متحدث: د/ هناء عبيد
تعقيب: مجدى صبحى
تناول السيمنار العلمى للمركز لشهر سبتمبر دور مؤسسات التمويل الدولية في عملية التحول الديمقراطي، فى ضوء الأدبيات النظرية والخبرات الدولية.
وتناول التحليل تطور منظومة المعونة الدولية وتصاعد قيمة الديمقراطية فى إطارها والآليات الإجرائية التى طورت فى هذا الصدد بداية من الأجيال المختلفة من المشروطية الاقتصادية والسياسية وصولا إلى نظام ما بعد المشروطية.
وناقش العرض فرضية قيام العامل الخارجي بدور في دعم التحول الديمقراطي في دول العالم الثالث، وتحليل دور مصالح الدول الكبرى والمؤسسات الدولية المانحة في هذه العملية منذ انتهاء الحرب الباردة، وكذلك تفسير أثر المشروطية السياسية على السياسات الخارجية للدول المستقبلة للمعونة أو للقروض.
فقد شهد عقد التسعينيات الصعود المتزامن للمشروطية السياسية فى ظل برامج الحكم الرشيد من قبل المؤسسات المالية الدولية من ناحية، والاتجاه إلى تبنى التعددية السياسية والحزبية فى العديد من الدول النامية شديدة الاعتماد على المعونة خاصة فى أفريقيا، بينما مال هذا الارتباط بين الظاهرتين (المشروطية والتحول الديمقراطى) إلى التراجع مع بداية الألفية الجديدة.
وعاد الاهتمام بهذه الظاهرة إلى الصعود مع الموجات الثورية فى دول الربيع العربى.
بدأ التحليل بعدد من المحاذير العلمية والمنهجية بخصوص دور العامل الخارجى فى التحول الديمقراطي في الدول النامية.
فمن ناحية أولى لا تسعى القوى الخارجية إلى دعم التحولات الديمقراطية إنطلاقا من إيمانها بمبادئ الديمقراطية في حد ذاتها، وانما رغبة في تأمين مصالحها الاستراتيجية في تلك المناطق من العالم، ومن ثم فقد يكون العامل الخارجى محايدا إزاء مسألة الديمقراطية أو حتى معوقا لها فى حالة تعارض المصالح الأخرى.
من ناحية ثانية، فإن نوع الديمقراطية التى قد يلعب العامل الخارجى دورا فى تحفيز انطلاقها أو دعمها هى فى الأغلب ذات طابع إجرائى متمثلة فى إجراء انتخابات تعددية بشكل دورى ونزيه، كما ترتبط بشكل وثيق بالنظام الاقتصادى الرأسمالى أى هى ديمقراطية اقتصاد السوق.
وأخيرا فإن دور هذا العامل أكثر وضوحا وقدرة على التأثير فى تفكيك النظم السلطوية عنه فى استقرار أو تعزيز الديمقراطية.
من ناحية ثالثة، يمارس العامل الخارجى دوره بالأساس من خلال التأثير على توازن القوى الداخلى فى المجتمع وليس بشكل مباشر.
الأمر الذى يترتب عليه الصعوبة المنهاجية فى عزل وتقييم تأثير العامل الخارجى فى عملية التحول الديمقراطى.
أخيرا فإن هناك وجهة نظر مضادة، وهى بدورها مدعومة بخبرات إمبريقية تذهب إلى أن الدور الخارجى بوجه عام، وآلية المعونة بوجه خاصة قد تكون معوقة للتحول الديمقراطى من خلال الحديث عن "لعنة المعونة" Curse of Aid حيث إنها تقدم مواردا ريعية، قد تقلل الحافز للإصلاح أو توظف سياسيا لتعزيز الولاء للنظم القائمة أو إفساد المعارضة.
فى ضوء هذا الفهم، ينطلق تحليل أثر العامل الخارجى من خلال نظام المعونة الدولية على عملية التحول الديمقراطى من فرضية انكشاف الدول المتلقية للمعونة للتغيرات والضغوط التى تمارس من قبل المؤسسات المالية الدولية، بحيث تتناسب تلك الانكشافية مع مدى اعتمادية الدولة على المعونة من ناحية، وضعف أوراقها التفاوضية من ناحية أخرى.
وقد تصاعد الاهتمام بدور العامل الخارجي في عملية التحول الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي، فى ظل قيام الاتحاد الأوروبي بالدور الأكبر في هذا السياق لدفع دول شرق أوروبا في التحول عن طريق نوعين من الاستراتيجيات، الأولى هي استراتيجية الربط Linkage ، وتقديم حوافز مادية للدولة حديثة التحول نحو الديمقراطية، والاستراتيجية الثانية هى القدرة على الضغط والاكراه Leverage، التى تعتبر المشروطية السياسية أحد أدواتها.
ويأتى دور نظام المعونة الدولية وفى القلب منه مؤسسات بريتون وودز (البنك الدولى وصندوق النقد الدولى) كحلقة وسط تعكس تأثيرات النسق الدولى على نظم الحكم فى الدول المتلقية للمعونة، بعبارة أخرى يلعب نظام المعونة الدولى دورا أشبه بالمرآة المحدبة التي تقوم بتركيز وتجميع المؤثرات الصادرة من البيئة الدولية وتوجييها تجاه الدول المتلقية للمعونة.
ويتمايز هذا الفهم عن تصور المؤسسات المالية الدولية مجرد وكيل للدائنين.
بعبارة أخرى فإن الآلة البيروقراطية العملاقة للمؤسسات المالية الدولية وعلاقتها المباشرة بالنخب الاقتصادية فى الدول النامية، ودورها فى إنتاج "المعرفة" أو المعلومات التى تأخذ طابع "العلم"، تسمح لها بقدر من التمايز بحيث تضفى طبقة أخرى من التأثيرات الخارجية.
ويمارس هذا التأثير من خلال عدة أشكال أشار إليها Krasner ومنها التأثير التعاقدي والاجرائي والقسري والتأسيسي.
ويتفاوت تأثير العامل الخارجى خاصة من خلال نظام المعونة من دولة لأخرى وفى نفس الدولة من وقت لآخر وفقا للموقف التفاوضي للدولة أو رأسمالها التفاوضى Negotiating Capital والذى يعتمد بدوره على تفاعل عدة عوامل منها: الوضع الاقتصادى للدولة ومدى احتياجها للمعونة، المكانة الاستراتيجية للدولة والتى تتناسب عكسيا مع قدرة العوامل الخارجية على التأثير.
كذلك يدخل فى الاعتبار سمعة النظام الحاكم ومدى الشرعية الداخلية التى يتمتع بها.
وتسمح نظريات regime theory بدراسة تفاوت هيكل القوة داخل النظام وكيف يتفاعل مع تصعيد قيم معينة اتساقا مع توجهات القوى المؤثرة داخل النظام.
فى هذا السياق، فإن المناخ الدولى عقب انتهاء الحرب الباردة سمح ببروز قيمة "الديمقراطية" فى شكلها الإجرائى خاصة المرتبطة باقتصاد السوق، وتفاعل ذلك مع المظلة الفكرية للحكم الرشيد التى تبناها البنك الدولى وصمم فى إطارها برامج للمشروطية السياسية ربطت بين الحصول على المعونة وتبنى سياسات اقتصادية وسياسية تربط بين برامج التحرير الاقتصادى التى تبنتها تلك المؤسسات فى الثمانينيات وسياسات مستحدثة ترتبط بمكافحة الفساد أو الإصلاح المؤسسى والإدارى.
وفى هذا السياق، يتمتع نظام المعونة الدولى بالتأثير سواء بشكل مباشر من خلال التأثير المادي على عملية صنع القرار فى الدول النامية، من خلال سلطة المنح والمنع، فضلا عن التأثيرات غير المباشرة من خلال إسباغ الشرعية على أفكار وسياسات وممارسات بعينها، لذلك برز الحديث عن أثر سلطة الأفكار.
وقد قدم مفهوم"الحكم الرشيد" Good Governanceمظلة تقنية لعبت المؤسسات الدولية المانحة أحيانا أدوارا سياسية مباشرة فى إطاره رغم أن تعريف المفهوم والإجراءات المرتبطة به قد تباينت على مدى الفترات الزمنية المختلفة.
ويعكس واقع الممارسة تداخل الاعتبارات والعوامل السياسية بشكل كبير مع العوامل الاقتصادية أو الفنية فى توجيه قرارات المؤسسات المالية الدولية، بحيث عكست نوعا من التدخل السياسي بمنحى اقتصادى أو تنموى developmental interventionism.
فى هذا السياق ترصد بعض الدراسات الإحصائية علاقة إيجابية بين المعونة المشروطة سياسيا التى تلقتها الدول النامية المعتمدة على المعونة، وتحسن تقييم تلك الدول على مقاييس الديمقراطية الذائعة مثل مقياس فريدوم هاوس أو بوليتى فور.
اتجهت العلاقة بين المشروطية السياسية والتحول الديمقراطى (وفقا لذلك المعيار الإحصائى) إلى التراجع أو الانتكاس في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001، والتى انعكست –ضمن عوامل أخرى- على النظام الدولى للمعونة بحيث تم استبدال نظام المشروطية conditionality بنظام ما بعد المشروطية post conditionality، ذلك المفهوم الذي يتراجع ضمنيا عن فكرة فرض التحولات من الخارج، ويطرح مفهوم الامتلاك ownership بحيث تتبنى الدول النامية سياسات مصممة داخليا.
جوهر التحولات فى إطار نظام ما بعد المشروطية أن المشروطية السياسية على وجه الخصوص أصبحت تمارس من جانب المؤسسات الدولية بشكل انتقائي selective بمعنى وجود دول تمارس ضدها المشروطية، وتختفي ممارستها ازاء دول أخرى، وأصبح التركيز على أدوات التأثير الناعمة، والعمل من خلال الفاعلين الداخليين.
إلا أن الممارسة العملية تشير إلى أن جوهر المشروطيات وإطارها الحاكم ظل على حاله، فالتغير الأساسى حدث على مستوى "خطاب" المؤسسات المالية الدولية.
وفي إطار تعليقه على العرض أشار مجدي صبحي إلى أن الفصل بين دور المؤسسات المالية الدولية ودور القوى الكبرى المهيمنة فى إطارها هو فصل تحكمى، وأن بناء وهيكل القوة بداخل تلك المؤسسات منذ نشأتها سمح للقوى الكبرى بلعب أدوارا مهيمنة وبتوجيه سياساتها.
فكل ما صدر عن البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي كان لخدمة مصالح وأهواء محددة، فبينما كان الهدف الرئيسي من انشاء صندوق النقد الدولي هو معالجة الخلل في موازين المدفوعات لخدمة استقرار النظام النقدي الدولي، ولكن ظهرت الاشكالية مع الدور المهيمن للولايات المتحدة الأمريكية في تأسيس البنك والصندوق الدوليين، حيث كان لها حصة وقوة تصويتيه تتيح لها حق الفيتو، وبالتالي السيطرة على عملية اتخاذ القرارات في المؤسستين، بحيث عكس نظام الحصص وآلية اتخاذ القرار هذا الوضع المهيمن للولايات المتحدة والتى استحوذت آنذاك على حوالى 33% من الأصوات بما يعطيها ما يماثل حق الفيتو المعمول به فى مجلس الأمن على صعيد القرارات الاقتصادية.
وبرغم صعود قوى اقتصادية كالصين والهند والبرازيل مؤخرا، وحدوث تغير فيما يتعلق بنظام الحصص وبالقوى التصويتية لتلك الدول، ما زالت الولايات المتحدة تتمتع بحصة مهيمنة فى عملية صنع القرار.
ومازالت حصة الولايات المتحدة التي هبطت حتى بلغت 16.7% تعطيها حق الفيتو لأنه أصبح يشترط الآن لإقرار أكثر القرارات أهمية في داخل صندوق النقد الدولي الحصول على أغلبية تبلغ 85%، بعد أن كانت في السابق تبلغ 70% حينما كانت الحصة الأمريكية تزيد على 30%.
كذلك اعتبر مجدى صبحى أن العامل الأساسى الذى أدى إلى التغييرات على مستوى النظام الدولى للمعونة مؤخرا هو الأزمة المالية العالمية عام 2008 وبروز دور قوى اقتصادية صاعدة مثل دول البريكس BRICS، والتى لعبت أدواراً مؤثرة فيما يتعلق بقواعد التصويت ومساهمات الدول الكبرى، ومحاولة تأسيس لوبي للدول النامية داخل تلك المؤسسات.
كذلك تأثر نظام ما بعد المشروطية بوجود مانحين جدد لا يولون مسألة طبيعة النظام أو الديمقراطية الاعتبار ومن ثم فرض هؤلاء –خاصة الصين- بشكل ما تعديل قواعد اللعبة، أو أعادوا هامش المناورة للدول النامية والتى كانت قد تلاشت بانتهاء الحرب الباردة.
بالنسبة للقرض الذي تنوي الحكومة المصرية الحصول عليه من صندوق النقد الدولي، يرى أن هناك حاجة حقيقية لذلك القرض بالنسبة لمصر بسبب وجود نسب مرتفعة من العجر في الموازنة العامة، وتم تخفيض التصنيف الائتماني لها عدة مرات منذ اندلاع ثورة 2011، وبالرغم من ذلك فإن سقف توقعات مصر ازاء هذا القرض سيتوقف عند 4.8 مليار دولار أمريكي (وهو ما يمثل ثلاثة أمثال حصة مصر في الصندوق البالغة 1.6 مليار دولار)، لأن ما يتجاوز هذا المقدار سوف يرفع من سعر الفائدة المرتبط بالقرض، كما أن الشروط المرتبطة بأي قرض تتضح عادة بشكل مباشر في خطاب النوايا الذي ستقدمه مصر للصندوق والذي سيتضمن ما ستلتزم به الحكومة من سياسات وإجراءات "لإصلاح" الخلل في الموازنة العامة وميزان المدفوعات.