صافيناز محمد أحمد
خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
20/10/2014
تشهد تونس خلال شهر أكتوبر الجاري ونوفمبر المقبل استحقاقين انتخابيين هما الأهم في مسار عملية الانتقال الديمقراطي منذ ثورة 14 يناير2011 وحتى الآن؛ حيث أقر البرلمان التأسيسي إجراء الانتخابات التشريعية في السادس والعشرين من أكتوبر الجاري والانتخابات الرئاسية في الثالث والعشرين من نوفمبر المقبل.
وتعد تلك الانتخابات هي الخطوة الأولى في طريق إقامة مؤسسات حكم دائمة بدلا من المؤسسات الانتقالية التي أفرزتها الانتخابات التأسيسية التي أجريت في 23 أكتوبر 2011، وترسخ هذه الانتخابات أسس التعددية السياسية والتداول السلمى للسلطة في الجمهورية التونسية الجديدة.
وبنجاح تونس خلال الأسابيع القادمة في إجراء هذه الانتخابات تكون بذلك هي دولة الربيع العربي الأكثر نجاحا في التحول الديمقراطي بالرغم من محاولات الإفشال المتعمدة التي واجهتها ثورتها.
وسواء كان مصدر محاولات الإفشال تلك من خلال تطلع أحزاب الترويكا الحاكمة إلى الاستئثار بالسلطة قبل تنازلها عنها لصالح حكومة توافق وطني مطلع العام الجاري، أو محاولة المعارضة اليسارية عبر العديد من الاعتصامات والإضرابات إلغاء كل ما تمخض عن الانتخابات التأسيسية من مؤسسات؛ البرلمان أو الرئاسة أو الحكومة وصولا للتصديق على الدستور، وهي المعارضة التي لم يحركها مشروع سياسي واضح بإمكانه ملء الفراغ الذي يمكن أن يحدثه انسحاب الإسلاميين- الأكثر تنظيما- من المشهد السياسي، ونهاية بمحاولات أذناب نظام الرئيس المخلوع بن علي العودة للحياة السياسية وتصدر مشهدها عبر مجموعة من الإعلاميين أو الحزبيين أو رجال الأعمال.
وبالرغم من ذلك يحسب للقوى السياسية جميعها من إسلاميين ويساريين وليبراليين حفاظهم على شعرة معاوية في إدارة صراعهم السياسي وحصره في نطاق المنافسة السياسية على اعتبار أن أيا من تلك الأطراف ليس بإمكانه إقصاء الآخر، الأمر الذي ضمنت بمقتضاه تلك القوى حياد المؤسسة العسكرية وابتعادها كلية عن المشهد السياسي التونسي، وهو ما حفظ المسار الثوري نحو بناء الديمقراطية من عواقب وخيمة حال النكوص عن نتائج الثورة التونسية، خاصة إذا تقاطع ذلك النكوص مع الوضع الأمني والاقتصادي الذي لايزال يعاني من حالة عدم استقرار منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وتأتي أهمية الانتخابات البرلمانية بالتحديد في كونها تمنح البرلمان- ووفقا للدستور المصدق عليه في 26 يناير 2014- سلطات كبيرة في مواجهة رئيس الدولة، وقد بدأت الحملة الانتخابية بتنافس حوالى 1327 قائمة حزبية داخل وخارج تونس، كما تم تقسيم تونس إلى حوالى 33 دائرة انتخابية 27 دائرة بالداخل و6 دوائر بالخارج وذلك لشغل 217 مقعدا برلمانيا، ويبلغ عدد التونسيين المسجلين في كشوف الاقتراع حوالى خمسة مليون و236 ألف شخص.
مجمل الصراع بين القوى السياسية في تونس خلال الحملة الانتخابية التي بدأت في الرابع من أكتوبر الجاري ومدتها 22 يوما ينحصر بين حزب النهضة الإسلامي الذي حصل في الانتخابات التأسيسية على 40% من الأصوات، وشارك بمقتضاها في ترويكا حاكمة ضمته وحزبا التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والمؤتمر من أجل الجمهورية وهي الترويكا التي تولت الحكم خلال السنوات الثلاث الماضية وبين حزب نداء تونس العلماني الذي يترأسه الباجي قائد السبسي.
القوى السياسية المتنافسة في السباق الانتخابي:
• تأتى حركة النهضة وحزبها السياسي في صدارة القوى التي ستخوض الانتخابات التشريعية الجديدة، وتتسم حركة النهضة وحزبها بقدر من المرونة السياسية.
فمع مطلع العام الجاري وعلى إثر أزمة سياسية طاحنة بين الترويكا الحاكمة وبين المعارضة وفي أعقاب سلسلة من الاغتيالات لرموز من القوى السياسية المعارضة على يد إسلاميين متشددين، وفي ضوء الاحتجاجات التي شهدها الشارع التونسي اضطر حزب النهضة الضلع الرئيسي في الترويكا الحاكمة إلى الرضوخ لمطالب المعارضة بتشكيل حكومة غير حزبية.
وقد اتفق على أن تكون أهم مهام هذه الحكومة الإشراف على الاستحقاقات الانتخابية الأهم في مسار تلك المرحلة ووضع خارطة طريق لاستكمال ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وبمقتضى التوافق السياسي الذي تمخضت عنه خارطة الطريق قدم الائتلاف الثلاثي الحاكم استقالته لصالح تشكيل حكومة توافق وطني.
وقد حافظت حركة النهضة بهذه الخطوة على وجودها السياسي وتجنيب الدولة التونسية حالة الفوضى التي عانت منها بعض دول الربيع العربي ذات التجارب المماثلة.
ويمتاز حزب النهضة بكونه الحزب الأكثر تنظيما في تونس في الوقت الذي تعاني فيه المعارضة وأحزابها من تشرذم أو من عدم وجود صدى لها في الشارع التونسي، ويرفع حزب النهضة خلال حملته الانتخابية شعار إمكانية التوافق السياسي مع أي من القوى السياسية إذا حتمت نتائج الانتخابات التشريعية ذلك.
• في المقابل توجد الأحزاب العلمانية ويأتي في مقدمة تلك الأحزاب حزب نداء تونس الذي تم تأسيسه في عام 2012 بزعامة قائد السبسي، والذي ترأس أول حكومة انتقالية بعد نجاح الثورة مباشرة، واكتسب الحزب أرضية شعبية جديدة بصورة تجعله موازنا للقاعدة الشعبية التي يتمتع بها حزب النهضة.
• حزب الجبهة الشعبية وهو من الأحزاب العلمانية التي بإمكانها الحصول على أصوات مؤثرة على خلفية نتائجه في الانتخابات التأسيسية السابقة، وتضم الجبهة عشرة أحزاب إلى جانب عدد من السياسيين المستقلين غير الحزبيين.
• توجد أيضا الأحزاب التي اشتركت مع حزب النهضة في الائتلاف الحاكم الذي تكون بناء على نتائج انتخابات اكتوبر 2011، وهما حزب التكتل من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
وقد عانى الحزبان من فقدان قواعدهما الشعبية تحت وطأة المشكلات السياسية والاقتصادية التي زخرت بها المرحلة الانتقالية، ولم يوضح الحزبان خريطة تحالفاتهما خلال المرحلة القادمة.
• كذلك يتواجد على مشهد التنافس الانتخابي مجموعة من كبار رجال الدولة من النظام القديم الذين لم يخوضوا انتخابات 2011 لاسيما أعضاء حزب التجمع الدستوري، مستغلين رصيدهم السياسي والمالي في تصدر قوائم عدة أحزاب أبرزها حزب المبادرة وحزب الحركة الدستورية وغيرها خلال الانتخابات التشريعية الجديدة.
ملامح المشهد الانتخابي في تونس:
المراقب للمشهد السياسي في تونس خلال الاستعداد للاستحقاق الانتخابي التشريعي بإمكانه أن يرصد ملاحظات عدة منها:
أولا، أنه وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبتها حركة النهضة وحزبها السياسي أثناء وجودها ضمن الترويكا الحاكمة قبل إنهاء هذا الائتلاف بمقتضى اتفاق بين حزب النهضة والمعارضة العلمانية قبيل المصادقة على الدستور الجديد مع مطلع 2014، إلا أنها لا تزال تشكل القوة الحزبية الأكثر تنظيما والأكثر حضورا في الشارع السياسي والاجتماعي التونسي، يوازنها إلى حد ما حزب نداء تونس الذي يشكل اصطفاف لعدد من القوى العلمانية.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حظوظ كلا الطرفين - النهضة ونداء تونس- تكاد تتقارب في النسب المتوقع حصولهما عليها في الانتخابات التشريعية المرتقبة بما يقدر بـ 30% من أصوات المقترعين.
في المقابل هناك من يرى أنه من المتوقع أن لا ينال حزب النهضة النسبة ذاتها التي حصل عليها في الانتخابات التأسيسية، بل قد تشهد هذه النسبة تراجعا ملحوظا في الانتخابات القادمة ويستند أصحاب هذا الرأي إلى عدة مبررات منها العثرات الأمنية والاقتصادية التي واجهت حكومة النهضة خلال السنوات الماضية وتداعياتها الاجتماعية، ناهيك عن ملف الإرهاب والمآخذ التي تم رصدها بشأن حالة التعاطف الأيديولوجي بين حزب النهضة والحركات الدينية المتطرفة.
وبالرغم من وجاهة تلك الآراء إلا أن ترجيح حصول النهضة على الأكثرية أو الأغلبية النسبية قد يكون هو الأكثر توقعا في ضوء عدة ملاحظات من أهمها أن النهج "المرن المعتدل" الذي أبدته الحركة والحزب تجاه العديد من الأزمات والتي بلغت أوجهها في مطالبة غيرها من القوى السياسية بفك الائتلاف الحاكم الذي يجمعها وحزب التكتل والمؤتمر كشريطة لاستكمال مسار الانتقال الديمقراطي كان هو النهج الذي أنقذ تونس من أزمة سياسية حادة كادت أن تعصف بالتجربة الانتقالية ككل، وبالفعل تنازلت حركة النهضة عن شرعيتها التي نالتها في أعقاب انتخابات 2011 من أجل عودة حالة الوفاق السياسي مع غيرها من القوى السياسية؛ أي استبدلت الشرعية الانتخابية بالشرعية التوافقية على الرغم من معارضة قواعدها الشعبية لهذه الخطوة، ما يعني أن الحركة والحزب يتمتعان برؤية سياسية واقعية مكنتهما من الخروج من الأزمات السياسية بأقل الخسائر الممكنة.
وما يزيد أيضا من حظوظ الحزب في الانتخابات القادمة استمرار حالة تشرذم المعارضة وغياب منطق التحالفات الحزبية الذي تفرضه ضرورات التنافس الحزبي، مما يقلل من حظوظ أحزاب المعارضة الصغيرة في مواجهة الأحزاب الكبرى، وتبدو خريطة المنافسة الحزبية بذلك محصورة بين ثلاثة أقطاب كبرى تحتكر المشهد السياسي الانتخابي وهي كما سبق القول حزب النهضة وحزب نداء تونس وحزب الجبهة الشعبية.
ثانيا، إعلان حركة النهضة وحزبها السياسي الاستعداد للتوافق مع القوى السياسية في حكومة ائتلافية إذا ما أسفرت نتائج الانتخابات التشريعية عن ذلك، مبررة هذا الموقف بأن الدولة في حاجة إلى استقرار حتى في مرحلة ما بعد الانتخابات لأن الديمقراطية الانتقالية الوليدة ستواجهها تحديات داخلية جسيمة أبرزها على الإطلاق التحديات الأمنية والاقتصادية، سواء كان هذا التوافق سيتم مع حزب نداء تونس أو حتى مع الأحزاب التي يتصدر قوائمها سياسيون عملوا إبان حكم بن علي.
وهو ما يؤكد ثانية حالة المرونة والواقعية التي تتسم بها حركة النهضة عن غيرها من الحركات المماثلة لها في الجوار العربي.
ثالثا: بروز حزب الرئيس المخلوع بن علي (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي) على مسرح العملية الانتخابية المرتقبة وتحت مسميات جديدة أثار جدلا واسعا داخل تونس؛ ففئة الشباب التي قامت بالثورة من أجل التغيير ترى أن الثورة قامت ضد بن علي ونظامه وفي القلب منه حزبه، أما السياسيين فيرون أن الديمقراطية في معناها الأدق لا تقصي أحدا لاسيما وأن منهج الإقصاء الذي عُمل به في انتخابات 2011 رفضته القوى السياسية وبالتحديد العلمانية منها على اعتبار أن خلو الساحة من السياسيين البارزين ساهم في حصول حزب النهضة على الأكثرية في الانتخابات السابقة، وتم وفقا لذلك إلغاء قانون العزل السياسي في إطار المصادقة على قانون الانتخابات والاستفتاء في تونس بموافقة 132 نائبا ورفض 11 وامتناع 9 عن التصويت.
كما أن حزب النهضة نفسه عارض مؤخرا فكرة إقصاء أيا من القوى السياسية على اختلاف مشاربها من العملية السياسية والتنافس الحزبي.
رابعا، انحصرت المناورات الانتخابية بين القوى السياسية الحزبية المتنافسة بالفعل بين ثلاث قوى يتوقع أن تحصل على نسب أصوات يعتد بها وهي حزب النهضة وحزب نداء تونس والجبهة الشعبية؛ بالنسبة لحزب النهضة حاول المناورة بشأن الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد التشريعية عبر تقديمه لمبادرة بشأن اختيار مرشح توافقي للرئاسة، إلا أن المبادرة تم رفضها من قبل باقي الأحزاب والنقابات العمالية كاتحاد الشغل ورفضت أيضا من جانب منظمات المجتمع المدني.
أما مناورات الحزب بشأن الانتخابات التشريعية فبدأت بمشكلة عدم وجود شخصيات حزبية على قوائمه الانتخابية في بعض المدن المؤثرة مثل صفاقس والمنستير وسيدى بوزيد ما دعا الحزب إلى البحث عن شخصيات مستقلة في تلك المدن تتمتع بجماهيرية وحضور لدى ساكنيها وإغرائها بتصدر القائمة الانتخابية في تلك المدن، وهو الأمر نفسه الذي عانى منه حزب نداء تونس الذي واجه المشكلة ذاتها في مدن أريانه وبن عروس والقيروان وبنزرت واتبع الحزب التكتيك نفسه الذي اتبعه حزب النهضة في علاج تلك المشكلة.
أما حزب الجبهة الشعبية فقد كان مختلفا فيما يتعلق بقوائمه الانتخابية وذلك عبر الرجوع لهياكله التنظيمية الداخلية فيما يعرف بالمجالس المحلية للحزب في المناطق المختلفة لاختيار رؤساء للقوائم الانتخابية، وقد وضعت الجبهة عدة شروط لذلك منها ضرورة أن يكون المترأس للقائمة الانتخابية ممن ينتمون بالفعل لأحد الأحزاب العشرة المنضوية تحت الجبهة أو من المستقلين الداخلين فيها.
خامسا، تشابه البرامج الانتخابية للقوى الحزبية المتنافسة إلى حد كبير؛ حيث يهيمن على تلك البرامج البعدين الاقتصادي والأمني بالإضافة إلى التصدي للإرهاب، كما أن هذه البرامج تعاني من القصور فيما يتعلق بإيجاد رؤية واقعية لحل مشكلات المواطنين في مجالات معالجة البطالة والصحة والنقل والتعليم وتنمية الأقاليم الأكثر فقرا ..إلخ، واقتصار تلك البرامج على رؤى "تنظيرية" فقط لما يجب أن يتم فعله متجاهلة في حلولها التنظيرية الواقع المؤلم للحالة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
ومن ثم فمن المتوقع أن يكون التصويت من جانب المقترعين تجاه أيا من الأحزاب في الانتخابات القادمة بناء على الارتباط الأيديولوجي أكثر من كونه قائم على الاقتناع ببرنامج الحزب.
سادسا، غياب التمثيل النسائي على رأس القوائم الانتخابية بالنسبة للأحزاب الثلاثة الكبرى المذكورة، بالرغم من أن القانون المنظم للانتخابات الذي أقره المجلس التأسيسي ينص على ضرورة أن تمثل النساء بالمناصفة مع الرجال في أي قائمة حزبية، إلا أن النص نفسه لم يشترط أن تمثل المرأة على رأس قائمة الحزب.
ومن ثم يمكن القول أن حالة "قبول الآخر" في سياق العملية السياسية في تونس والابتعاد عن النهج الإقصائى ساهم في مرحلة ما بعد الانتخابات التأسيسية 2011 في اجتياز تونس عثرات التحول الديمقراطي بنجاح، وسيساهم حال الارتكان إليه في أعقاب نتائج الانتخابات القادمة إلى ترسيخ الديمقراطية الجديدة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية في الجمهورية التونسية الثانية.