صافيناز محمد أحمد
خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
18/04/2015
أثارت الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لطهران في السابع من إبريل الجارى الكثير من علامات الاستفهام حول أهداف وأبعاد تلك الزيارة لاسيما من حيث توقيتها الإقليمى؛ حيث تأتى متزامنة مع تطورات إقليمية حادة ستكون لها تأثيراتها على خريطة التوازنات الإقليمية في المنطقة مستقبلا.
تتعلق هذه التطورات أساسا بالوضع في اليمن في ظل سيطرة جماعة أنصار الله الحوثية الشيعية على فواصل الدولة اليمنية وضلوع النفوذ الإيراني الإقليمي في الأزمة لاسيما بعد تصريحات مسئوليها في هذا الشأن، وكذلك تطورات عاصفة الحزم التي شنتها قوات التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية على معاقل ومرتكزات الحوثيين في اليمن.
هذا بالإضافة طبعا إلى الاتفاق النووي الإيراني مع الولايات المتحدة والغرب وتأثيراته على مجمل الملفات الإقليمية في المنطقة والتي تتنافر فيها المشروعات الإقليمية لكلا من الدولتين وبالتحديد في العراق وسوريا.
ويأتي أخيرا ملف الطاقة والعلاقات الاقتصادية الوثيقة بين البلدين على الرغم من اختلاف رؤيتهما الإقليمية للأحداث في المنطقة، وهو ما قد يطرح تساؤلا حول مدى ما تمثله اختلافات الرؤى التركية الإيرانية خلال الظرف الإقليمي الراهن من تأثير على العلاقات البينية؛ فهل ستستمر حالة "التوافق النوعي" في العلاقة بين البلدين عبر تدوير تلك الخلافات وتحييد آثارها، أم أن تلك الخلافات ستتسع مما يدفع العلاقة بينهما في اتجاه "التنافس الإقليمي" لاسيما في ظل رغبتهما في التواجد الفعال في المنطقة في ظل التطورات الراهنة؟
عاصفة الحزم والتوتر التركي الإيراني
تعتبر زيارة أردوغان لطهران أول زيارة يقوم بها رئيس تركي لإيران منذ أربعة أعوام وتأتي في ظل توتر العلاقات بين البلدين على إثر حرب التصريحات المتبادلة والانتقادات التي وجهها أردوغان للدور الإيراني في الأزمة اليمنية وكذلك مطالبته لها بالانسحاب من سوريا والعراق، يأتي تطور رد الفعل التركي مثيرا للتساؤلات، لاسيما وأن أنقرة حرصت طوال السنوات الماضية على تجنب الصدام مع طهران إثر خلافاتهما بشأن الكثير من الملفات الإقليمية؛ فمصالح المشروع الإقليمي التركي غالبا ما تقتضى إقامة تحالفات على الأرض ضد مصالح نظيره الإيراني لاسيما في العراق وسوريا وحاليا في اليمن.
فقد اتهم أردوغان الحوثيين بشن حرب على الدولة اليمنية بالوكالة عن إيران، الأمر الذى أضاف حلقة جديدة إلى حلقات الخلاف التركي الإيراني في الوقت الذى أدت فيه الأزمة نفسها والموقف الإيراني منها إلى تسريع وتيرة التقارب بين تركيا والسعودية مما قد يعد مؤشرا على تحالف تركي سعودي مستقبلا.
كما اتهم أردوغان إيران بمسئوليتها عن الصدام الطائفي في المنطقة وطالبها بالعمل على حظر الصراع المذهبي الذي تأججه عبر خطاب طائفي يصور انتصار الشيعة ومعه النفوذ الإيراني في عواصم أربع دول عربية، وجاء تأييد تركيا لعاصفة الحزم وتقديم الدعم اللوجيستي لها لتدخل العلاقة بين الطرفين في منعطف سلبي يشير إلى اتجاه انقرة لاعتماد استراتيجية "المواجهة الناعمة" مع منافسها الإقليمي الإيراني، عبر استراتيجيتين، تعتمد الأولى على "تحييد الخلافات" عبر تحييد العلاقات الاقتصادية بين الطرفين وإبقاءها بعيدة عن توتر الملفات السياسية على اعتبار أن كلاهما يحتاج الآخر من الناحية الاقتصادية، وهو ما مكنهما طوال السنوات الماضية من المحافظة على درجة من التوازن والتركيز على تطوير العلاقات الاقتصادية التي وصلت إلى درجات فعالة من التعاون الثنائى؛ حيث لوحظ أن الوفد التركي المرافق لأردوغان ضم سبعة وزراء لوزارات معنية بالشأن الاقتصادي إلى جانب وزير الداخلية.
أما الاستراتيجية الثانية وهى الأهم فتتمثل في سعي تركيا لتنمية العلاقات البينية مع السعودية -العدو التقليدي لإيران- لاسيما بعد أن رصدت تركيا توجها سعوديا قويا نحوها خلال الأسابيع القليلة الماضية يستهدف اصطفافها مع التحالف العربي في عاصفة الحزم ضد الحوثيين، حيث تدرك الرياض أن الظرف الإقليمى الراهن يحتم عليها الاعتماد على أنقرة السنية في مواجهة إيران الشيعية ومشروعها في المنطقة على الرغم من الخلافات في بعض القضايا لاسيما ما يتعلق بالموقف التركي من مصر؛ كما تدرك تركيا أيضا أن السعودية غير قادرة في الوقت الراهن على الابتعاد كلية عن النظام السياسي الحالي في مصر رغم الخلافات التركية مع الأخير ورغم الخلافات في وجهات النظر السعودية المصرية تجاه بعض الأمور وبالتحديد منذ تولى الملك سلمان مقاليد الحكم في الرياض، لأن ابتعاد السعودية عن مصر سيدفع القاهرة إلى تفعيل درجات التعاون بصورة أكبر مع المعسكر المناوئ للرياض وهو المعسكر الروسي الإيراني وهو أمر لن يخدم استقرار منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية منه بالتحديد.
في المقابل وإقليميا اتبعت إيران بدورها وخلال الشهور القليلة الماضية استراتيجيتين، تمثلت الأولى في فرض الأمر الواقع عبر التواجد القوي في كافة الملفات لضمان أوراق ضغط إقليمية تمكنها من عدم تجاوز سقف محدد من التنازلات التي لن تكون جوهرية من وجهة نظرها وكان الملف اليمني ولايزال إحداها.
وتمثلت الاستراتيجية الثانية في "الانفتاح" تجاه الأطراف الدولية مستهدفة بذلك ضمان النجاح لمفاوضتها النووية التي تكللت باتفاق لوزان الإطاري على أن يتم التوقيع النهائي للاتفاق في يونيو المقبل ومن ثم حصول إيران على دعم دولي لمشروعها الإقليمي في المنطقة، وهو ما تخوفت منه كل من السعودية وتركيا على حد سواء واعتبرت كلاهما أن الاتفاق النووي "مصدر قلق"؛ خاصة تركيا التي قد ترى في اتفاق إيران النووي خصما من رصيدها لدى حسابات الولايات المتحدة والغرب المتجهين لانفتاح "محتمل" على إيران خلال السنوات القادمة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وقد دفع ذلك تركيا إلى إعادة تفعيل سياسة "تحييد الخلافات " مع إيران عبر استمرار الحفاظ على التقارب والتعاون الاقتصادي النوعي بينهما، حيث كانت العلاقات التجارية والاقتصادية هي العنوان المعلن لزيارة أردوغان لطهران، وفي الوقت نفسه إثبات الحضور الإقليمي التركي عبر التحالف مع دول الخليج في مواجهة ضمنية لإيران التي تتجه إلى تعزيز نفوذها بقوة في الشرق الأوسط، وحملها على لعب دور إيجابي في الصراع الداخلي في اليمن عبر وساطتها لدى الحوثيين للعودة إلى الحوار والتفاوض على اعتبار أن ذلك يشكل الآليات الأجدى في حل الأزمة.
استمرار التوافق الإقليمي..
لماذا؟
مما سبق يمكن القول أن "التوافق الإقليمي" القائم على استراتيجية "تحييد الخلافات" بين الطرفين التركي والإيراني سيظل هو عنوان العلاقة بينهما خلال المرحلة القادمة على الرغم من بوادر التوتر التي تلوح في الأفق على وقع الأزمة اليمنية وعاصفة الحزم والبرنامج النووي الإيراني وعكست زيارة أردوغان الأخيرة لطهران قدرا من هذا التوافق، والسؤال هنا لماذا ؟ أى لماذا رغم التوتر في العلاقات سيستمر التوافق الإقليمي بين البلدين؟ في معرض الإجابة على هذا التساؤل لابد من التفريق بين العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين وبين الخلافات التكتيكية؛ فالخلافات بين الطرفين خلافات "تكتيكية" وليست "استراتيجية" وأن حالة التوافق الاستراتيجي لا تعنى تطابق كافة الرؤى التكتيكية بينهما أي لا تعني الاتفاق على كل القضايا.
في هذا السياق رصد المهتمون بالعلاقة بين البلدين مؤشرات عدة تدلل على استمرار حالة التوافق التركي الإيراني منها أولا، مراهنة تركيا على سعي إيران في العمل جاهدة خلال المرحلة القادمة على إعادة إثبات نفسها في أعقاب الاتفاق النووي المؤقت مع القوى الكبرى باعتبارها قطب إقليمي قادر على حلحلة الخلافات في المنطقة مما سيدفعها -من وجهة النظر التركية- إلى الحفاظ على خطوط التنافس الإقليمي مع غيرها من القوى الموازنة لها إقليميا حتى لا تبدو أمام العالم الغربي بأنها سعت للاتفاق من أجل فتح مزيد من بؤر الصراع في المنطقة المحتدمة، بل على العكس ستحاول طهران إعادة طرح نفسها على أنها الشرطي القادر على حل الخلافات في المنطقة طالما اعترفت الدول الكبرى بهذا الدور لها، وهو ما يفترض أيضا دورا إيرانيا مختلفا في ملفات الصراع بما يحدث إنفراجة فيها وبالتحديد الأزمة السورية واليمنية.
ثانيا، أن لتركيا مصالح اقتصادية مهمة مع إيران يأتي في مقدمتها أن إيران تعد مصدرا رئيسيا لمد تركيا بالغاز، حيث تعتبر ثاني أكبر مصدر للغاز لتركيا بما يقارب العشرة مليارات متر مكعب سنويا، وهو ما دفع الرئيس التركي خلال زيارته لطهران إلى المطالبة بخفض إيران لسعر الغاز، كما دعا إلى التبادل التجاري بالعملة الوطنية لكلا الدولتين، كما أن تركيا ظلت ولسنوات طويلة إحدى النوافذ التجارية التي تنفست منها طهران بما خفف من وطأة الحصار المفروض عليها منذ سنوات.
ثالثا، أن كلا البلدين لديهما مصالح مشتركة في مواجهة المتمردين الأكراد في جبال قنديل التي تطل على إقليم كردستان بأكمله حيث الحدود العراقية التركية والتي تمثل المعقل التقليدي لمقاتلى الحركات المسلحة الكردية؛ فأنقرة تواجه مقاتلي حزب العمال الكردستاني المعارض وطهران تواجه مقاتلي حزب بيجاك الإيراني المعارض الأمر الذي فرض عليهما نوعا من التنسيق والتعاون الأمني خدمة لمصالحهما المشتركة.
رابعا، أن تركيا أبدت دائما وعلى المستويين الإقليمي والدولي دورا داعما للملف النووي الإيراني.
خامسا، استطاعت تركيا باستمرارية سياسة تحييد الخلافات مع موازنها الإقليمي الإيراني من تحقيق نقلة في مجالات التعاون التجارية والاقتصادية؛ حيث أسفرت الزيارة عن توقيع عددا من اتفاقيات التعاون الثنائي في مجالات التبادل التجاري والجمارك والطاقة والسياحة والنقل، كما حصلت على وعود برفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين من 14مليار دولا إلى 30 مليار خلال المرحلة المقبلة.
زيارة أردوغان لإيران تؤشر إذن على رغبة أنقرة الحفاظ على علاقات مفتوحة مع موازنها الإقليمي الإيراني بالرغم من "اختلافاتهما التكتيكية " في بعض القضايا، وتؤشر أيضا إلى اتباعها لسياسة الاحتواء معها لاسيما بعد اتفاقها النووي على أمل أن يؤدي ذلك إلى الحفاظ أولا على خطوط التعاون الاقتصادي وتفعيلها مستقبلا، وثانيا تذليل العقبات التي وضعتها إيران طوال السنوات الماضية كحجر عثرة في العديد من ملفات المنطقة عبر دفعها للعب دور "الوسيط المحايد" بدلا من الراعي الإقليمي في المعضلات الإقليمية التي يشكل الشيعة قاسما مشتركا فيها، مما قد يؤسس لمرحلة جديدة لحل الخلافات بقدر من الهدوء مستقبلا.