قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2013-10-13
13/10/2013 شهد العراق خلال الفترة الأخيرة موجات متصاعدة من العنف الذي حمل طابعا طائفيا بين السنة والشيعة في بلاد طالما عانت من نزاع دامي، اشتدت وتائره بين عامي 2006 و2008، وارتبطت معدلاته بعد ذلك بنمط العلاقات القائم بين القوى الحزبية والكتل السياسية.

وقد أفضى ذلك من جهة لعدم انقطاع عمليات القتل على "الهوية" و"الاسم"، وأفضى من جهة أخرى، إلى هجرة مئات الألوف من مناطق سكنهم إلى حيث يتمركز أبناء الطائفة والعرق.

وقد عادت مؤخرا إلى صدارة المشهد السياسي والأمني في العراق موجة جديدة من عمليات العنف، ارتبطت بتنظيمات مسلحة سنية وشيعية كانت قد غابت عن السمع منذ فترة، على رأسها يأتي تنظيم "دولة العراق الإسلامية"، والذي غير اسمه إلى تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

وقد شهدت أغلب المدن العراقية عمليات عنف متزايدة، خصوصا منذ أبريل الماضي.

وقد مزجت هذه الموجة بين سمات الموجات السابقة من حيث استهداف المدنين والعسكريين على السواء.

السمات الأساسية للعنف بالعراق اتسمت عمليات العنف الذي شهدته المدن العراقية خلال الشهور الأخيرة بعدد من السمات المتنوعة، سواء من حيث الكثافة أو طبيعة المناطق المستهدفة أو وسائل العنف المنتهجة، وذلك على النحو التالي: * وتيرة العمليات: تضاعفت أعداد القتلى في العراق خلال العام الحالي إلى أكثر من ضعفي أعدادهم في العام الماضي، فطبقا للأمم المتحدة، تشير الإحصاءات إلى أنه في الفترة ما بين أغسطس 2012 وأغسطس 2013 ارتفع عدد القتلى من نحو 3000 شخص إلى نحو 5000، بمعدل شهري تجاوز الآلف قتيل في شهر مايو ويوليو وما يقارب نفس المعدل بشهر سبتمبر، حيث بلغ عدد القتلى نحو 979 والمصابين زهاء 2133.

وهذا المعدل هو الأعلى منذ عام 2009. * المناطق المستهدفة: تمركزت عمليات العنف في المناطق ذات التمركز العالي لقوات الأمن مثل محافظة الموصل، والتي كانت دائما مركزا لحركات التمرد السنية.

كما تركزت العمليات في مناطق كانت "بوتقة الصهر الطائفي" كبغداد، وكذلك في مناطق تشكل خطوط "الصدع الطائفي" أو ما يسمى "مناطق خط الزناد" الذي يفصل بين إقليم شمال العراق وبقية محافظات العراق، خصوصا محافظة كركوك.

وتركزت في معظمها بالأماكن كثيفة التواجد البشري، حيث دور العبادة والمدارس ومراكز الشرطة ومقار العزاء ومواقف السيارات والمؤسسات القضائية في محافظات كالموصل والبصرة، وكذلك في آربيل، والتي شهدت العديد من العمليات التي استهدفت مبنى مديرية الأمن الكردي (الأسايش) وكذلك مقر وزارة الداخلية.

وقد كانت مدينة بغداد الأكثر تضررا، إذ شهدت خلال سبتمبر الماضي وحده مقتل نحو 418 وإصابة 1011.

تلتها محافظة نينوى وصلاح الدين والأنبار. * وسائل العنف: تنوعت وسائل العنف المستخدمة من قبل المجموعات المسلحة وبعض التنظيمات الإرهابية، التي تستهدف الاستقرار الهش بالعراق، فقد شهدت الشهور الخالية دوام استخدام العربات المفخخة، غير أن ذلك اتبع بتكتيكات أخرى، تمثلت في أن تكون هذه العربات محض بداية تستتبع بقذاف هاون، ثم إطلاق نار عشوائي. وقد استمر اللجوء للعبوات الناسفة والأسلحة الرشاشة ومسدسات مزودة بكاتم صوت، فيما تمثل التحول الرئيسي في زيادة أنماط العمليات الخاصة بخوض مواجهات سريعة مع قوات الأمن العراقية، ففد استطاع مسلحون الدخول إلى بعض مقرات الشرطة وقتل أفرادها من خلال ارتداء ذي الشرطة والشروع في مواجهات مباشرة مع العاملين بها.

وقد ارتبط تحول آخر في أنماط عمليات العنف في العراق باستهداف المروحيات العسكرية وتكرار محاولات إسقاطها، فخلال سبتمبر الماضي استطاع مسلحين إسقاط مروحية تابعة للجيش غرب مدينة بيجي بمحافظة صلاح الدين، مما أفضى إلى مقتل أربعة عناصر من قوات الجيش، يمثلون كامل طاقمها.

* أنماط العنف: حملت معظم عمليات العنف في العراق طابعا طائفيا، حيث تركزت العمليات على دور العبادة، فيما أطلق عليه "حرب المساجد" وانتشرت عمليات العنف الطائفي والعرقي.

وهذه العمليات تورط فيها العديد من التنظيمات المسلحة مثل تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، و"عصائب أهل الحق"، والتي تخوض بدورها ما يشبه "الحرب الباردة" مع جيش المهدي، حيث تجرى اشتباكات بين الطرفين بين فترة وأخرى. ورغم أن التيارين الأخيرين قريبين من طهران، غير أن التباينات الحادة قد برزت بين الطرفين بعد أن تبدل خطاب مقتدى الصدر ليدافع عن أهل السنة وتظاهراتهم، فيما بقيت "العصائب" ترفع شعارات الدفاع عن الشيعة، وذلك منذ أن انشقت عن التيار الصدري وبدأت العمل المسلح، بعد قرار حل مليشيات جيش المهدي عام 2007، لتتكون بقيادة قيس الخزعلي وبدعم من إيران.

وتتهم "العصائب" بتنفيذ عمليات قتل بحق السنة في الأنبار غرب البلاد وفي بغداد والمحافظات الجنوبية.

أسباب تصاعد عمليات العنف تتعدد أسباب تصاعد معدلات العنف في العراق، فثمة أسباب تتعلق بطبيعة السياق العراقي، من حيث الوضع السياسي والاقتصادي، وهياكل المؤسسات والأجهزة الأمنية والمعلوماتية، وكذلك التأثيرات السلبية للتطورات المتلاحقة التي تشهدها الساحات المجاورة خصوصا السورية منها: * هشاشة الوضع السياسي: يعاني العراق حالة من الجمود السياسي المستحكم، وذلك بسبب استمرار الخلافات بين الكتل السياسية المركزية، وعدم القدرة على التوصل إلى حلول ناجزة للقضايا الخلافية الخاصة بالمناطق المتنازع عليها أو فيما يخص موارد النفط فضلا عن عشرات القوانين المعطلة، ويأتي على رأسها قانون الانتخابات الجديد، والذي بدونه لن تجرى الانتخابات المقبلة سواء كانت برلمانية أو بلدية.

ويعاني العراق من شبه توقف للنشاط الحكومي بسبب الخلافات المستمرة بين الكتل السياسية، ومن جراء قيام المالكي بتعزيز سلطاته من خلال سيطرته شبه الكاملة على الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة.

يضاف إلى ذلك التأثيرات السلبية لاستمرار لجوء المالكي لتكتيكات الإقصاء والتهميش حيال خصومه السياسيين، هذا في وقت يتنامى فيه الشعور لدى السنة بحرمانهم من حقوقهم الأساسية، سواء تعلقت بالوظائف أو الخدمات أو مستويات المعيشة أو الحقوق السياسية.

وقد ساهم كل ما سبق في اتساع نطاق العنف الطائفي في العراق، والذي يعد سبب ونتيجة في آن واحد لحالة عدم الاستقرار بالعراق.

* التوتر مع إقليم شمال العراق: يمثل الصراع بين الحكومة المركزية وحكومة شمال العراق، صراعا مركزيا، تحول إلى صراع أمني مرتفع الحدة في أواخر العام 2012 وأوائل العام 2013، بسبب حدوث مواجهة بين قوات البشمركة الكردية والقوات العراقية، وذلك بعد قيام القيادات الكردية بنقل جنودها إلى جنوبي آربيل حيث المناطق المتنازع عليها في كركوك وما حولها.

ويشير المسئولون الأكراد إلى أنهم ملزمون بفرض الأمن في المنطقة التي يشوبها العنف المتزايد بين قوات الأمن والمحتجين السنة، والتي خلفت مئات من القتلى العراقيين، فيما يتخوف المسئولون الحكوميون في بغداد من دوافع الأكراد، ويتهمونهم باستغلال عدم الاستقرار في العراق بهدف الاستيلاء على كركوك الغنية بموارد النفط.

وأدى هذا الوضع المتوتر والمضطرب لاشتعال عمليات العنف في أغلب المدن الكردية. * الانقسام الطائفي والعرقي: المشهد العراقي منقسم انقساما عميقا على أساس الخطوط الطائفية والعرقية، فرغم مرور عشر سنوات على إسقاط نظام صدام حسين (2003-2013)، غير أن الحكومة العراقية بقيادة المالكي الموجود بالسلطة منذ 2006، مازالت غارقة في أزمة كيفية تقاسم السلطة بين الشيعة والسنة والأكراد، ومع تفاقم هذه الأزمة تتصاعد وتيرة عمليات العنف، مما أفضى إلى عودة ظاهرة الجثث المجهولة والاغتيالات الغامضة والتي تحدث في توقيتات متقاربة نسبيا، كما عادت ظاهرة القاتل المأجور والمجهول.

هذا بالإضافة إلى تنامي التوجه لاستهداف المنشآت التي يصعب توفير الحماية لها كالمدارس والتجمعات السكنية والمساجد والحسينيات. * السخط المجتمعي: يتنامى السخط المجتمعي بسبب ما يعانيه العراق من مشكلات عديدة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.

فعلى المستوى السياسي، لا يعد العراق بعد بلدًا ديمقراطيًا، وإنما محض بلد لديه مشروع ديمقراطي يواجه تحديات محلية وإقليمية، ويعاني من نظام سلطوي يوظف شعارات براقة حول الديمقراطية والحرية والعدالة.

ورغم هذا فإن العراق يمثل أحد أكثر الأنظمة فسادا على المستوى الدولي، كما يعاني من ظاهرة قريبة من ظاهرة حكم الحزب الواحد، حيث حزب الدعوة (الديني)، الذي يشبهه الكثير من العراقيين بحزب "البعث" (القومي).

وعلى جانب آخر فإن تنامي رفض سياسات الحكومة والتذمر من تدهور مستوى البنية التحتية والأحوال الاقتصادية جعل البيئة القاعدية المتعلقة بالأمن والسياسة في المجتمع تسمح بتنامي ظواهر العنف والقتل على الهوية، خصوصا أن حدوث اختلال في النظام الديمقراطي يفتح الباب أمام الاعتداء على النظام تدريجيا.

ويؤدي ذلك إلى مستوى عالي من العنف، وذلك وفق ما يعرف بنظرية "النوافذ المكسورة"، والتي تتعلق بالعنف الجنائي، ومفادها أن ضعف النظام السياسي يفضى إلى سلسلة متصاعدة ومتوالية من عمليات العنف.

يضاف ذلك إلى ما يشكله ارتفاع نسبة الفقر والبطالة، وانخفاض مستوى النمو الصناعي، وسوء توزيع عائدات النفط على المحافظات المختلفة، من عوامل حاكمة لتنامي ظاهرة العنف. * اختراق الأجهزة الأمنية: فشلت الأجهزة الأمنية العراقية في كسب ثقة المواطنين بسبب تسييسها والعمل لصالح أحزاب سياسية وليس لصالح الدولة، هذا إضافة إلى تفشي النزعة الطائفية والعرقية داخل وحداتها، فضلا عما تعانيه من فساد أفضي إلى تضاعف عمليات العنف رغم ما ينفق على هذه القوات من أموال سنويا.

فقد كشفت عناصر من جيش المهدي مؤخرا النقاب عن متهم ألقى القبض عليه واعترف بتفجير مجلس عزاء في مدينة الصدر أسفر عن مقتل نحو 70 معزيا وجرح مئات آخرين، وذلك بعد أن ساعده أحد عناصر قوات الأمن العراقية، بما يكشف عن أدوار ضباط مندسين يسهلون عمليات مرور المتفجرات، وآخرين يقودونها بالتنسيق مع جنود يقدمون التسهيلات اللازمة لإيصالها إلى الأماكن المستهدفة.

وقد تم ضبط شبكة مكونة من عدد من الضباط في مديرية الجوازات تعمل على إصدار جوازات سفر رسمية لإرهابيين من جنسيات عربية مختلفة، بالاتفاق مع شبكات دولية لتجنيد مقاتلين وتسهيل عملية دخولهم إلى البلاد لتنفيذ عمليات إجرامية بحق الشعب العراقي.

وتم الكشف كذلك عن شخصيات سياسية في الحكومة توسطت لدى عدة جهات ومنها القضاء لإطلاق سراح إرهابيين، وعرضت أموالا لتغير التهمة من ممارسة إرهاب إلى مخالفات إدارية.

ويعد قانون الحاكم المدني الأمريكي للعراق رقم 91 لسنة 2003، أحد الأسباب الرئيسية لضعف أداء الأجهزة الأمنية، حيث سمح للمليشيات باختراق هذه الأجهزة، ذلك أن غالبية العناصر التي تم دمجها بوحدات الجيش تم تعيينهم كضباط برتب كبيرة، ويمتد هذا الأمر إلى وزارتي الداخلية والدفاع وأجهزة الاستخبارات وكافة الدوائر المعنية بجمع المعلومات.

* الثورة السورية: أدى تصاعد وتيرة الاحتراب الأهلي والصراعات العسكرية في سوريا أدوارا بارزة في تصاعد عمليات العنف حيث خلق هذا الوضع نوعا من السيولة الأمنية وأوجد بيئة تسمح بالحركة عبر الحدود لتنفيذ عمليات إرهابية على الجانبين.

وقد سمح هذا الوضع لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بشن عشرات العمليات الإرهابية على جانبي الحدود، وداخل الأراضي العراقية بدرجة لم تشهدها بغداد منذ سنوات.

ويعد إقدام بعض الشباب الشيعي على التوجه لسوريا للقتال إلى جانب النظام، في مواجهة السنة الذين يتوجهون لدعم المعارضة، أحد المحددات الحاكمة فيما تشهده الأراضي العراقية من عمليات عنف، حيث أن الكثير من هؤلاء يعودون للعراق للقيام بعمليات العنف. هذا بالإضافة إلى أن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) بات يفرض سيطرته النسبية على مناطق مختلفة في شمال وشرق سوريا وعلى الحدود، بما يسهل استهداف المنشآت والمواقع العراقية بعدما غدا يتواجد في أماكن حيوية حيث مناطق توافر الموارد النفطية والطرق الرئيسية.

وعلى جانب آخر، فإن قطاعات واسعة من الطائفة السنية باتت تشعر بالرغبة في التمرد على المعادلة السياسية القائمة بالعراق بسبب تنامي قوة المعارضة السورية (السنية)، وهو ما وفر الشعور بإمكانية الاندفاع ثانية ضد المالكي والحكومة التي يهيمن عليها الشيعة.

مسارات العنف في العراق من المرجح أن تتجه معدلات العنف في العراق إلى التصاعد في ظل عجز الإدارة العراقية عن التعامل بحسم مع القضايا المركزية التي تقف وراء تنامي ظاهرة العنف في مختلف المحافظات العراقية.

فرغم الانتقادات العديدة التي تعرضت لها هذه الإدارة بسبب فشل الأجهزة الأمنية في تحقيق الأمن والاستقرار، إلا أنها وبدلا من الاتجاه لتغير التكتيكات الخاصة بالتعامل مع هذا الملف من خلال استغلال إمكانيات البلد الهائلة في العمل على الوحدة الطائفية والعرقية وتوظيف الثروات النفطية لتحقيق التنمية الاقتصادية الفعالة، فإنها لجأت إلى مضاعفة رواتب العناصر الأمنية في سبع محافظات وصفتها بـ"الساخنة" بنسبة خمسين بالمائة، وكان منها العاصمة بغداد.

هذا فيما لجأت محافظة كركوك إلى حفر خندق حول المدينة بطول 58 كلم (بعرض مترين وبعمق ثلاث أمتار) بتكلفة تقدر بنحو 2.8 مليون دولار وذلك بهدف منع التنظيمات الإرهابية من استهداف المنشآت العامة وأماكن تجمع المواطنين، وهو إجراء لن يكون من شأنه أن يحول دون تعرض المدينة لهجمات إرهابية في أي وقت وبأي مكان تختاره.

وقد يضاعف من مأزق الحكومة العراقية في هذا السياق توجه قطاعات عريضة من المواطنين، خصوصا من القطاعات السنية في العديد من المحافظات إلى الاحتجاج والتظاهر كتعبير عن الرغبة في تغير الحكومة.

غير أن الإشكالية الأساسية في العراق، تتمثل في حقيقة أن أي ثورة أو احتجاجات عارمة في بلد مثل العراق تكون غالبا طائفية نتيجة الانقسام المذهبي والعرقي، والثورة لا تتحقق إلا بعد نشوء وعي مجتمعي خارج شروط الطائفية.

وينعكس ذلك في أن كافة التظاهرات التي شهدتها المحافظات السنية على سبيل المثال قد تعرضت للهجوم وإلى اتهام القائمين عليها بممارسة الإرهاب.

وقد دفع ذلك الحكومة أكثر من مرة للجوء للعنف للقضاء على هذه الاحتجاجات، وهو محدد حاكم في سد كافة النوافذ المتاحة للتعبير عن معارضة الحكومة ورفض استمرارها، بما يشكل أحد الدوافع المركزية لممارسة العنف وانتهاجه كإستراتجية للتمرد والتغير.