الانتخابات الإقليمية في إندونيسيا.... ظواهر ذات دلالات مهمة
2017-2-20

د. محمد فايز فرحات
* مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 بدعوة من الحكومة الإندونيسية شاركت ضمن وفد دولي لمراقبة إجراء الانتخابات الإقليمية والمحلية الإندونيسية التي جرت في عدد من المحافظات والمستويات المحلية في الخامس عشر من فبراير الجاري (٢٠١٧). تمكن الوفد خلال تلك العملية من مراقبة عمليات التصويت خلال عدد من لجان الانتخابات، فضلًا عن مراقبة عمليات فرز الأصوات. وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات تتعلق باختيار الحكام المحليين ونوابهم في عدد من المحافظات والمستويات المحلية الأدنى، إلا أنها لا تقل أهمية عن الانتخابات القومية، الرئاسية والبرلمانية، بالنظر لما تمثله من بعد مهم في تجربة التحول الديمقراطي في إندونيسيا والتي انطلقت عقب سقوط نظام سوهارتو في مايو سنة ١٩٩٨، كونها تمثل أيضًا جزءًا من عملية بناء الديمقراطية من القاعدة، أو بمعنى آخر جزءًا من عملية التعلم الديمقراطي. وبعيدًا عن أهمية هذه الانتخابات بالنسبة لمسار عملية التحول الديمقراطي في إندونيسيا، فإن ما نجده جديرًا بالرصد هنا مجموعة من الظواهر التي لا تخلو من دلالات مهمة.

الظاهرة الأولى، هي إجراء الانتخابات الإقليمية/ المحلية في هذه الجولة في عدد محدد من المحافظات والمراكز والمدن، بلغت ١٠١ محافظة ومستوى محلي، منها العاصمة جاكرتا، لتنضم إلى ٢٦٩ ومحافظة ومستوى محلي تم بدء تطبيق نظام الانتخاب لقياداتهم المحلية في ديسمبر ٢٠١٥، من إجمالي ٥٤٢ محافظة ومستوى محلي. ومن ثم، يتبقى ١٧٢ مستوى إقليمي ومحلي سيخضع اختيار قياداتها المحلية للانتخاب بدءًا من يونيو ٢٠١٨، لتجرى أول انتخابات إقليمية ومحلية شاملة في عام ٢٠٢٤. ولا يرجع تأجيل الأخذ بنظام الانتخاب في اختيار الحكام الإقليميين/ المحليين في باقي الأقاليم الإندونيسية إلى عدم أهمية هذه الأقاليم، أو إنكار حقها في انتخاب الحكام الإقليميين، بقدر ما يعني الانطلاق من فلسفة محددة في نشر وبناء الديمقراطية وهو المنهج المتدرج.

وهكذا، فإن الدلالة الأساسية لتلك الظاهرة هي المنهج التدريجي في بناء التجربة الديمقراطية الإندونيسية. فعلى العكس مما تذهب إليه بعض النخب في الدول النامية - ومنها مصر بالطبع- من أن بناء الديمقراطية يجب أن يتم "جرعة واحدة"، وهو افتراض يسود في الأغلب في مراحل ما بعد الثورات السياسية والاجتماعية، أو أن نظامًا ما إما أن يكون ديمقراطيًّا أو غير ديمقراطي وفقًا لمؤشرات معينة، على العكس من كل ذلك، فإن عملية بناء ونشر الديمقراطية هي في الحقيقة عملية تطورية تدرجية، لا ترتبط فقط بالأبنية الدستورية والتشريعية بقدر ما ترتبط بتطوير الأوضاع الاقتصادية، وبتغيير الأنماط الثقافية السائدة ونشر الأنماط الثقافية والسلوكية الديمقراطية. إن وصول إندونيسيا إلى هذا المستوى المتقدم نسبيًّا من عملية التحول الديمقراطي، والتحول إلى اعتماد نظام الانتخاب في اختيار القيادات الإٍقليمية والمحلية بدءًا من ديسمبر ٢٠١٥، استغرق أكثر من ١٧ عامًا كاملة بعد سقوط نظام سوهارتو.

الظاهرة الثانية، تتعلق بسيادة طابع مجتمعي "احتفالي" على هذه الانتخابات. فعلى الرغم من تولي اللجنة العليا للانتخابات إدارة تلك العملية بدءًا من إعداد كشوف الناخبين، وانتهاءً بفرز الأصوات وإعلان النتائج، ومرورًا بكافة الأمور اللوجستية الأخرى، لكن دور المجتمع كان أكثر وضوحًا في تلك العملية، سواء من خلال تمويل هذه الانتخابات، حيث يتم اقتطاع موازنة اللجنة اللازمة لإجراء هذه الانتخابات من الموازنات المحلية للأقاليم، الأمر الذي يكرس الشعور بملكية الأقاليم لهذه الانتخابات region’s ownership of elections أو إضفاء الطابع المحلي على الانتخابات  localization of elections، وهي مسألة مهمة بالنسبة لتنمية الشعور بأهمية هذه الانتخابات والدفاع عنها، بل والاندماج فيها. وكان الطابع المجتمعي واضحًا أيضًا من خلال تمسك العديد من أعضاء لجان الانتخاب بالزي المحلي، بما في ذلك في العاصمة جاكرتا، ما أضفى طابعًا أو شكلًا محليًّا على المستوى الرمزي والقيمي أيضًا لتلك العملية. ولا يمكن فهم هذا المنحى من جانب أعضاء بعض اللجان إلا في ضوء الطابع الاحتفالي الذي طغى على هذه الانتخابات. وقد أخذ هذا الطابع ثلاثة مظاهر عدة، مثل انتشار ظاهرة توزيع الحلوى والأطعمة، والتي تم وضعها على أبواب العديد من اللجان الانتخابية، وارتباط العديد من اللجان بوجود الهواة من المطربين المحليين الذين قاموا بممارسة هواياتهم مع الجمهور خارج اللجان، فضلًا عن تزيين مداخل العديد من اللجان الانتخابية ونصب التماثيل والعرائس التقليدية. فضلًا عن تنظيم العديد من اللجان الانتخابية في الحدائق العامة والتي عرفت باللجان المفتوحة.

إن سيادة هذا الطابع المجتمعي- الاحتفالي على هذه الانتخابات، وعلى النحو السابق توصيفه، لا يعني بحال من الأحوال أن الانتخابات الإٍقليمية/ المحلية في إندونيسيا باتت ظاهرة "فلكلورية"، أو عملية "شكلية"، لكن يجب فهم هذا الطابع في ضوء إدراك الناخب الإندونيسي لهذه الانتخابات، وهو إدراك ذي شقين أساسيين. أولهما، أن عملية الانتخابات هي عملية "مجتمعية" بالأساس، يجب أن يكون المجتمع، وليس الدولة، هو الحاضر والفاعل الأول بها. ثانيهما، غياب الصراعات السياسية والدينية والقومية الحادة عن هذه الانتخابات؛ فعلى الرغم من حالة التعدد الديني والعرقي واللغوي القائمة في إندونيسيا (حوالي ٣٠٠ مجموعة اثنية، وأكثر من ٧٠٠ لغة ولهجة محلية، وتوزع السكان على الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية بالإضافة إلى الكونفوشيوسية)، لكن تظل هناك درجة كبيرة من التسامح وقبول الآخر، أفضت في النهاية إلى عدم "تديين" أو "قومنة" المنافسات الانتخابية.

الظاهرة الثالثة، هي استخدام الصناديق المعدنية داخل اللجان الانتخابية، وهي صناديق تعود إلى مراحل سابقة. لقد كان من المتوقع في ظل الخطوات المهمة التي قطعتها تجربة التحول الديمقراطي في إندونيسيا، وفي ظل وجود العديد من المراقبين الدوليين، الحرص على استخدام الصناديق الزجاجية التي باتت تمثل جزءًا من التقاليد الانتخابية العالمية، بل واعتبارها أحد أهم شروط نزاهة العملية الانتخابية. غير أن اللجنة العليا للانتخابات كانت شديدة الوضوح، بل وشديدة الثقة، في الدفاع عن استخدام هذه الصناديق المعدنية استنادًا إلى العدد الضخم الذي تم تصنيعه من هذه الصناديق في مرحلة سابقة، وأنه لا يوجد ما يبرر إهدارها كمال عام، وتوجيه جزء من موازنة اللجنة، وهي جزء من موازنات الأقاليم كما سبق القول، إلى تصنيع صناديق زجاجية يقل عمرها الافتراضي كثيرًا عن الصناديق المعدنية. ولم يكن من اليسير على اللجنة الدفاع عن استخدام هذه الصناديق دون توفر شرطين أساسيين. الأول هو وجود توافق محلي كبير على استخدام هذه الصناديق، وهو ما كان واضحًا بالفعل أثناء عملية التصويت والفرز. وكان كافيًّا في هذا الإطار تأكد المراقبين وممثلي المرشحين من فراغ هذه الصناديق قبل بدء عملية التصويت، والتأكد من إفراغ كافة محتويات الصندوق أثناء عملية الفرز. السبب الثاني، هو ما أشير إليه سابقًا حول سيادة الشعور "بملكية" ownership الأقاليم لهذه الانتخابات، الأمر الذي نفى الحاجة إلى إهدار الموازنات الإٍقليمية في عمليات تصنيع الصناديق الزجاجية، وربما تصنيعها كل عام.

وهكذا، فإن الدلالة الأساسية لتلك الظاهرة هي إمكانية الخروج عن التقاليد والأدوات الانتخابية المتعارف عليها عالميًّا طالما تم الالتزام بقيم ومعايير النزاهة والشافية، بل وضرورة توفر القدرة على الدفاع عن التجربة والأدوات المحلية طالما تم الالتزام بالقيم الحاكمة للعملية الانتخابية.

الظاهرة الرابعة، هي عدم الأخذ بمبدأ الإشراف القضائي على الانتخابات. فرغم تعدد مستويات الانتخاب في إندونيسيا، وتعقد النظام الانتخابي، فضلًا عن وجود عدد كبير من الأقاليم، لكن لم يتم الأخذ بمبدأ الإشراف القضائي على الانتخابات، حيث تتولى اللجنة العليا للانتخابات الإشراف على جميع هذه الانتخابات، والاكتفاء باستحضار القضاء في عملية الفصل في المخالفات والنزاعات أو الخلاف حول النتائج النهائية (المحكمة الجنائية في حالة المخالفات الجنائية، المحكمة الإدارية في حالة المخالفات ذات الصلة بإدارة الانتخابات، أو المحكمة الدستورية في حالة الخلاف حول نتيجة الانتخابات وعمليات فرز الأصوات). ويرجع عدم الأخذ بمبدأ الإشراف القضائي على الانتخابات إلى عدم المرادفة - لدى الناخب الإندونيسي بالأساس- بين غياب الإشراف القضائي وغياب النزاهة.

ولا تخلو هذه الظاهرة من دلالة مهمة تتمثل في ضرورة إعادة النظر في فكرة التلازم بين الإشراف القضائي ونزاهة الانتخابات، وهي مسألة حسمتها العديد من المجتمعات والتجارب الديمقراطية في العالم، بعضها من التجارب الناشئة في الدول النامية والصاعدة. إذ إن نزاهة الانتخابات تظل غاية يمكن تحقيقها بوسائل عديدة.

تلك كانت أمثلة لبعض الظواهر المهمة التي ارتبطت بالانتخابات الإقليمية والمحلية الإندونيسية، والتي تقدم دروسًا مهمة لدول العالم النامي والديمقراطيات الناشئة. ولا يعني ذلك قابلية أي تجربة للتعميم أو التطبيق في حالات أخرى، فكل تجربة بالتأكيد هي بنت بيئاتها المحلية والثقافية، ومحصلة لتفاعل قائمة من المحددات والتطورات، لكن تظل لكل تجربة دروسها المهمة.


رابط دائم: