مصر وأفريقيا... تطورات إيجابية وتحديات ماثلة
2017-8-17

د. أماني الطويل
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

بات التقارب المصري مع أفريقيا في هذه المرحلة هو محور الحركة السياسية الخارجية المصرية، فقد احتلت القارة بوجه عام، وإقليمي حوض النيل وشرق أفريقيا بوجه خاص، وزنا يكاد يكون مركزيا في أولويات الدولة المصرية، خاصة بعد ثورة يونيو 2013. وتمثل الجولة الراهنة للرئيس السيسي لأربع دول أفريقية مثالا جديدا على هذا التوجه المصري.

عوامل هذا التقارب متعددة. يرتبط بعضها بطبيعة التهديدات الأمنية الراهنة للدولة المصرية، ويرتبط بعضها الآخر بالأجندات الدولية والإقليمية في منطقتي الشرق الأوسط والبحر الأحمر والمؤثرة بطبيعتها على الأمن القومي المصري، ويرتبط بعضها بالاحتياجات المائية المصرية والتداعيات المترتبة على بناء سد النهضة، من حيث إمكانية الحفاظ على الحصة المائية المصرية في توقيت وصل فيه نصيب المواطن المصري من المياه إلى ما تحت خط الفقر المائي طبقا للمؤشرات العالمية.

العامل المائي ربما هو كان المحرك الرئيس لدولة يونيو في تسريع التحرك نحو أفريقيا، في سياق جدد الوشائج المصرية الأفريقية طبقا لمنظور دولة عبد الناصر الذي قال "كيف يمكن تجاهل وجود قارة أفريقيا؟.. لقد شاء القدر لمصر أن يكون لها نصيب فيها.. وأن الصراع بشأنها سوف يؤثر على مصر سواء أرادت أم لم ترد".[1]استنادا إلى هذه الرؤية، وضعت دولة عبد الناصر القارة الأفريقية في دائرة الاهتمام الاستراتيجي، كما طورت الأدوات المناسبة لعصرها في التفاعل مع القارة، واستطاعت بناء نفوذ إقليمي مكنها من تحقيق أهدافها الاستراتيجية في التحرر الوطني من الاستعمار الغربي التقليدي، وتخزين المياه داخل الحدود المصرية خلف السد العالي، وذلك في انقلاب استراتيجي على السياسيات البريطانية المائية. ثم في عقد اتفاقية مائية مع السودان لتقسيم مياه النيل، حددت لمصر حصة مائية تحاجج بها حاليا من يريد الاقتراب منها  باعتبارها حقا تاريخيا مستقرا له سند في القانون الدولي.

في المقابل، فإن ما ينقص مصر في الوقت الراهن هو إدراك المتغيرات المتلاحقة في المشهد الأفريقي، من حيث ازدياد وزن الدول الأفريقية كل على حدة بسبب مواردها الأولية من ناحية، ووجود نخب جديدة أكثر وعيا بالمصالح الوطنية لبلادها، خاصة في ظل ارتباطها بالنموذج الغربي بحكم استمرار الدول الاستعمارية في ربط هذه النخب بها عبر آلية التعليم التي تخلت عنها مصر منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات. وربما تحتاج القاهرة أيضا في هذه المرحلة  المهمة إلى تحديث بعض الأدوات في التفاعل مع أفريقيا وهي التي مازالت خاملة وغير فعالة، بجانب توظيف المزيد من الدعم للأدوات التي أحرزت تقدما معقولا لمصر في أفريقيا منذ يونيو 2013.

1- تحديات ذات صلة بالأدوات المصرية في أفريقيا 

الغياب المصري الطويل عن التفاعل مع النخب الأفريقية الحاكمة خلق فجوة في الإدراك والفهم بين الطرفين؛ فبينما تعيش مصر على إرث مرحلة دعمها لأفريقيا والقضايا الأفريقية خلال مرحلة التحرر الوطني، لازال يحتفظ الأفارقة بهذا الدور كجزء من التاريخ، لكن لم يعد له تأثيره الكبير في المرحلة الراهنة أو المستقبلية. في هذا الإطار، نستطيع تفسير فشل الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني في تسويق المقاربة المصرية للخروج من مأزق اتفاقية عنتيبي. إذ يمكن القول إن قمة دول حوض النيل في يونيو 2017 فشلت لسببين رئيسيين- في تقديري. أولهما، هو الاعتماد المصري المطلق على موسيفيني في حشد الدعم للمقاربة المصرية. وثانيهما، هو المراهنة المصرية بأن توقف الدعم الدولي للمشاريع المائية في دول حوض النيل ستدفع هذه الدول إلى الترحيب بالمقاربة المصرية، حيث غاب عن هذا التقدير التحريض الإسرائيلي. وفي هذا السياق، غابت مصر عن التفاعل المباشر مع دول مفتاحية أخرى في حوض النيل وشرق أفريقيا، وهو ما يفسر اختيار الرئيس السيسي لكل من تنزانيا وروندا ليكونا محطتين مهمتين في الجولة الراهنة؛ فتنزانيا تتمتع بثقل ووزن كبير في التفاعلات بشرق أفريقيا، واحتضنت "أروشا"- أحد أهم مدنها- العديد من الفعاليات المرتبطة بنزع فتيل الكثير من أزمات الإقليم خلال عقد التسعينيات، بدءا من أزمة الإبادة الجماعية بين التوتسي والهوتو في منتصف التسعينيات، إلى أزمة بورندي الراهنة، مرورا بأزمات السودان شمالا وجنوبا. والمفارقة هنا أن تنزانيا التي تملك هذا الوزن الإقليمي المهم لم يزرها رئيس مصري منذ عام 1968.أما روندا، فإن رئيسها بول كاجامي يملك على المستوى الشخصي كاريزما مؤثرة على دوائر صناعة القرار في دول حوض النيل وشرق أفريقيا. ويحظى باحترام شديد على مستوى القارة، نظرا لقدرته على بناء السلم في بلاده، وتدشين مرحلة من التعايش بين الأطراف المتصارعة من التوتسي والهوتو، بل وتحقيق مستوى معقول من التنمية الاقتصادية، اعتمد فيه بالتأكيد على الدعم الغربي المباشر.

ويعد افتقاد الأدوات المصرية المناسبة في التفاعل مع أفريقيا أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها مصر في هذه المرحلة، حيث فقدت مصر في مراحل الخصخصة العديد من الشركات الضخمة التي كانت تقوم بأدوار أساسية ومتنوعة في القارة، مثل شركة النصر وشركة الأسمنت المسلح، حيث خضعت هذه الشركات بالكامل لتخطيط الدولة المصرية في أفريقيا، وعملت ضمن أدوات الدولة في تنفيذ سياساتها الخارجية بالقارة، خاصة في ظل قدرة الحكومة المصرية آنذاك على التمويل المباشر لهذه الشركات، كما كانت أعمالها تساهم بشكل أو بآخر في هذا التمويل.

وفي خطوة مهمة لاستحداث آلية جديدة لدعم الدور المصري في أفريقيا، تم تأسيس "الوكالة المصرية للشراكة مع أفريقيامن أجل التنمية" كآلية للعمل في القارة، والتي بدأت عملها في الأول من يوليو 2014، بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 959 لسنة 2013، حيث تم دمج كل من الصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا، والصندوق المصري للتعاون مع دول الكومنولث في كيان واحد. ومع أهمية خطوة إنشاء هيه "الوكالة"، إلا أن تفعيل دورها يظل رهنا بمواجهة عدد من التعقيدات التي تواجه عملها. أول تلك التعقيدات يتعلق بميزانيتها التي تقوم الوكالة بتعويضها عن طريق المنح الدولية، وهو الأمر الذي يرجح تأثرها في أغلب الأحيان بالأجندة الدولية إزاء أفريقيا وليس بالرؤية المصرية الخالصة. ثاني تلك التعقيدات يتعلق بالغياب شبه الكامل للوكالة في أفريقيا، باستثناء عدد محدود من الخبراء الفنيين عجزت الوكالة أحيانا عن الوفاء بمرتباتهم، الأمر الذي جعلها تبتدع مبادرات مهمة تقوم على التعاون مع المجتمع المدني المصري، فكان لمركز مجدي يعقوب للقلب أدور مهمة في بعثات طبية متفرقة خصوصا في إثيوبيا. كما تتعاون الوكالة مع جمعية الكبد المصرية للقيام بأدوار مماثلة، بالنظر إلى انتشار الفيروسات الكبدية في أفريقيا.

ولعلنا نقترح هنا أن تُضم إلى الوكالة ميزانيات الأنشطة الأفريقية للوزارات ذات الصلة، وأن يكون التفاعل في هذه الحالة من جانب الوزرات تحت مظلة الوكالة بما يعني تخطيطا مركزيا قادرا على بناء النفوذ الإقليمي المصري في أفريقيا، وتشبيكا وتنسيقا بين الوزرات المختلفة تحت مظلة الوكالة، وبما يضمن تحقيق الأهداف الاستراتيجية المصرية بدلا من حالة التناطح البيروقراطي بين الوزرات على الساحة الأفريقية. ذلك أن الهدف الرئيس هو وجود الأيادي المصرية على الساحة الأفريقية وليس وجود أفريقي محدود في القاهرة في إطار عمليات التدريب ودعم القدرات التي يقوم بها "مركز القاهرة الإقليمي للتدريب على فض المنازعات وحفظ السلام في أفريقيا"، على سبيل المثال، حيث سجل حجم التدريب خلال عام 2014 حوالي 600 متدربا، بزيادة قدرها 120 متدربا عن العام 2013.[2]كذلك يقوم اتحاد الإذاعة والتليفزيون بتدريبات مماثلة في المجال الإعلامي. ولكن تبقي المعضلة أنه لا يوجد كيان يحافظ على علاقات التواصل بهؤلاء المتدربين الأفارقة، بما يعني غياب الأثر بمرور الوقت على الرغم من أن هؤلاء المتدربين غالبا ما يكونون في المستويات العليا من الأجهزة التنفيذية في بلادهم.

في السياق ذاته، تلعب وزارة التعليم العالي أدورا في تقديم المنح التعليمية للأفارقة، كما تقوم بهذه المهام أيضا بعض الجامعات، ولكنها منح جد محدودة نحتاج الي توسيعها[3]. وفي الوقت الذي تمتلك فيه البنوك المصرية الرسمية فوائض مالية تستطيع توظيفها في الاستثمار المباشر في الدول الأفريقية، خاصة في المجال الزراعي الذي يعد أحد الأهداف الكبرى لخطط الاتحاد الأفريقي التنموية المعروفة بـ "13-2063"، وباعتبار قطاع الزراعة في أفريقيا من القطاعات ذات العائدات المرتفعة، لكن لازالت البنوك المصرية تتقاعس عن القيام بهذا الدور المهم رغم وجود "بنك ضمان الاستثمار الأفريقي" في العاصمة المصرية. وتنسحب الاستنتاجات ذاتها على دور رجال الأعمال، الذي لازالت مجهوداتهم غير مرئية وغير مؤثرة إيجابيا على المصالح الاستراتيجية المصرية، فباستثناء شركتي القلعة والسويدي لا نلمح أدورا مؤثرة في مجال الأعمال المصري بأفريقيا.

وبشكل عام، نستطيع القول إنه على الرغم من المجهودات الرئاسية المعروفة إزاء أفريقيا، تبدو مؤسسات الدولة مازالت بعيدة عن إدراك أهمية القارة الأفريقية لمصر، وتركز فقط دول حوض النيل، وربما  هذا ما يفسر غياب مصر عن مجهودات مقدرة  تبذلها الدول الأفريقية حاليا للحاق بركب خطط التنمية المستدامة المعلنة من جانب الأمم المتحدة منذ عام 2015. وقد وضع الاتحاد الأفريقي خطة لهذا الهدف خطة "13- 2063" تتفاعل معها معظم الدول الأفريقية، حيث تخصص نيجيريا، على سبيل المثال لا الحصر، مكتبا للنسيق بين وزراء حكومتها لدراسة هذه الخطة الكلية وبحث الفرص المتاحة التي يمكن أن تدعم الاقتصاد النيجيري، خاصة أن هناك شركاء دوليين يتفاعلون حاليا مع هذه الخطة، وذلك وفقا لأعمدة ستة هي: التحول الاقتصادي الهيكلي والنمو الشامل، وتكنولوجيا العلوم والابتكار، والتنمية التي محورها الناس، والاستدامة البيئية، والموارد الطبيعية وإدارة الكوارث، والسلام والأمن، والشئون المالية والشراكات. وفي المقابل، شكل مجلس الوزراء المصري لجنة من عدد من الوزارات بشأن أفريقيا خلال حكومة المهندس إبراهيم محلب، ولكنها افتقدت الرؤية، ولم تحدد الهدف ولا أدواته، فلا نسمع بها خبرا ولا نعرف لها اجتماعات في الوقت الراهن. 

وفيما يخص البرلمان المصري، فباستثناء حضور جلسات البرلمان الأفريقي التابع للاتحاد الأفريقي التي تعقد سنويا لا يملك برلماني مصري على مدى عقود علاقات مع نظير له أفريقي على مستوى ثنائي. كما يغيب البرلمان المصري عن التفاعل مع نظرائه الأفارقة في الأطر الثنائية، وهي أمور كان لها تأثيرها السلبي الكبير على مصر خلال مرحلة التفاعلات الخاصة بتصديقات الدول الأفريقية على اتفاقية عنتيبي من ناحية، وعلى تطور مواقف برلمانية إفريقية لبعض دول حوض النيل معادية لمصر. من هنا بات من الضروري أن يمتلك البرلمان المصري مبادرات لتفعيل دوره على المستوى الأفريقي سواء على الصعيد الثنائي أو الإقليمي وصولا للجماعي.

2- تحديات ذات صلة بفاعلين إقليميين ودوليين

تلعب أفريقيا دورًا لا يمكن إغفاله في تهديد الأمن القومي المصري، سواء فيما يتعلق بالأمن المائي، أو أمن قناة السويس، أو أمن الحدود الغربية، الأمر الذي جعل القارة مسرحا لعمل العديد من الفاعلين الإقليميين والدوليين.  

وقبل الإشارة إلى أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين في القارة الأفريقية، والتي يستهدف بعضها التأثير على الأمن القومي المصري والمصالح المصرية بالقارة، تجدر الإشارة هنا إلى أهمية منطقة البحر الأحمر بالنسبة للأمن القومي المصري والأمن الإقليمي، حيث تكمن الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر فى مجموعة من العوامل المتداخلة الجيوسياسية، والأمنية، والاقتصادية؛  فهو أقصر طرق النقل بين الشمال والجنوب، ويلعب أدورا مؤثرة على اقتصادات دول جنوب شرق آسيا والدول الأوربية، إضافة لدوره كناقل للنفط الخليجى ومنفد للتبادل التجارى للدول المشاطئة عليه وبعضها لا تملك غيره ليربطها بالعالم، ودوره المؤثر على مجمل العلاقات العربية الأفريقية كممر ملاحي رئيس فى عمليات التعاون بين الطرفين. كذلك يشكل البحر الحمر أهمية قصوى لمصر لاعتبارات متعلقة بقناه السويس أحد أهم مصادر الدخل القومي.

من هنا يشكل أمن البحر الأحمر أهمية  استراتيجية عربية وأفريقية.  فقد كان غلق باب المندب فى المدخل الجنوبى للبحر الأحمر في عام 1973 أحد المعطيات المؤثرة فى صناعة  نصر أكتوبر، وهو الدرس الذى لم ينسه الإسرائليون، حيث يسعون ومازالوا إلى تعظيم قدراتهم فى التأثير على المحددات الحاكمة لأمن البحر الأحمر راهنا ومستقبلا. كما أن انهيار مؤسسة الدولة فى الصومال ووجود قواعد عسكرية لكل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والصين وغيرها فى جيبوتى يعظم من مصادر التهديد للمصالح العربية والأفريقية، بشكل عام، والدول المشاطئة عليه بشكل خاص (مصر، السودان، السعودية، الأردن، إرتيريا، اليمن، الصومال).[4]

في هذا السياق، أعلنت مصر عن تدشين الأسطول البحري الجنوبي، كما أن لها قوات عسكرية على مداخل باب المندب فضلا عن وجود عسكري مصري في إريتريا.

أ- الدور الإسرائيلي في حوض النيل

يرتبط المشروع الصهيوني بكل من نهري النيل والفرات، فتقول التوراة: "فقطع مع إبراهيم ميثاقا بأن يعطي لنسله هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"[5]. ربما هذا المعطى الديني هو ما يفسر وجود مشروعات إسرائيلية مرتبطة بنهر النيل، ومتزامنة مع مشروع هرتزل نفسه في مطلع القرن العشرين، والقائم على نقل مياه النيل من سحارات تحت قناة السويس إلى سيناء ومنها إلى إسرائيل. وبناء على ذلك، تقدم هرتزل للحكومة المصرية بمشروع للحصول على امتياز الاستيطان في شبه جزيرة سيناء لمدة 99 عاما، مطالبا في سياق هذا المشروع بجزء من مياه النيل الزائدة في فصل الشتاء والتي تذهب إلى البحر المتوسط[6]. غير أن هذا المشروع واجه رفضا مصريا بريطانيا مؤسسا على أن المشروع البريطاني يربط مسارات واتجاهات الزراعة المصرية بمتطلبات الصناعة البريطانية في لانكشاير، وهى المتطلبات التي جعلت من زراعة القطن أولوية في كل من مصر والسودان من جهة. إضافة لما قد تسببه السحارات تحت قناة السويس من ملوحة للأراضي في سيناء تُسبب انهيار أية مشروعات زراعية فيها، من جهة أخرى.[7]

الخطوة الثانية للمشروعات الإسرائيلية المرتبطة بالمياه كانت عام 1974، حيث طرحت أهم المشروعات الإسرائيلية المتطلعة إلى الحصول على مياه من نهر النيل، وهو مشروع "إليشع كالى"، مهندس المياه الإسرائيلي الذي صدّر مشروعه بالقول: "إن معطيات منطقتنا البيئية والسياسية تفرض أن يكون لكل اتفاق سلام بند مياه"[8]. وترتكز الفكرة الأساسية لمشروع "كالى" على أن حصول إسرائيل على قدر صغير من مياه النيل (0.8 مليار متر مكعب سنويا) عن طريق مصر لن يؤثر على الميزان المائي المصري. أما الأساس الفني للمشروع فيعتمد على توسيع ترعة السلام بمدينة الإسماعيلية، لتنقل ما بين 100 إلى 500 مليون متر مكعب من المياه سنويا، على أن يتم نقل هذه المياه عبر سحارات تحت قناة السويس وصولا إلى إسرائيل، على أن تتحول المياه في هذه الحالة إلى سلعة تقوم إسرائيل بشرائها[9].

ويبدو لنا أن هذا المشروع مركزي لإسرائيل، فهو يطرح دوريا وفى كل مناسبة على مصر اعتبارا من عام 1974. فقد طُرح خلال عامي 1986، 1989، كما طرح في إطار مفاوضات مدريد عام 1991. وقد تبلور موقف مصري رافض لهذا المشروع استنادا إلى اعتبارات فنية واستراتيجية، حيث يرتكز الجانب الفني على إمكانية رفع ملوحة الأرض الزراعية بسيناء، وكذلك تدشين مبدأ تسعير وبيع المياه وهو مبدأ سيكون باهظ التكاليف لمصر المحرومة من أية مصادر للمياه عدا نهر النيل، خاصة إذا فكرت في استخدامه دول منابع حوض النيل. كما أن وصول مياه النيل لإسرائيل، فضلا عن كونه مخالف لقواعد القانون الدولي المتعلقة بأحواض الأنهار المشتركة فهو يضيف الى دول الحوض دولة جديدة  فى سابقة هى الأولى من نوعها.

من الناحية الاستراتجية، فإن حصول إسرائيل على هذا القدر من المياه سيكون بمثابة ولادة جديدة لإسرائيل، لأنه يعطيها 20 ضعف المساحة المزروعة حاليا ويمكنها من زيادة المساحات المزروعة بصحراء النقب بما يساوي 500 ألف فدان. إضافة إلى أنه يدعم القدرات الإسرائيلية في استجلاب المزيد من المستوطنين. وبالتأكيد فإن كلا من الجانبين الفني والاستراتيجي يشكّل خسائر هائلة لمصرعلى مستوى أمنها القومي، كما يشكّل ارتفاعا لمستوى التهديدات للأمن القومي العربي بشكل عام.[10]

في هذا السياق، لعبت إسرائيل دورا محوريا -ولاتزال- في مسألة بناء سد النهضة، بل وبناء استراتيجيات التفاوض الإثيوبية إزاء مصر. كما تلعب دورا أساسيا في مجال دعم الدول الأفريقية التي تحتاج إلى توليد الطاقة اعتمادا على الموارد المائية المرتبطة بنهر النيل، بما يشكل ضغوطا إضافية على مصر. فبجانب الحالة الإثيوبية، هناك حالة روندا التي تتفاعل معها إسرائيل بشكل دؤوب بهدف توليد الطاقة من المياه، بينما مازالت المشروعات المصرية لتوليد الطاقة من مصادرها الجديدة كالشمس والرياح مجرد أفكار لم تدخل مرحلة الإنتاج الواسع، بل إن مشروع توليد الطاقة الجديدة لأحد رجال الأعمال المصريين موجود في غرب أفريقيا.[11]

ب- الدور السوداني

يلعب النظام السوداني في المرحلة الراهنة أدورا معادية لمصر، ويستخدم كافة الأوراق في محاولة لإضعاف عناصر القوة الشاملة للدولة المصرية. شمل ذلك دعم ميليشيات الإخوان المسلمين في ليبيا، رغم وعود سودانية لمصر بوقف هذا الدعم، لكن إغلاق القنصلية السودانية بالكفرة جنوب ليبيا، وتصريحات المتحدث العسكري الليبي العقيد المسماري بامتلاكه أدلة على ذلك يشير بشكل واضح إلى استمرار هذا الدعم.[12]

وبالإضافة إلى عقد اتفاقات شراكة إستراتيجية مع إثيوبيا في إطار دعم بناء سد النهضة بشروطه الراهنة فإن السودان لعب أيضا بورقة قطر ضد مصر. وفي الأغلب فإن الدعم السوداني لإخوان ليبيا مؤسس على تفاهمات سودانية- قطرية. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن السودان يلعب بورقة حجب السلع المصرية عن الانسياب إلى السودان ومنها الي شرق أفريقيا، حيث حظرت السودان هذه السلع أكثر من مرة بمزاعم شروط الجودة والصلاحية. ورغم التقارب المحسوب الذي جرى بعد زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الأخيرة إلى السودان، لكن تبدو العلاقات المصرية- السودانيةتمر بأزمة على خلفية الممارسات والسياسات السودانية تجاه المصالح المصرية بالقارة الأفريقية. 

ج- الدور الفرنسي

يبدو أن الحوادث الإرهابية التي واجهاتها فرنسا خلال عام 2015 مثلت دافعا رئيسا لتحولات أساسية في السياسات الخارجية الفرنسية، فانتهجت سياسات تدخلية على أسس عسكرية في أفريقيا، على اعتبار أن جزءا معتبرا من التنظيمات الإرهابية تعمل في أفريقيا؛ بدءا من داعش في ليبيا، وبوكو حرام في نيجيريا، إلى السلفية الجهادية في مالي، فضلا عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، وميليشيات إسلامية في أفريقيا الوسطى، مع أدوار عسكرية لحركة العدل والمساواة في ليبيا. وفي المحصلة كان 70٪ من حجم التفاعل العسكري الفرنسي مع الخارج هو مع أفريقيا.

ويبدو التحالف العسكري بين فرنسا وخمس دول أفريقية، وتكوين قوة تدخل سريع ضد التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، أحدث تطورا في هذا السياق، ذلك أن القمة التي انعقدت مؤخرا بين  فرنسا وكل من بوركينا فاسو والنيجر ومالي وتشاد وموريتانيا جاءت كتطور طبيعي لعملية البرخان التي انطلقت في عام 2014 بذات التحالف. وقد قررت هذه القمة تكوين قوة تدخل سريع قوامها خمسة آلاف عنصر كمرحلة أولى.

وقد عطل هذا التحالف رؤى مصرية كانت قد تبلورت في مؤتمر لوزراء دفاع 27 دولة أفريقية عقد بشرم الشيخ في عام 2015 بشأن محاربة الإرهاب، حيث تبلورت رؤية جماعية بشأن تكوين قوات تدخل سريع أفريقية، وإنشاء مركز لمكافحة الإرهاب وذلك بأدوار مؤثرة من كل من مصر والمغرب. على أية حال، تسعى مصر حاليا بدور مؤثر فيما يتعلق بالملف الليبي على اعتبار أنها القطر القاعدة حاليا للتهديدات الأمنية للحدود الغربية التي شهدت عددا من العمليات الناجحة للقواعد المسلحة لإحباط حالات اختراق الحدود بعربات دفع رباعي مسلحة.

إجمالا، تبدو التهديدات الأفريقية للأمن القومي المصري تتطلب مزيدا من العمل الدؤوب خصوصا في القطاع الحكومي وذلك على الرغم من المجهودات الكبيرة للدولة المصرية في هذا المضمار.


[1]راجع: "العلاقات المصرية- الإفريقية عقب 30 يونيو"، الهيئة العامة للاستعلامات، القاهرة. راجع الرابط التالي:

http://www.sis.gov.eg/section/125/10073?lang=ar

[2]المصدر نفسه.

[3]اليوم السابع، 1/8/2017.

[4]د. أماني الطويل، "أمن البحر الأحمر الواقع والتحديات"، المركز الدولي للدراسات المستقبلية، القاهرة 2009، ورقة غير منشورة.

[5]التوراة: سفر التكوين 15-18.

[6]د. محمد سلمان طايع، الصراع الدولي على المياه في بيئة حوض النيل، معهد البحوث والدراسات الأفريقية، القاهرة 2007، ص 40.

[7]د. أماني الطويل، العلاقات المصرية السودانية، جذور المشكلات وتحديات المصالح، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ص 219.

[8]إليشع كالى، "المياه والسلام: وجهة نظر إسرائيلية"، ترجمة رندة حيدر، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1991، ص 1.

[9]اليشع كالى، مصدر سابق، ص 85.

[10]د. أمانى الطويل، الاستراتيجيات الإسرائيلية لتجزئة السودان، مؤلف مشارك، المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، ورقة غير منشورة. 

[11]معلومة مباشرة من رئيس إتحاد الصناعات المصرية للباحثة.

[12]ندوة مع المتحدث العسكري الليبي العقيد أحمد المسماري، جريدة الأهرام، السبت 5/8/2017.


رابط دائم: