20/10/2015 اعتادت الدبلوماسية المصرية طوال السنوات القليلة الماضية، وبالنظر إلى حقيقة الموقف الخليجي التاريخي نحو مصر منذ ثورة 25 يناير و30 يونيو، ألا تبدي جوانب تباين شديدة مع الموقف الخليجي.

وعلى الرغم من نقاط الاختلاف الحاسمة بين الموقفين تجاه عدد من القضايا الإقليمية وخصوصا سوريا، فإن مصر تجنبت الاعتراض على المواقف الخليجية المختلفة كل الاختلاف معها، وحتى في ذروة الأوقات التي أفصحت عن التباين الشديد بين مواقف الطرفين، تجنبت الدولة المصرية إظهار موقفها الحقيقي، وظلت تعبر عن موقفها الرسمي بأقصى قدر ممكن من الخفوت.

ولقد اضطرت الدولة مثلا في عهد الإخوان أن تنطلق في محاسبتهم وإقصائهم بقوة وشدة، بعد إعلان الرئيس محمد مرسي الجهاد في سوريا، والذي اعتبره البعض القشة التي قصمت ظهر حكم الإخوان، ومع ذلك جرى استيعاب كل ذلك دون إبداء أو الإفصاح عن أي جوانب اختلاف أو سخط من الموقف الخليجي. لقد جعلت الدولة المصرية على مدى السنوات الماضية موقفها من دول الخليج وعلاقاتها الجيدة معها هدفا جوهريا، وعملت على إبعاد هذه العلاقات عن أي شيء يمكن أن يشوب صفوها، أو يبعدها عن سياقها الاستثنائي الذي ظهر جليا في مواقف السعودية والإمارات والكويت والبحرين وعمان من مصر بعد 30 يونيو، على نحو ربما جعل أي اتجاه مصري للاعتراض أو إبداء سياسة مخالفة لسياسات دول مجلس التعاون كأنه خارج المألوف والمعتاد والمتوقع.

ولنا أن نرى اليوم كيف يجري النظر إلى أي موقف مصري مختلف في السياسة الخارجية عن مواقف دول الخليج، حيث ينظر إليه البعض على أنه إما "نكران للجميل" أو "انقلاب مصري" على دول الخليج.

فهل يشكل فعلا الموقف المصري من التدخل الروسي في سوريا، ومن الأزمة السورية عموما، انقلابا مصريا على دول الخليج وعلى المملكة السعودية، أم أن مساحات الاختلاف بين البلدين محدودة أو منعدمة في بعض القضايا، وأن نهر العلاقات قد سار بعيدا عن أي توتر محتمل، على نحو ما يحرص الجانبان على تكراره على الصعيد الرسمي؟ هل الخلاف المصري الخليجي بشأن سوريا هو خلاف جوهري وبداية مسار منفصل بين الجانبين، أم أنه يدار في ظل مساحة أكبر من التفاهم؟ المؤكد أن هناك جوانب خلاف أساسية بين مصر وكل من السعودية وقطر تحديدا فيما يتعلق بسوريا؛ فقد استثمر البلدان (السعودية وقطر) كثيرا لأجل الإطاحة بالنظام السوري، وسارا في ذلك مسارا طويلا، يصعب عليهما التراجع عنه لاعتبارات واقعية بحتة، تتعلق بأن تحالفات البلدين مع الجماعات الجهادية قد بلغت مديات سيترتب عليها انعكاسات استراتيجية وجيوبوليتيكية على خريطة العنف والإرهاب والجهاد في منطقة الشرق الأوسط برمتها.

ومن المرجح أن أي عودة عن الطريق تعني خسارة البلدين لاستثماراتهما الضخمة في جماعات الجهاد، وتعني أيضا بداية تساؤلات في الداخل حول مغزى وقيمة ما أنفق من أموال، وما جرى تبنيه من مواقف سياسية حادة.

ومن ثم لن تقتصر ردود الفعل على الجانب السياسي فيما يتعلق بالإقليم وعلاقة السعودية وقطر بكل من سوريا وإيران والمحور الشيعي وحزب الله والعراق، ولا تقتصر على خريطة انتشار الإرهاب والعنف والجهاد مستقبلا، وإنما ستمتد إلى الداخل، حيث أن هناك آلاف الجهاديين الذين ينتظر أن يعودوا إلى بلادهم في الخليج بعد أن ينفض السامر السوري، ومن المتوقع أن يطرحوا تحديا أمنيا هائلا، على غرار التحدي الأمني والسياسي الذي شكله العائدون من أفغانستان في السابق. ومن المؤكد أن المملكة العربية السعودية كانت تتوق إلى موقف مصري متوافق معها تماما بشأن سوريا، على نحو يشكل حائط صد أمام إمكانية عودة نظام الأسد، أو تشكيل تحالف إيراني عراقي سوري ضد بلدان الخليج، يشكل تهديدا كبيرا للخريطة السياسية للمنطقة تاليا.

فهذا هو الموقف الأمثل الذي كانت السعودية تتوقعه من مصر.

لكن بجانب ذلك، فإن هناك العديد من المستجدات التي تشهدها بنية العلاقات والمسألة السورية: أولا: أنه جرى تشاور واسع بين مصر ودول الخليج بشأن سوريا، فالموقف المصري لم يتخذ دون تشاور مسبق، وعلى الأرجح أن الحوار خلال هذا التشاور لم ينصب على التباين في المواقف والمصالح الخاصة بكل طرف، وإنما التباين في المداخل بشأن المصلحة العربية العامة في سوريا، بعد 5 سنوات من سياسة محددة كانت حصيلتها صفر كبير، فالزيارات المتبادلة بين قيادات البلدين مستمرة، وهو ما يشير إلى التشاور المسبق، وأنه يصعب تبني مواقف دول تشاور قبلي.

فهناك زيارتين قام بهما ولي ولي العهد السعودي (الأمير محمد بن سلمان) لمصر، وزيارات للرئيس السيسي للمملكة، وهناك زيارات مستمرة من قبل وزيري خارجية البلدين، وهناك انسجام في المواقف الرسمية بشأن قضايا متعددة، وفي كل مرة يثار الحديث عن خلافات بينية يؤكد الجانبان على عكس ذلك بالأفعال لا بالأقوال.

ثانيا: التباين في المواقف الخليجية من سوريا، وهو ما يعني أنه حتى إذا لم يكن هناك تشاور مصري-سعودي حول كل شيء في سوريا، فعلى الأقل هناك تشاور مصري مع دول أخرى بمجلس التعاون الخليجي حول المسألة السورية، ومن المؤكد أنه كان هناك توافق قبلي بين كل من مصر والإمارات والأردن، حول التدخل الروسي، كما اجتهدت مصر لكسب مواقف دول عربية أخرى مثل تونس بشأن الموقف من سوريا، على نحو ما انعكس في بيان القمة المصرية التونسية بالقاهرة في أكتوبر الجاري الذي أكد فيه البلدان على توافق الرؤى حول الحل السياسي في سوريا.

وأنه حتى داخل منظومة مجلس التعاون، فإن المؤكد أن موقف السعودية وقطر ليس هو ذاته موقف باقي دول المجلس، فموقف سلطنة عمان والكويت –علاوة على الإمارات بالطبع- مختلف كثيرا عن الموقف السعودي.

ثالثا: أنه من الناحية الواقعية والفعلية، فإن الموقف (السعودي-القطري) الذي جرى التمسك به منذ بداية الأزمة في 2011، تبين صعوبة تحقيقه حرفيا، وأن السعودية بدأت تقتنع بإمكانية تنازل الرئيس السوري من خلال عملية سياسية وليس فورا، وأنه يرجح أن روسيا أقنعت السعودية (خلال زيارتي ولي ولي العهد لروسيا) بأن تدخلها لن يقدم خدمة للنظام، وأنها تبحث عن تحقيق اتفاق جنيف والحفاظ على الدولة، وفي هذا السياق أكدت روسيا أن بقاء الأسد ليس مبدئياً بالنسبة لها، وأنه سوف يتعين على الرئيس السوري تقديم تنازلات ما في ظل أي تسوية.

وعلى الأرض ومن خلال الخطوات العملية، فإن من الصعب تصور أن تفتح السعودية جبهة جديدة للتدخل في سوريا في انشغالها التام على جبهة اليمن، خصوصا مع إدراكها محدودية الرغبة الأمريكية في إكمال الطريق ضد نظام بشار.

فحتى الآن ورغم استمرار المواقف السعودية والقطرية المتشددة إزاء النظام السوري، فإن دول مجلس التعاون الخليجي لم تفعل غير تقديم الدعم السياسي والعسكري "للجهاديين" وللجيش الحر، كما أن مشروعات تدريب "المعتدلين" غير واضحة، ويبدو أنها لم تنجح كثيرا، خصوصا وأن مشروع توظيفهم واستخدامهم ليكونوا طليعة "قوات تحرير" على غرار ما حدث في عراق صدام حسين، قد فشل مع تردد إدارة أوباما في أخذ العملية العسكرية في سوريا على محمل الجد، فضلا عن ذلك، فإنه ليس واضحا ماذا يعني الإطاحة بالنظام دون الترتيب لليوم التالي من حيث توفير البديل السياسي. لكل ذلك، فإن الأرجح أن التدخل الروسي، وما رافقه من موقف مصري تجاه الأزمة، لم يأتيا على أرضية تباين قاطعة مع الموقف السعودي، وإنما جاءا على أرضية ملء فراغ البدائل والإحلال السياسي.

وسيبقى موضوع الإطاحة ببشار الهدف السياسي الأهم للسعودية، والموقف السياسي المعلن لها في ظل رؤيتها الأشمل لاستقرار الخليج وتفادي التبعات السلبية سالفة الذكر، ولكنه ليس الهدف العاجل أو مشروع اللحظة الضاغط على أعصاب صناع القرار بالمملكة، وإنما هو المشروع الذي سيجري العمل له على نطاق زمني أطول، وهو أيضا وجهة النظر التي أعلنتها الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي للمملكة السعودية.

وفي النهاية لا يمكن للمملكة التعايش مع استمرار بشار، وتصور احتمال تكون حلف سوري إيراني عراقي مع شبكات ما دون الدولة الشيعية، ولكنها لن تتحرك ضد هذا المشروع الآن وإنما سيشكل ذلك الرؤية المؤجلة، وهو ما يعني استمرار الدعم السعودي لأي تحرك للإطاحة بالأسد عندما تلوح الفرصة، واستمرار تقديم الدعم لجماعات الجهاد، لكن في ظل هندسة مشروع تفاوض ونقاط توافق لم تكتمل مع روسيا، فإما تقرر السعودية استنساخ نموذج أفغانستان، أو يتوقف المشروع في منتصف الطريق عندما تلوح أفق تسوية تحقق الهدف الأساسي.

هنا فإن الموقف المصري ليس متناقضا تماما مع الموقف السعودي، ومن المؤكد أن البلدين يدركان ذلك جيدا، فمن المهم أن يضع بعض العرب كراتهم في سلة روسيا السورية، لامتلاك أوراق للتأثير عليها عند الضرورة، بما لا يتعارض كلية مع حدود التوافقات الأدنى بين المواقف العربية في سوريا.

ولقد جاء الترتيب للموقف الروسي بتوافقات ومباحثات عربية استمرت لفترة مع روسيا والزعيم الروسي، وهو ما عكسته اللقاءات بين قيادات مصر والإمارات والأردن مع الرئيس بوتن ومستويات القيادة الروسية مؤخرا، في مناسبات قدمت على أنها مصادفة.

وبشكل عام، فإن هناك نمطا جديدا من إدارة الاختلافات العربية، يمكن وضع الأيدي على جوانب منه، دون قدرة على الإحاطة بتفاصيله وأسراره، وهو أنه في الوقت الذي يجري التضخيم في خلافات معلنة، فإن هناك تطورات سياسية يجري الإعلان عنها بين فترة وأخرى، تجب أي نقاط للخلاف، ويبدو أن ثمة توافقا رسميا على أهمية توظيف نقاط الخلاف المطروحة في الإعلام والإبقاء عليها، بل والاستفادة منها.