاج لبنية أمنية قادرة على استيعاب العناصر العسكرية المختلفة والعمل على تحولها مؤسسيا لقوات تابعة للدولة، سواء في الجيش أو في قطاع أمني آخر، وهو ما لم يقم سلامة بتقديمه كحل عملي يبلور ما أتى به من آمال في الخارطة الأممية.

ردود الفعل[5]

أثارت الخارطة الأممية التي عرضها غسان سلامة عددًا من ردود الفعل من مختلف الأطراف داخل ليبيا وخارجها، فهناك من قابلها باستهجان، خاصة فيما يتعلق بنقطة عودة أنصار النظام السابق للعمل السياسي، وخاض البعض في كون سيف الإسلام القذافي مطلوبًا على ذمة قضايا في المحكمة الجنائية الدولية وفي المحاكم الليبية، وهي النقطة التي من المتوقع أن تتغاضى عنها الأمم المتحدة نظرًا لتفهمها لضرورة انخراط أنصار النظام السابق في العمل السياسي لحلحلة الوضع في ليبيا. وعلى مستوى المؤسسات والدول، رحبت كل الأطراف بما طرحه سلامة، فمؤسسات الدولة في ليبيا، سواء مجلس النواب، أو المجلس الأعلى للدولة، أعلنت دعمها لخارطة الأمم المتحدة. وتجسد هذا الدعم في لجان الحوار التي شاركت بالفعل في اجتماعات تعديل الاتفاق في تونس. كما أعربت دول الجوار، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي دعمهم للخارطة الأممية التي أعلنها سلامة في نيويورك. ولكن الخارطة الأممية التي قدمها غسان سلامة طالها عدد من الانتقادات المتعلقة بكونها خارطة لا تتطرق للوضع الحالي الذي يعانيه المواطن الليبي، وتحاول دمج من لا يستحقون المشاركة السياسية في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، وهي النقطة التي تتعلق بإمكانية مشاركة سيف الإسلام القذافي تحديدًا. كما أن البعض، سواء سياسيين أو مواطنين، تطرق لكون المؤتمر الوطني الذي يقترحه سلامة كأداة للمصالحة الوطنية لن يجدي شيئًا سوى زيادة عدد الكيانات الموجودة في سياق الصراع دون آليات حقيقية تمكن هذا الكيان من ممارسة دوره، وهي نقطة وجيهة لا يمكن إغفالها. وبالتالي، من الممكن القول إن الخارطة الأممية التي قدمها غسان سلامة في نيويورك لم تنل الدعم الشعبي الكافي ولم تلق قبولًا على مستوى المواطنين، ولكنها، ونظرًا لتحالفات القوى في ليبيا ولجوء أطراف من الداخل الليبي للمجتمع الدولي لنيل الدعم السياسي، لاقت قبولًا لدى النخب والقوى السياسية في ليبيا التي أدركت عدم قدرتها عن الانفصال عن إرادة المجتمع الدولي، واحتياجها للاعتراف بشرعيتها من خلال مؤسسات دولية كالأمم المتحدة، واعتمادها على دعم مستمر من أطراف إقليمية ودولية تطالبها بالعمل في الإطار الذي وضعته الأمم المتحدة.

الخلاصة

هناك عدد من المؤشرات التي توضح أن الخارطة الأممية قد تكون مدخلا للتسوية السياسية في ليبيا، وهي مؤشرات تتعلق بردود فعل المؤسسات والنخب السياسية في ليبيا لمقترحات سلامة، والتي كانت إيجابية في مُجملها.ولكن هذه الإيجابية لا تتعلق بما طرحه سلامة من خطوات، بقدر ما تتعلق بتحولات موازين القوى في الداخل الليبي. وفي واقع الأمر، لم يأت غسان سلامة بالجديد، ولكنه، وإحقاقًا للحق، درس ليبيا جيدًا خلال الستة أسابيع التي تولي خلالها المهمة قبل إلقاء خطابه على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ولم تكن الخارطة التي قدمها سوى تلخيصًا لما عرفه سلامة عن ليبيا. وقد عكست الخارطة التي تقدم بها سلامة تغيرًا في وعي الأمم المتحدة بالواقع الميداني في ليبيا، وعبرت عن نية الأمم المتحدة المضي قدمًا في التواصل مع كل الأطراف لصناعة توافق حقيقي يعكس تحولات الواقع السياسي في ليبيا، ولكن سلامة لم يأت بأية آليات تنفيذية تترجم خطته الطموحة لواقع سياسي، وبدا من حواراته الصحفية والتليفزيونية أنه يعول على إرادة الليبيين للتوصل لحل سياسي، وهو ما يربط خطة التسوية بأهواء النخب ويضعها عرضة للانكسار والتوقف في حال الخلاف المتوقع خلال مرحلة التفاوض. كما أن فكرة إنشاء مؤتمر وطني معني بقضية المصالحة دون تحديد أهداف واضحه له ككيان، سوف يزيد من الأجساد الشرعية الموجودة في المشهد دون أهداف واضحة، وبالتالي سوف يطيل من أمد الصراع تحت مُسمى التوافق الوطني الذي يحظى برعاية الأمم المتحدة. ولكن إجمالًا، قد تكون الخارطة الأممية مدخلًا لوقف الصراع في ليبيا إذا ما تمكنت الأمم المتحدة من استغلال أكبر عدد من الآليات التنفيذية لتجسيد الخارطة على أرض الواقع، وهو ما يبدو غسان سلامة بعيدًا عنه في اللحظة الراهنة.


[3] انظر في ذلك: د. زياد عقل، "التسوية السياسية في ليبيا: التفاوض وإعادة بناء التحالفات"، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 19 أغسطس 2017. متاح على الرابط التالي:

http://acpss.ahram.org.eg/News/16377.aspx

[5] انظر: جريدة الشرق الأوسط، 22/9/2017 ، ص 9.


رابط دائم: