تنتظر تركيا إجراء الانتخابات التشريعية في يونيو القادم، وتحمل المعركة التشريعية المقبلة استثنائية خاصة، بالنظر إلى رهان الرئيس أردوغان عليها في تحويل طبيعة النظام السياسي فضلا عن إنجاز تسوية سلمية لقضايا العلويين وأيضا القضية الكردية التي تؤرق جنبات البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأدت إلى تراجع حظوظ تركيا سواء فيما يتعلق بتطورها الااقتصادي أو بشان اللحاق بالقطار الأوروبي.
وأدى القمع التركي للأكراد منذ عهد أتاتورك إلى تشويه الصورة الذهنية للحكومات التركية المتعاقبة فضلا عن تراجع تركيا في سجلات حقوق الإنسان بالنظر إلى مقتل ما يقرب من 40 ألف كردي واعتقال الآلاف، وفي الصدارة عبدالله أوجلان زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني التي تخوض الكفاح المسلح ضد الدولة التركية.
وثمة قيوداً على الأقليات في تركيا، وعلى نحو خاص سياسة التمييز ضد العلويين في المؤسسات العامة والخاصة، ناهيك عن القيود المفروضة على ممارسة عقائدهم الدينية.
وعلى الرغم من سلسلة من الإجراءات الإصلاحية لمحاولة تهدئة احتقان الأقليات إضافة إلى وعود انتخابية بتسوية أوضاع الأقليات، وفتح الطريق السياسي أمام مشاركتها في هياكل الدولة ومؤسساتها المجتمعية، إلا أن هذه الإجراءات لم تفلح في تهدئة توترهم المكتوم.
فقد رفض الأكراد هذه الإصلاحات التي لم تول أهمية لمطالبهم الرئيسية وفي مقدمتها الحق في التعلم والتدريس باللغة الكردية، كما عارضتها الأقلية العلوية لعدم تخصيص أماكن للعبادة أو توفير دعم مالي لهم من مؤسسة الشؤون الدينية التي تولي اهتماماً ببناء المساجد سواء في تركيا أو خارجها.
والواقع أن الأقليات في تركيا قد قطعت خط العودة للوراء مع الدولة، وربما يكون أكبر دليل على ذلك إعلان الجمعيات العلوية مجتمعة لأول مرة التصويت لحزب الشعوب الديمقراطية الجناح السياسي للأكراد الذي يخوض الانتخابات التشريعية لأول مرة منفرداً، إذ جرت العادة أن يخوض الأكراد الانتخابات على قوائم الأحزاب التركية.
لذلك لم تفلح الإجراءات السياسية والمجتمعية التي اتخذتها حكومة العدالة والتنمية طوال الأعوام الثلاثة التي خلت في تسكين أوجاع الأقليات والطوائف التي تشغل مساحة هامة في تركيا، لاسيما في ظل إصرار الدولة على مصادرة أراضي ومساجد وأصول مملوكة للطائفة العلوية وغض الطرف عمن تسببوا في وقوع مجازر بحقهم، ناهيك عن مماطلتها في تنفيذ تعهداتها مع الأقلية الكردية، والإصرار على التدخل الأمني بليل أو من وراء ستار داخل المناطق الكردية.
وكشفت التظاهرات الكردية والعلوية طوال الشهور الماضية عن حجم الهوة التي ما زالت تفصل بين النظام السياسي والأقليات في تركيا، رغم وعود النظام السياسي المتكررة بمعالجة شاملة ونهائية لأوضاعهم، وهو الأمر الذي فتح الباب واسعاً على فرص تسوية أزمات الأقليات في تركيا، ومدى قدرة أردوغان على استمالة الكتل التصويتية لها باتجاه حزب العدالة والتنمية، خاصة بعد رفض قطاع معتبر من الأكراد دعوة أوجلان لإلقاء السلاح وإصرار الأقلية العلوية على خيار المواجهة مع الدولة.
تراجع حظوظ الأقليات التركية لم تكن المواجهات المتقطعة التي تدور رحاها اليوم بين الدولة التركية والأقليات، وبخاصة الأقلية الكردية التي يقدر عددها بـما يتراوح بين 12 إلى 15 مليون من أصل 76 مليون نسمة هم إجمالي السكان، هي الأولى من نوعها، إذ تعود الأزمة إلى زمن بعيد.
فخلال الفترة الماضية نظمت الأقلية العلوية سلسلة من التظاهرات ضد حكومة العدالة والتنمية، وكانت أقوها وأهمها في نوفمبر 2013 رداً على سياسة التمييز والتضييق تجاه أبناء الطائفة.
أما الأكراد وعلى الرغم من أنهم تاريخيا لم يكونوا على عداء مباشر مع الدولة العثمانية، بل تحالفوا معها في حروبها ضد الأرمن والإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، ولكنهم قاموا بثورة في العام 1880 عندما اتجهت دولة الخلافة إلى تسوية قضية الأرمن على حساب الأكراد.
ووصل الاحتقان إلى الذروة بين الدولة التركية والأكراد بعد سقوط دولة الخلافة في العام 1923 ووصول أتاتورك إلى سدة السلطة، إذ تحولت مطالب الأكراد التي تنكر لها أتاتورك إلى ثورة بقيادة الشيخ سعيد الكردي في العام 1925- 1926، ولكن تم إخمادها بالقوة ، خصوصا بعد أن كفر الأخير أتاتورك لإلغائه الخلافة الإسلامية لمصلحة تغريب الدولة العثمانية.
ودخلت المسألة الكردية طوراً جديداً باعتقال أوجلان في 16 فبراير 1999 وتقديمه للمحاكمة.
وظلت علاقة الشك والمراوحة قائمة بين الحكومات التركية والأكراد حتى جاءت حكومة العدالة والتنمية التي تبنت سياسة أكثر انفتاحاً تجاه الأكراد من خلال مراجعة بعض الأفكار وتغيير مفردات اللغة السياسية، وفي العام 2009 طرحت حكومة أردوغان مبادرة الانفتاح الديمقراطي حيال الأكراد.
وفي العام 2012 بدأت حكومة العدالة والتنمية محادثات مع أوجلان، وعلى إثر ذلك أعلن حزب العمال الكردستاني المدرج على قوائم الإرهاب التركية والأميركية وأيضا الاتحاد الأوروبي وقف إطلاق النار وبدء الانسحاب من الأراضي التركية والعودة إلى قواعده في شمال العراق.
غير أن منحنى العلاقة أخذ في التراجع في العام 2013 احتجاجاً على بناء جدار على الحدود مع سورية في مدينة نصيبين جنوب شرق البلاد، الأمر الذي وصفه الأكراد بأنه خطوة تهدف لمنع المجتمعات الكردية من تعزيز الروابط فيما بينها عبر الحدود.
ورغم سلسة إصلاحات تبنتها تركيا في العام 2013 باتجاه تعزيز حقوق الأكراد في استخدام لغتهم وحق إطلاق أسماء كردية على قراهم ومدنهم، إلا أن انعكاساتها على تسوية الأزمة يبقى محدوداً لعدة اعتبارات أولها أزمة الثقة بين الطرفين، والتباطؤ في تنفيذ تعهدات حكومية سابقة، وهو الأمر الذي شكل عنصراً مهما في تغذية الشكوك لدي الأقلية الكردية، والتي تصاعدت لدرجة لم تعد فكرة الوعود البراقة أو الاحتشاد الداخلي قادرة على معالجتها.
تسوية أوضاع الأقليات ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء تصاعد رغبة أردوغان في معالجة قضايا الأقليات، وفي الصدارة منها القضية الكردية أولها ضمان أصوات الأقليات الكردية والعلوية في المعركة الانتخابية التي يراهن عليها أردوغان في إعادة هيكلة النظام السياسي وتحويله إلى رئاسي أو شبه رئاسي لضمان الإمساك بمفاصل الدولة وأعصابها الحساسة.
وكان رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان عرض على أوجلان خريطة حل تشمل تحسين ظروف سجنه وإلقاء السلاح مقابل تسوية سياسية دستورية.
وثانيهما رغبة أردوغان في اللحاق بالقطار الأوروبي، إذ ما زالت أوضاع الأقليات السلبية تمثل حجر عثرة أمام قبول عضوية تركيا، وكانت بروكسل قد وبخت أنقرة لسياستها تجاه الأكراد ناهيك عن العنف ضد العلويين.
ويرتبط الدافع الثالث بمخاوف أنقرة من الانفتاح الأمريكي الأوروبي على الأقليات، وتوفير دعم لوجستي ومادي غير مسبوق لها، وكان ذلك قد تجسد في التنسيق مع الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا برئاسة صالح مسلم الفرع الرسمي لتنظيم حزب العمال الكردستاني التركي، وتثمين الدور الذي قام به في مكافحة تنظيم "داعش" في كوباني.
وكانت جهود تركيا قد أحبطت في الشهور التي خلت في أن يكون هناك إنهاء تام لحزب العمال الكردستاني كتنظيم مسلح بسبب الدور الذي اتخذه الحزب في القتال في سوريا والعراق في مواجهة "داعش".
وترجع أسباب تقاعس تركيا عن مساعدة الأكراد السوريين في الدفاع عن كوباني إلى عوامل تاريخية وسياسية، حيث تنظر تركيا بنظرة تشكك إلى الأكراد الذين ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني، والذين يسعون لحكم ذاتي في سوريا مما قد يلهب طموحات أقرانهم في تركيا.
حدود النجاح على الرغم من أن نخب الحكم في تركيا حاولت التأسيس لتفاهمات جديدة مع الأقليات لتفادى تأثيراتها على العملية الانتخابية المقرر لها يونيو المقبل، إلا أن خطواتها على طريق الالتفاف على تظاهراتها وفعالياتها تبقى محدودة لعدة اعتبارات أولها أزمة الثقة بين الطرفين، والتباطؤ في تنفيذ الوعود والإصلاحات التي طرحت كثيراً.
وثانيهما أن وعود أردوغان وحتى خطواته الإصلاحية التي كشف النقاب عنها اعتبرها العلويون والأكراد لا تتعدى كونها وعود شفهية ، خصوصا أن البرلمان التركي لم يصادق عليها، وهو الأمر الذي يفقدها قوة القانون، ومن ثم يضعف تأثيرها على أوضاع العلويين والأكراد في تركيا.
إلى جانب ذلك تنظر الأقلية والطائفة إلى رد فعل أردوغان على أنه مجرّد مناورة للاستهلاك السياسي الداخلي، ومن أجل كسب أصوات انتخابية في معركة الانتخابات النيابية المقبلة.
ويرتبط السبب الرابع بأن القوميين الأتراك والمعارضة ما زالت ترى أوجلان مسؤولا عن مقتل عشرات الآلاف من الناس في المواجهات التي شنها على مدى 30 عاماً مع الجيش التركي، ولكن بالنسبة إلى كثير من الأكراد فأن الرجل البالغ من العمر 65 عاماً يجسد صراعهم المرير من أجل مزيد من الحقوق الثقافية والسياسية.
أما المعوق الخامس فيعود إلى اتساع الرتق بين أوجلان والجناح العسكري لمنظمة العمال الكردستاني الذي يريد التصعيد مع الحكومة واستئناف العمل المسلح.
وأظهرت بعض الوقائع أن هناك شكوكا جدية في مدى قدرة عبدالله أوجلان من محبسة في لجم المارد الكردي أو التحكم فيه، خصوصا بعد تجاهل دعوته للتهدئة في الشارع والصبر حتى نفاذ الحوار مع الحكومة التركية.
في سياق متصل لم تعد قيادات العمال الكردستاني ومنظومة المجتمع الديمقراطي وشباب الهيئات الشعبية الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا تأتمر بأمر أوجلان، وهي على اتصال بطهران وواشنطن، وأن فتح الأبواب على اتساعها أمام صالح مسلم رئيس الاتحاد الديمقراطي الكردي يعد حلقة في هذا التحول فضلا عن أن حزب العمال الكردستاني بات قوياً تنظيمياً بعد الإفراج عن نحو 2000 من عناصره المدنية في إطار الحل السلمي الذي بدأته الحكومة مع أوجلان قبل نحو عامين.
القصد أن مسيرة التسوية السلمية بين الدولة التركية والأقليات تقف على مفترق طرق، بالنظر إلى اتساع هوة الثقة بين الطرفين ناهيك عن التغيرات الإقليمية التي باتت تصب في مصلحة الأقليات، وبخاصة الأقلية الكردية التي مثل نجاح أبناء عمومتهم في كوباني في دحر داعش وكسب ثقة المجتمع الدولي سابقة تعد هي الأولي من نوعها.