د. زياد عقل

خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تمر القوى السياسية، خاصة تلك التي من الممكن تسميتها بالقوى الثورية، بمرحلة من النقد الذاتي، وإعادة التنظيم الداخلي، وإعادة التفكير في تحالفاتها السياسية والاجتماعية، في مرحلة ما بعد الثورة. وترتبط هذه الحالة من إعادة تقييم القوى الثورية لنفسها بالإطار العام لمجمل تحولات ما بعد الثورة، أو بمعنى آخر، بحجم التغيير الذي أحدثته الثورة، بغض النظر عن كون هذا التغيير يصب في مصلحة قوى الثورة من عدمه. وعادة ما تؤدي هذه الحالة للكثير من التفتت في صفوف قوى كانت مترابطة أثناء العملية الثورية، وتقود القوى الثورية إلى معارك داخل معسكر الثورة بين رؤى متشددة وأخرى براجماتية، وتنتهي هذه الحالة في أغلب الأحيان لإعادة تصنيف القوى الثورية ولإعادة التفكير في مفهوم الثورة وخطاب قواها، وهي الحالة التي حدثت في نماذج متعددة مثل الثورة الكوبية في ١٩٥٩، والثورة الإيرانية في ١٩٧٩، والثورة البولندية في ١٩٨٩. وبالتالي، من المنطقي أن نتساءل بعد مرور ٦ سنوات علي ثورة ٢٥ يناير عن مرحلة النقد الذاتي وإعادة التنظيم التي مرت بها قوى الثورة في مصر.

ولابد أن تكون نقطة البداية هي توضيح المقصود بالقوى الثورية في سياق الحالة المصرية، فما نقصده بالقوى الثورية هي القوى التي كونت مشهد الحراك السياسي في سنوات ما قبل ثورة يناير، بدءاً من القوى التي شاركت في الحملة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية، ثم مظاهرات حرب العراق، ثم حركة كفاية، ثم مظاهرات حرب لبنان، ثم مظاهرات ٦ أبريل ٢٠٠٨، ثم الحملة الشعبية لدعم البرادعي، وحركة كلنا خالد سعيد. وبالرغم من ان هناك الكثير من التحليلات التي تختزل هذه القوى في الحركات الشبابية، وبالطبع تنتمي أغلب هذه القوى للفئة العمرية التي من الممكن تسميتها بالشباب، ولكنها لا تقتصر علي الحركات الشبابية، فهذه القوى ضمت تيارات يسارية، وناصرية، وقومية، وليبرالية، بل وتيارات محافظة ولكنها علي خلاف مع النظام، ولعل حركة استقلال القضاء، وحركة كفاية، وحركة ٩ مارس خير دليل علي تنوع التيارات السياسية والفئات العمرية التي تشكل "قوى الثورة". وبالتالي فمصطلح "القوى الثورية" لا يعني القوى التي شاركت في الثورة او استفادت من مجمل التحولات التي سببتها، ولكنه يعني القوى التي سعت وحشدت لإحداث تغيير في الدولة والنظام السياسي والمجتمع يتعدى الحيز الضيق المعني بتغيير القيادة السياسية.

عانت قوى الثورة من عدد من المشكلات خلال الفترة التي تلت ثورة ٢٥ يناير، خاصة الفترة من فبراير ٢٠١١ وحتي يوليو ٢٠١٣، والتي حالت دون حدوث مرحلة فعلية من النقد الذاتي، وجاء علي رأس هذه المشكلات الارتفاع غير المبرر في سقف التوقعات بعد رحيل حسني مبارك. ويكمن السبب الحقيقي وراء هذا الارتفاع هو غياب رؤية واضحة لدى القوى الثورية عن مرحلة ما بعد مبارك، فأغلب قوى الثورة كان سقف مطالبها هو رحيل حسني مبارك، وبعد رحيله تعددت الرؤى واختلفت التوقعات، وبدأت القوى الثورية تنقسم فيما بينها حول حجم التغيير المطلوب وحجم التغيير المتاح، وطبيعة المطالب وطريقة تحقيقها، وانصرفت قوى الثورة في محاولات لإعادة هيكلة الدولة وطرح بدائل لعدد من مبادئ ومواد الدستور. ولم تقم قوى الثورة خلال تلك المرحلة بالربط بين حجم التغيير الذي حدث من خلال اعتصام ميدان التحرير، وحجم التغيير الذي من الممكن أن يحدث في مرحلة ما بعد الاعتصام او ما بعد رحيل مبارك. وبالتالي، لم تقم قوى الثورة بعملية نقد ذاتي نظرا لانشغالها بتطوير خطابها في مرحلة ما بعد مبارك، وإيمانها بارتفاع سقف التغيير الممكن تحقيقه، وهو ما عبر بالأساس عن سوء تقدير من قوى الثورة للمشهد السياسي ككل من ناحية ولحجم التغيير الذي ستسمح به الدولة من ناحية أخرى.

وقد يبدو منطقياً أن تتأخر عملية النقد الذاتي في ظل انفتاح المجال العام ووجود فرصة سياسية تسمح للقوى الثورية بالعمل علي الأرض، ولكن القوى الثورية في مصر لم تمر بهذه المرحلة حتي بعد أن تحولت البيئة السياسية بشكل كبير في مرحلة ما بعد ٣٠ يونيو وأصبحت القوى الثورية مُهمشة بشكل كبير. وتعاني القوى الثورية في مرحلة ما بعد ٣٠ يونيو من خلل تنظيمي من ناحية، ومن افتقار لآليات العمل السياسي التي تتناسب والمرحلة الحالية من ناحية أخرى. ففيما يتعلق بالتنظيم، أدت تفاعلات الست سنوات الماضية، خاصة الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤، إلى عدد ضخم من الانشقاقات في صفوف قوى الثورة، وادت هذه الانشقاقات لخلق كيانات تنظيمية صغيرة، ولإضعاف الكيانات التنظيمية القديمة. كما أن الفترة التي انفتح فيها المجال العام بعد رحيل مبارك، وزاد الاقبال علي المشاركة في الحراك السياسي في صفوف قوى الثورة، وبالتالي زادت عدد العضويات والمقرات الإقليمية لعدد من الحركات الاجتماعية مثل ٦ أبريل أو حركة الاشتراكيون الثوريون، وضعت هذه الفترة تحديا تنظيميا تمثل في استيعاب هذه القوى لعدد المشاركون الجدد في الهيكل التنظيمي القائم، وهو ما أدى لحالة من التشرذم عبر عنها ظهور جبهات متعددة داخل كل تنظيمات قوى الثورة.

علي الجانب الآخر، تعاني قوى الثورة من افتقارها لآليات عمل سياسي تتناسب مع المرحلة الحالية وما بها من تشريعات وتحالفات سياسية ونخبوية جديدة. اعتمدت قوى الثورة في الفترة التي تلت ثورة ٢٥ يناير علي الحشد والتحرك الجمعي كآلية للعمل السياسي من خلال رفع المطالب ونشر الوعي وتطبيق الضغط علي الدولة لإحداث تغيير، بمعنى أن قوى الثورة خلال مرحلة ما بعد ٢٥ يناير، خاصة الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤، كانت اشبه بالحركات المطلبية التي تعتمد بالأساس علي تحرك جمعي مستخدما المساحة العامة. وعلي الجانب الآخر، حاولت بعض القوى الثورية اللجوء لآلية سياسية أكثر مؤسسية من خلال انشاء أحزاب وتحالفات وخوض فعاليات سياسية كالانتخابات، إلا أن القوى الثورية التي لجأت للعمل السياسي المؤسسي لم تتمكن من الوقوف أمام قوى التيار الإسلامي في الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٣، ولم تتمكن من التواجد بين قوى ما بعد ٣٠ يونيو الا من خلال أفراد وليس كيانات تنظيمية، ومن تمكن من البقاء من هذه القوى في مرحلة ما بعد ٣٠ يونيو شهد تغير كلي في النخبة المشكلة للقوام الرئيسي للتنظيم. وبالتالي أصبحت قوى الثورة الآن غير قادرة علي الحشد والتعبئة نظراً للبيئة السياسية غير الداعمة للعمل الجمعي، وهو ما يعني افتقاد قوى الثورة لآلية العمل السياسي الرئيسية التي اعتمدت عليها في مرحلة ما بعد ٢٥ يناير. ولعل الاستثناء الوحيد لهذه الحالة هو التحالف الذي ظهر أخيرا من داخل قوى الثورة ووجد القدرة علي العمل من خلال آلية سياسية مؤسسية عندما لجأ للقضاء لإبطال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وقد أحدث هذا التحالف حالة من التنشيط داخل صفوف قوى الثورة، ولكن تظل هذه الحالة غير مترجمة تنظيميا، ومن غير المتوقع أن يتم ترجمتها تنظيمياً في الفترة المقبلة نظرا لعدد من العوامل التي تتعلق بقوى الثورة من الداخل وبموقف الدولة من التنظيم السياسي غير المؤسسي. 

وبالتالي تبدو المرحلة الحالية هي الأنسب لبدء قوى ثورة ٢٥ يناير في إجراء عملية من النقد الذاتي، وطرح التساؤلات حول ما كان لا يجب أن يتم وما من الممكن عمله، خاصة وأن هذه المرحلة لا تشهد نشاطا تنظيميا كافيا، ولكن كل الدلالات تشير أن قوى ثورة ٢٥ يناير تتجه لخطاب مبني علي الانهزامية والعزوف، بل وإلى نزع البعد السياسي علي مستوى الكيانات والأفراد. ولكن تظل النقطة الأهم التي من المفترض ان تنشغل بها قوى ثورة يناير هي القدرة علي تصحيح الأخطاء، والاستمرار في البحث عن آليات للتواجد، ووضع أهداف قابلة للتحقق في ظل المناخ السياسي الحالي، حيث ان تقاعس قوى الثورة عن البحث عن إجابة لهذه التساؤلات سوف يؤدي للمزيد من التهميش والانهزامية.